خواطر حول محاكمة الرئيس المخلوع
لم أشأ أن أتعرض لما أظهرته محكمة الرئيس المخلوع مما يدعو للمؤاخذة القانونية حرصاً منى على عدم التأثير على العدالة، رغم أنني مقتنع تماماً أن تأثر نظامنا القضائي بما ينشر في الصحف عن المحاكمات غير وارد، لأن المحاكمة تتم أمام قاضي مهني يعرف تماماً ما يجب عليه أن يقيم عليه قناعت، عكس الأنظمة التي تعتمد على نظام المحلفين حيث يمكن ان يتأثر المحلفون، بسبب أنهم من الأشخاص العاديين، بما يتم نشره في الصحف من آراء تتعلق بجرم أو براءة المتهم الذي تتم محاكمته أمامهم.
محاكمة بالغة الأهمية
رغم ذلك فإنني إمتنعت تماماً وما زلت عن التعليق على ما إذا كانت البينات المقدمة من شأنها إثبات إرتكاب المتهم للجرائم التي توجهها له لائحة الإتهام، ولكنني أريد اليوم أن أعلق على المحاكمة من الناحية السياسية نسبة لأن الكثيرين قد إنتقدوا موضوع تلك المحاكمة والمتعلقة بفساد مالي، لإعتقادهم بعدم أهمية تلك المحاكمة و أن الأجدر بأن تبدأ محاسبة المخلوع عن ما قام به من جرائم أكثر خطورة بشكل واضح كالإبادة الجماعية وقتل المتظاهرين.
واقع الأمر أنني أعتقد أن المحاكمة الجارية الآن بالغة الأهمية من الناحية السياسية. لقد أثبتت هذه المحاكمة، بما لا يدع مجالا لشك معقول، فساد النظام البائد وبعده عن الحكم الراشد. فأول ما ظهر من تلك المحاكمة هو ان البشير لم يكن يخضع لأي مراجعة فيما يتخذه من قرارات، ولا يشعر بأنه خاضع لأي شكل من أشكال المحاسبة. فالرجل، كما يظهر من أقواله نفسها، يقبل أموالاً تبلغ ملايين الدولارات من رئيس لدولة اجنبية، دون أن يشعر بأنه محتاج لأن يخطر أحد بما اخذ.
مسألة تقع ضمن مركز إهتمامات الدولة
مسألة إستلام أموال بواسطة رئيس الدولة من رئيس لدولة اجنبية، بغض النظر عن ما إذا كانت مسألة تستدعي مؤاخذة قانونية أم لا تستدعي ذلك، هي مسألة تقع ضمن مركز إهتمامات الدولة. فمن جهة هي مسألة تتعلق بالسياسة الخارجية للدولة، حيث أن هذا الفعل، مع إفتراض براءة المقصد، يشكل جزء من علاقة بين الدولتين. وهذا يلزم الرئيس بإخطار المؤسسة المعنية بإدارة سياسة الدولة الخارجية، ليس فقط لتقديم النصح له بشأن قبول أو رفض الهدية وفقا لما تمليه سياسة الدولة الخارجية، بل أيضا ما تقضي به الأعراف الدبلوماسية من تصرف في هذا الصدد. كما وأن مسألة العلاقات مع دول خارجية هي مسألة لها نتائج تتصل بأمن الدولة مما يلزمه بإخطار المؤسسة الأمنية، لمعرفة المقصود من هذه الهدية، وما يمكن أن تنتجه من آثار سلبية كانت أم إيجابية على أمن البلاد.
التحرر من القواعد التي تحكم الإنفاق الحكومي
"من الأوهام الشعبية السائدة الإعتقاد بأن الحكومة تهدر مبالغ هائلة من المال بسبب عدم الكفاءة والكسل. هناك حاجة إلى بذل جهد هائل وتخطيط تفصيلي لإهدار هذا القدر الكبير من المال" P.J. O'Rourke في "برلمان العاهرات: شخص فكاهي وحيد يحاول شرح الحكومة الأمريكية بأكملها"
من جهة ثالثة فإن موارد الدولة هي مسألة تتعلق بأساس تكوين الدولة نفسها، ونعني بالدولة الأجهزة التي تمارس السيادة على الشعب والأقليم، وحتى تتمكن هذه الأجهزة من ممارسة السلطات لها، وافق الشعب على التنازل عن بعض من حرياته.
ممارسة السلطات تحتاج للمال، وهذا المال تحصل عليه السلطات من الشعب، في شكل ضرائب مختلفة. وقد إنتزع الشعب الحق في إنتخاب ممثلين يمارسون الرقابة على الحكومة عن طريق إصرارهم على أن الضرائب لا تكتسب شرعية إلا عن طريق سنها بواسطة ممثلو الشعب. No taxation without represntation
الإنفاق الحكومي تحكمه عدد من المبادئ لا يجوز التغاضي عنها أولها حق البرلمان في أن يعرف موراد الدولة. وثانيها حق البرلمان في أن يقرر أوجه صرف هذه المبالغ.
أن يستلم رئيس الجمهورية مبالغ من المال دون أن يعلم بها ممثلو الشعب، ويقرر هو لنفسه أوجه صرفها لا يخل فقط بسلطات البرلمان في تحديد اوجه الإنفاق الحكومي بل يخل بأساس علاقة الحكومة بالبرلمان. الحكومة يجب أن تحكم البلاد وفق سياسة عامة معروفة للشعب ومقبولة منه. السياسة الحكومية تتمثل في نهاية الأمر في أوجه إستخدامها لموارد الدولة، بالنسبة لأن الدولة في نهاية الأمر هي التي تقدم الخدمات الرئيسية للمواطنين إما مباشرة، أو عن طريق ما تقدمه من دعم لمقدمي الخدمات. بالخدمات نعني الصحة والتعليم والمواصلات والأمن وسائر الخدمات المرتبطة بما يحتاجه الشعب. الياسة الحكومية هي السياسة التي تحدد خطط الإنفاق الحكومي ورقابة البرلمان عليها تتمثل في إجازته أو رفضه لأوجه الصرف المحددة في الميزانية، ومراقبته لتنفيذها في سائر اوجه الإنفاق الحكومي.
أضف لذلك أن عملية الإنفاق الحكومي لها إتصال وثيق بالحريات العامة وعلى الأخص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية فرغم أن تلك الحقوق هي حقوق يتم الحصول عليها وفق توفر الإمكانيات إلا أن الدولة ملزمة بالعمل على توفير الموارد اللازمة لذلك وفق ما يتوفر لها من موارد
أليس أحد أركان الحكم الراشد أن يتم توزيع أموال الدولة وفقاً لقرار يخضع للمحاسبة؟ ألا يستدعي ذلك في المقام الأول أن يعرف الشعب موارد الدولة بشكل دقيق كما ويتطلب أن يعرف طريقة توزيع تلك الموارد وهذا جزء هام من أساسيات مبدأ خضوع الحكام للمحاسبة. من الجهة الثانية فإن توزيع الأعباء بين الحكام يقتضي أن يقرر المختصون بإدارة المسائل المالية في الدولة درجة الإتفاق الحكومي وطريقة توجيهه لتحقيق التنمية الإقتصادية والإيفاء بإلتزامات الدولة تجاه الحقوق الإقتصادية والإجتماعية لشعبها وكل هذا يجب أن يخضع في النهاية لرقابة الشعب عن طريق ممثليه في البرلمان.
أما ان تزيد موارد الدولة وفقا لقرار الرئيس بقبول هدايا دون علم الشعب ولا الأجهزة الحكومية المختصة أصلاً بحفظ تلك المبالغ المالية، والإنفاق منها بدخولها ضمن موارد الدولة، دعك عن طريقة توزيعها على بنود الإنفاق الحكومي المقرر، ألا يعني ذلك الإخلال بأسس تحديد الإنفاق الحكومي؟ تسديد أموال حكومية من شخص غير مختص بتحديد توزيع الموارد الحكومية لجهات حتى ولو كانت عامة حسب هواه ألا يعني ذلك تجسيداً لمقولة ما لا يملك أعطى من لا يستحق؟ أليس في ذلك إهدار للموارد العامة.
الحق في التبرع
"لا يمكنني أن أتعهد بأن أضع إصبعي على تلك المادة من الدستور التي منحت الكونجرس الحق في الإنفاق على عمل الخير، من أموال ناخبيهم".- جيمس ماديسون
الثابت هو أن الأغراض التي تم الإتفاق عليها من اموال الشعب لم تكن جزء من اوجه الصرف التي أجازها نواب الشعب، هذا إذا كنا قد صدقنا أحبولة النظام فتعاملنا مع مجلسه الوطني بإعتباره يتكون من نواب الشعب. ولكن المسألة هي أن تلك الأحبولة لم يصدقها رئيس النظام نفسه فمضى يقرر هو لنفسه الحق في التبرع فقرر أن يتبرع لعبد الحي بمبلغ من المال يخص الشعب دون أن يسأل نفسه تحت أي بند من بنود الصرف التي أجازها برلمانه يقع المدعو عبدالحي هذا؟ وهل الشعب الذي يفتقد كل شئ من طعام لكساء لمأوى يرى ما يبرر التبرع لها لهذا العبدالحي؟
ما نحن بصدده الآن ليس محاسبة قانونية للرئيس، بل هي مجرد نظرة للطريقة التي كان يتعامل بها الرئيس مع الدولة بإعتبارها جزء من إقطاعية تخضع لقراره وإرادته بشكل كامل. ألا يعني ذلك فوضى كاملة في طريقة إتخاذ القرار؟ هل علمتم الآن لماذا وصلنا لما وصلنا إليه؟
نبيل أديب عبدالله
المحامي
nabiladib@hotmail.com