خواطر سودانية (15) ….بقلم: أحمد جبريل علي مرعي

 


 

 

Gibriel47@hotmail.com

 

(البتسوي بإيدك يغلب أجاويدك )

 

كثر الحديث واللغط هذه الأيام عن تكثيف الجهود وتركيز الإعلام الرسمي وكل الفضائيات التابعة للحكومة وغيرها من الفضائيات على قضية وحدة السودان وجعلها الخيار "الجاذب " وليس بيننا وبين الاستفتاء أقل من ستة أشهر.

 

يعجب المرء من قوم هم السبب في كل هذا.  ويأتون بعد ذلك ويطلبون من الشعب السوداني المساندة والمؤازرة،  ويسخرون كل أجهزة الدولة وأجهزتهم الرسمية والشعبية للمناداة بوحدة السودان. أين كنا أيام  مؤتمر جوبا  عام 1946، وأيام فظائع توريت عام 1953،  وأيام الأنانا 1 والأنانا 2، وحتى تمرد قرنق  عام 1983؟

 

وأين كنتم يا قادتنا الحاليين خلال خمسة عشر (15) عاما من القتال الشرس في أحراش الجنوب؟ الم تواكبوا تلك الأحداث المأسوية في حينها؟  وأين كنتم  أيام توقيع اتفاقية (الخزي الشامل)؟ ألم تكونوا شهودا عليها ووقعتموها بوعيكم الكامل!!!

 

يعجب المرء عندما يرى النائب على عثمان وقد رفع عقيرته بكلمات عن (الكرم) و(القدح الكبير) وأن (الانفصال خيار البخيل) و(القرش الفي جيب أخوي في جيبي). وقد صدق في هذه  الأخيرة.  فلم تبقون لإخوانكم ولا لأحد غيرهم قرشا في جيبه!!!

 

أتقول هذا يا نائبنا وأنت مهندس الاتفاقية مع الراحل قرنق؟ ألم تكن تعلم أن الاتفاقية ستؤدي إلى انفصال الجنوب أم كانت الرؤية حينها ضبابية؟ أم أنه الأمل الكاذب؟  فلماذا لم يفطن المؤتمر الوطني  لمآلات الاتفاقية إلا أخيرا!!!  ولماذا لا يستخدم المؤتمر الوطني الآن ذكاءه  الجماعي الخبيث – بعدما أبعدتم كبيركم الذي علمكم السحر ومهندس الخطط الشيطانية!!!

 

لا أصدق أنكم غفلتم عن ذلك. أهذه السياسة والكياسة؟ أين وزارة الخارجية التي من مهامها الرئيسة في كل الدول - ودول العالم الثالث على وجه الخصوص - أن توقف نزيف الحروب في كل أركان البلاد بإتباع سياسة الجوار الآمن!!! لكن يبدو أن وزارة الخارجية في حكومات العسكر في السودان كانت دائما عبارة عن (تمومة جرتق) فقط!!!

 

السودان كبلد من أكثر الدول حاجة لوزارة خارجية معتبرة يكون على رأسها شخص كيس فطن (وليس كيس قطن). تحيط بنا تسع دول أفريقية معظمها دول متخلفة إذا هدأت إحداها انتفضت الأخرى وارتكبت من الحماقات ما يلجئ مواطنيها إلى عبور حدودنا.

 

وعادة ما يبدأ العسكر بالنفير والقعقعة ويتدفقون عجالى كالسيل المنحدر على مراميهم وأهدافهم العسكرية دون تأن وتعقل وحكمة.  وبعدما يهلكون الحرث والنسل يعودون، وقد عجزوا عن تحقيق الهدف، فيشيرون إلى وزارة الخارجية بإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

 

حدث هذا في حرب الخليج أيام صدام حسين – رحمه الله رحمة واسعة - الذي واليناه موالاة لا قبل لنا بها – وكأننا الدولة الأكثر عروبة من الأعراب أنفسهم - وكانت الجبهة الإسلامية حينها في أولى أيام توليها السلطة بانقلاب 30 يونيو. وكان السودان في أضعف أيامه بعدما ورث خزانة خاوية منذ عهد مايو التعيس مرورا بفترة الثلاث سنوات التي حكم فيها ائتلاف حزبي الأمة والاتحادي  (خيال المآتة) أو المرفعينين (الضبلان والهازل).

 

 فقد ملأت حكومتنا الدنيا زعيقا ونعيقا وهتافات جوفاء (يا صدام من الخفجي للدمام) (ويهود يهود آل سعود) وسلطت لسانها الفصيح (يونس) الذي اكسبنا أعداء – كنا في غنى عنهم - أكثر مما جلب لنا من أصدقاء. وعندما انقشعت الأحداث كان وزير خارجيتنا الغر يسعى بخفين باليين حفيا من كثرة المشاوير المكوكية بين السعودية والكويت ومصر مريقا الكثير من ماء وجهه وماء وجه السودان!!!

 

وبرغم ذلك نجح وزير خارجيتنا  في مسعاه -بعد حصار على السودان دام أكثر من عشر سنوات  -وفي تفكيك أصابع الحصار. ويبدو أن نجاحه قد زاده ثقة أكثر مما ينبغي. فقد رأيناه لاحقا يهرول مسرعا لحل مشكلة لبنان. رحم الله إمرء ا عرف قدر نفسه!!!!

 

 ويعجب المرء عندما يسمع بإغلاق حدود السودان الغربية مع ليبيا لسلامة المواطنين!!! أي سلامة تقصدون؟ وهل إغلاق الحدود في وجه خليل إبراهيم سيمنعه من دخول السودان؟ّّ!!! يا للعجب!!! لقد سبق أن رأينا خليل إبراهيم – ربيبكم - يزور الخرطوم عيانا بيانا وفي وضح النهار!!! فماذا فعل جيشنا لوقف مسيرة خليل إبراهيم الطويلة من تشاد إلى داخل العاصمة السودانية؟!!!

 

وفي أعقاب زيارة خليل إبراهيم لم يجد وزير دفاعنا الهمام كلمة يقولها إلا أن معدات خليل الحربية أحدث من معداتهم!!! أتقول هذا  يا وزير دفاعنا  الإسلامي وأنت الذي بدأت بقصف قرى دارفور الآمنة بالطائرات ولم تخش الله فيهم. وأنت تعلم تماما أن دارفور هي المديرية الوحيدة في السودان المسلمة كاملا، وبرغم ذلك انتهجت سياسة (ما عاوزين أسير) !!!

 

رغم ذلك ظل وزير دفاعنا في منصبة وكأن شيئا لم يكن. ولا يزال يطالعنا صباح مساء بعنتريات عجيبة وخارقة. وسيتوجه بالجيش السوداني في القريب العاجل إلى دارفور للتصدي لخليل إبراهيم ليرد له زيارته  للخرطوم! و أظنه غفل عن معدات خليل الحربية الحديثة!

 

إنه لشيء مخجل!!! والعجيب أن خليل إبراهيم خرج بعد ذلك من العاصمة السودانية كالشعرة من العجين!!! فأين الأمن القومي والاستخبارات والقوات المسلحة وغيرها من القوات النظامية وشبه النظامية وكل تلك الجيوش الجرارة المسخرة لحفظ سلامة وأمن النظام؟!!!

 

يجب علينا أن نستفيد من دروس دول لها تجارب في هذا المجال. ونتساءل هل أفلحت أمريكا في إغلاق حدودها مع المكسيك طول عقود من الزمان رغم إمكاناتها الضخمة التي لا تقارن بإمكاناتنا المتواضعة؟ وهل أفلحت السعودية برغم كل إمكاناتها الاقتصادية الضخمة في إغلاق حدودها مع جيرانها؟؟؟ ما لكم كيف تحكمون!!!

 

وقديما قيل (البتسوي بأيدك يغلب أجاويدك) أي ما تفعله بحر إرادتك يعجز حتى الأجاويد الذي يتوسطون لحل النزاع.  فقد انطبق هذا المثل على المؤتمر الوطني الذي مهر اتفاقية الخزي الشامل ثم عاد إليه الفكر أخيرا. فهو يريد الآن أن يحول الجنوبيين – بقدرة قادر - للتصويت للوحدة (الجاذبة)!!!

 

ولا نستغرب شيئا فالمؤتمر الوطني له من الحيل والألاعيب ما يمكنه من إنجاز المهمة بسهولة ويسر، لاسيما أن هذا المجال هو مجاله الذي برع فيه، ولاسيما أن الجنوبيين أكثرهم فاسدون.

 

ولكن برغم ذلك يحق لنا أن نقول (سبق السيف العذل). فالجنوبيون لا محالة منفصلون. فهم لا يملكون قرارهم. وما هم إلا صنائع استعمار. وسيذرفون الدمع غزيرا في مقبل الأيام بعد الانفصال، إذا اختاروا الانفصال. فغاية طموحات المجموعات المتعلمة من الجنوبيين أن يتسنموا مناصب رفيعة ويتشبهوا بالنصارى واليهود زيا وحديثا، ولا يرون ما وراء المناصب!!!!

 

كان قرنق قائدا وزعيما سودانيا أصيلا يعرف أهدافه ومقاصده تماما. فقد تبلورت رؤاه مع الزمن إلى مفهوم (السودان الجديد) الرائع ولم يقل أبدا بغير ذلك. كان ذلك سر نجاح قرنق وسبب تجمع الملايين للاستماع إليه في الساحة الخضراء.

 

لم يعان قرنق من عقد الجنوبيين الكثيرة. وكان قرنق وطنيا مخلصا. أما القادة الحاليون فحدث ولا حرج. أسمع جعجعة ولا أرى طحنا. وشتان بين العمالقة والأقزام!!!!

 

على كل حال هذه قضية خاسرة. وما عادت تهمنا كثيرا. فلو اختار الجنوبيون الوحدة فمرحبا (ببرود شديد) وإن اختاروا الانفصال فنحن سائرون في مسيرتنا الوطنية وكأن شيئا لم يكن (ناموسة في أضان فيل).

 

ويعجب المرء أيضا عندما يشاهد أجهزة إعلام الدولة الرسمية تسلط الأضواء على حوارات واستفتاءات (مفبركة) في الشارع السوداني وتسأل المواطنين عن رأيهم في الجنوبيين!!!  فتفاجأ بأن المواطنين يرون أن الجنوبيين أشقاؤهم. فهل هذا صحيح؟!!!

 

لقد ظل الجنوبيون بين ظهرانينا طوال عقود زمنية ولكنا لم نحس بهذه الأخوة  الرائعة والحميمية المدهشة في أجهزة الإعلام الحالية إلا الآن. فأين كانت أجهزة الإعلام الرسمية التي لم تبصرنا بهذا من قبل؟!!! وأين كانت تلك المشاعر الدافئة!!!

 

وددت لو تصدق أجهزتنا الإعلامية الرسمية – ولو لمرة واحدة - في نقل الأحداث؟ هذه الممارسات الكاذبة والمزيفة هي الممارسات التي كانت ديدن الحكومات المختلفة منذ الاستقلال تجاه كل المجموعات المهمشة في الشرق والغرب والجنوب والشمال.

 

ظلت أجهزة الإعلام الرسمية تسخر دائما لخدمة أهداف وبرامج وأغراض فئات معينة . تلك الفئات التي ظلت منذ الاستقلال تستأثر بكل شيء ولا ترى للآخرين حقا في الحياة الكريمة في سودان المليون ميل مربع!!!

 

وأرجو أن أنبه إلى أن قضية دارفور لا تستقيم إلا بالمحادثات الجادة الهادفة. ومن غير المنطقي أن نغفل خليل إبراهيم وغيره من المتمردين على سلطة الخرطوم - التي كانوا جزءا منها –في أي تسوية لقضية دارفور.

 

 كما أرجو من الآن أن يبعد الجيش السوداني عن هذه القضية ولا يتورط فيها كما ورطنا في حروب كثيرة ورأينا الحصيلة بعد فوات الأوان. خاصة أن الميزانية - المعجزة دائما - لا تسمح بخوض حروب ولا تسمح بعنتريات كعنتريات وزير دفاعنا الهمام!!!

 

وإذا أصر الجيش السوداني على حسم هذه القضية بالمعارك فلن يطيق الشعب السوداني جبايات أخرى  وضنكا في المعيشة وفقرا مدقعا أكثر من هذا.  ولكم الخيار في ذلك!!!

 

على أي حال، نقول لكم اتقوا الله في الناس وكفى إشعال حرائق بين القبائل المختلفة في غرب السودان. فمرة بين المسيرية والرزيقات، ومرة بين الدينكا والمسيرية،  ومرة بين الرزيقات والترجم، ومرة بين المساليت والرزيقات الخ.

 

وأرجو أن يفطن (الغرابة) لمشعلي هذه الحرائق المتكررة في غرب السودان منذ وقت طويل! ومن المستفيد منها! فقتال المسيرية والرزيقات (أبناء العم) لا يساعد إلا على كسر شوكة القبيلتين الباسلتين وتدجينهما بحيث لا تشكلان خطورة في مقبل الأيام عندما ينفصل الجنوب وتذهب أبيي.

 

فلو أمعنت النظر في سلسلة النزاعات لوجدت المسيرية والرزيقات هما القاسم المشترك في كل النزاعات والحروب القبلية. لماذا؟!!! هذا المنهج - منهج الإضعاف -هو ذات المنهج الذي شطر حزب الأمة لستة أجزاء ولم يعد من الحزب الكبير إلا قادته الفاشلون.

 

ألا رحم الله زعماء العشائر السابقين حين كانت كردفان ودارفور آمنة بفضل من الله وفضلهم بعد ذلك. فليسأل (الغرابة) من المستفيد من ضعف زعماء الإدارة الأهلية الحاليين؟ سؤال يجب الوقوف عنده طويلا!!!!!

 

هذه السياسة العجيبة بدأت منذ عهد الرئيس نميري – رحمه الله رحمة واسعة – وبإشارة من مستشاره كبير الإسلاميين آنذاك. فقد سلط كبير الإسلاميين  -بذكائه الخبيث - الرئيس نميري على حل الإدارة الأهلية (بتأييده القوي لخطرفات المرحوم جعفر محمد علي بخيت) ليجد موطئ قدم  له في مناطق أحزاب تقليدية مقفولة واعتمد سياسة (الفوضى الخلاقة).

 

أورث كبير الإسلاميين تلامذته سياسة فرق تسد. فما تركوا حزبا سياسيا ولا ناديا رياضيا ولا جمعية خيرية إلا شطروها إلى نصفين.  وأحيانا يتجاوزن المثنى والثلاث والرباع. وقد بلغوا بحزب الأمة – الذي رباهم ربع قرن من الزمان وعلمهم الرماية - ستة أجزاء وضربوا بذلك الرقم القياسي!!!!

 

 وعلى كل حال فقد حاق المكر السيئ بأهله، وأصابت العدوى الحزب الحاكم نفسه.  فانشطر المؤتمر الوطني إلى مؤتمرين: وطني وشعبي. وسنرى العجائب في مقبل الأيام. وإن غدا لناظره قريب!!!

 

العجيب أن  الإسلاميين الحاكمين الآن بدأوا التنصل عن كل ما يصلهم بالإسلام رويدا رويدا طوال مسيرتهم (القاصدة)!!! ويبدو أن الإسلام كان بالنسبة لهم مطية لمرحلة قصيرة ولبلوغ غاية فقط. واتفقوا في ذلك مع الأحزاب التي تقول (الغاية تبرر الوسيلة) ولا حول ولا قوة إلا بالله!!!!.  فما عدنا نسمع بتحكيم شرع الله منذ فترة طويلة!! وبدأت تتضح نواياهم الخبيثة ونفاقهم مع الزمن كلما قوي عودهم. واتبعوا سياسة (تمسكن حتى تتمكن).

 

بدأ الإسلاميون أخوانا (مسلمين)، ثم تحولوا حسب الظرف والانتهازية إلى جبهة الميثاق (الإسلامي)، تحت عباءة حزب الأمة القوي آنذاك. ثم غيروا جلدهم للمرة الثالثة إلى الجبهة (الإسلامية). وفي كل هذه المرات لم يسقطوا ما يشير إلى أنهم مسلمين.

 

ولكنهم نهجوا أخيرا نهجا مغايرا بعدما وصلوا إلى مبتغاهم الدنيوي الوضيع. وأقدموا بكل جرأة ووقاحة – بشطريهم المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي – على ترك ما يصلهم  بالإسلام جملة وتفصيلا،  ولم يقرنوا اسمهم الحالي بأي شيء (إسلامي) كأن يقولوا المؤتمر الوطني الإسلامي أو المؤتمر الشعبي الإسلامي!!!

 

وانضموا بذلك إلى قائمة كل الأحزاب السودانية العلمانية – حزب الأمة والاتحادي والشيوعي والبعث والقومي العربي والاشتراكي إلى آخر القائمة التعيسة المتضمنة لكل اللمم - وتنصلوا  عن الأهداف الإسلامية النبيلة التي كانت تميزهم.

 

 وفي غمرة انشغالهم بسياسة فرق تسد – التي حذقوها -لم ينتبهوا إلى أن هذه السياسة و(الفوضى الخلاقة) قد بلغت مبلغا خطيرا وتجاوزت حدودها وأتت بالنصارى واليهود إلى دارفور ودفعت بقادتهم إلى محكمة الجزاء الدولية. و(البتسوي بإيدك يغلب أجاويدك)!!!!

 

 

ولنقد الذات بقية إن شاء الله....

 

آراء