دخل السودان التاريخ أول دولة أفريقية جنوب الصحراء تحصل على أستقلالها، وسيدخل تاريخ القارة أيضا أول دولة تمارس حق تقرير المصير وتهز من الأساس أحد ثوابت القارة الأفريقية التي عبرت عنها منظمة الوحدة الأفريقية السابقة الداعية الى الحفاظ على الحدود الأستعمارية الموروثة كي لا تفتح صندوق باندورا على مختلف دول القارة التي تعاني من التشققات الأثنية والقبلية والدينية.
لكن الأتحاد الأفريقي حل محل منظمة الوحدة برؤى وطموحات تسعى الى الأستجابة الى طموحات شعوب القارة ونبض العصر، وما مبدأ عدم الأعتراف بالأنظمة الأنقلابية الذي تسعى جاهدة الى تكريسه الا أحد مظاهر هذا التحول. ومن هنا تكتسب التجربة السودانية أهميتها انها تعلي من صوت الشعوب وتؤكد على الحقيقة البدهية انه لا يمكن فرض الوحدة بالقوة، وهي حقيقة لا ينبغي أن تغطي على الحقيقة الأعرض والأكبر انه لا يمكن حكم الشعوب بالقهر والقوة.
حالة التمايز الثقافي والديني والقبلي وسوء أدارة النخب السياسية السودانية لهذا التنوع مصحوبة بالتدخل الخارجي أوجد التربة الخصبة التي أدت في نهاية الأمر الى الأنفصال، وهو ما يستبطن درسين مهمين أن ما جرى لن يكون نهاية الأمر سواء في الشمال أو الجنوب، لأن المعضلة الأساسية تتمثل في الفشل في أستيعاب التنوع وأدارة الأختلافات، واذا أستمر هذا الفشل فأن الشمال مرشح الى انقسامات جديدة ابتداءا بدارفور التي يمكن أن تجد في حقيقة أنها آخر أقليم أنضم الى السودان في العام 1916 ما يمكن أن تستند عليه للمطالبة بحق تقرير المصير، ووصولا الى الجنوب وتكرار سيناريو الصراعات، ولو بصورة مختلفة، حول الأقليم الواحد والتقسيم التي وضعت الأساس لنقض أتفاقية أديس أبابا التي لا يتحمل وزرها الرئيس الأسبق جعفر النميري وحده، اذ عقد مؤتمرا صحافيا والى جانبه اللواء جوزيف لاقو قائلا نحن الذين عقدنا الأتفاقية ويمكننا تعديلها. ولم يعترض لاقو الذي أعمت بصيرته المكاسب والحلول السياسية القصيرة الأمد كحال رصفاءه الشماليين.
ولهذا فنظرية الحل بالبتر والتخلص من العناصر الغريبة كالشمال بأرثه الديني والثقافي حتى يمكن أقامة دولة علمانية ببعد أفريقي خالص كما يرى البعض في الجنوب، أو التخلص من البعد الأفريقي المسيحي والأرواحي كي يمكن تطبيق الشريعة في الشمال تعتبر نظرية قاصرة في نهجها وقصيرة الأمد في أمكانية بقاءها لأنها لا تستحضر دروس التجارب المعاشة التي لم تصمد رغم تطاول الأزمان.
أما الدرس الثاني فيتمثل في أن التطور الأنساني العام من خلال ثورة الأتصالات أوجد حالة من الوعي ورغبة في المشاركة للأفراد والمجموعات فيما يعتبر حقا أصيلا أفرز في نهاية الأمر قطاعا عريضا يماثل في تميزه ويضاف في ذات الوقت الى الأقليات العرقية والدينية الى جانب تشتتها في طول البلدان وعرضها، مما يجعل من الصعب اللجوء الى الحلول السهلة مثل بتر الأجزاء المثيرة للمتاعب، وهو ما يعيد الى مقدمة المشهد السياسي والأقتصادي والأجتماعي حقوق الشعوب في الحرية والأستماع الى صوتها، ولعل فيما يجري في تونس في الوقت الحالي خير دليل. فتونس تمتاز على غيرها بتحقيقها معدلات عالية للتنمية الأجتماعية خاصة فيما يتعلق بمكافحة الفقر وحقوق النساء وتحسن مستوى التعليم والصحة رغم انها ليست دولة بترولية ولا تتمتع بموارد عالية، لكن وجود طبقة وسطى هي الأكبر بين الدول العربية أسهم في تركيز الأنتباه على قضية الحريات وحق المشاركة الشعبية.
لكن من خطل الرأي انتظار الحكومات لتمنح الحريات وتسمح بالمشاركة، فقوى المجتمع المدني من منظمات وخلافه تقع عليها مسؤولية مماثلة ان لم تكن أكبر سواء باستغلال ما هو متاح من هامش للحرية والعمل على توسيعه بأضطراد حتى يمكن تأطير وتقنين تلك الحرية والعمل على التأثير في قرارات السلطة الحاكمة. فذهنية أنتظار التحرك الحكومي أولا هي التي قعدت بالعمل الشعبي من أجل الوحدة الا بأستثناءات ضئيلة جاءت متأخرة ولم تتواصل، الأمر الذي فتح المجال واسعا أمام الحركة لأنفصالية لتصبح تيارا غلابا لا يمكن التصدي له لدرجة انه أصبح من الصعب وجود شخص في الجنوب يمكن أن يقول علانية انه سيصوت من أجل الوحدة.
الآن وقد أصبح الأنفصال حقيقة واقعة، فأنه من المهم الخروج من حالة الحزن السلبي والتعامل بشىء من الأيجابية وأدمان النظر الفاحص في كيفية تحويل ما جرى ويجري الى فرصة للبناء الوطني ببعد شعبي حر يخلف أرث الدولة التي أوجدها الأستعمار الأجنبي. ومن أولى المهام التي تعتبر فرض عين كيفية الحفاظ على السلام وأستدامته والبناء على القواسم المشتركة من خلال أفكار الترابط الأقتصادي والأجتماعي والثقافي بين الشمال والجنوب أبتداءا من ولايات التمازج العشر، التي تضم ثلث سكان السودان ومعظم ثرواته الطبيعية، وهي مهمة يمكن للتحركات الشعبية أن تسهم فيها بقدر وافر خاصة والمناخ السياسي قد تغير الى الأفضل أثر زيارة الرئيس عمر البشير الى جوبا الأسبوع الماضي والأعلان عن أجراء الأستفتاء في أجواء سلمية والأعتراف بالنتيجة، مضيفا أنه سيكون أول من يزور جوبا للأحتفال بالنتيجة وسيكون السودان أول من يعترف بالدولة الجديدة.
فريق المريخ ألتقط زمام المبادرة معلنا انه سيكون أول فريق رياضي يزور الجنوب للألتقاء بمشجعيه وتأكيد أرتباطه به، وهي خطوة يمكن أن تتكرر على مختلف المستويات. وحبذا لو رتب المريخ والهلال للعب مباراة في جوبا يخصص دخلها لصالح دعم الأنشطة الرياضية في الجنوب، كما يمكن أن تقوم حملة مماثلة من قبل الفنانين والموسيقيين وكذلك الصحافيين وغيرهم من أصحاب المهن.
مثل هذا الجهد يحتاج أن يكون في أتجاهين، أي الا يقتصر على مبادرات شعبية من الشمال فقط. والدعوة موجهة الى خريجي مدرسة لطفي في رفاعة من الجنوبيين أو أي جهة مماثلة لأخذ زمام المبادرة والتفكير في خطوة ما من باب الذكريات الطيبة التي يحملونها عن فترة دراستهم تلك في رفاعة خدمة للهدف الأكبر وتوطيد العلاقات بين الشعبين حتى في حال الأنفصال.
Alsir Sidahmed [asidahmed@hotmail.com]