رأي بدون معلومات مثل هتافات في مظاهرة لا تحدث اثراً إلا في حناجر المتظاهرين .. طلحة جبريل
طلحة جبريل
29 July, 2010
29 July, 2010
2-2
talha@talhamusa.com
اتلقى باستمرار رسائل من قراء، يستسفر أصحابها،عن السبب الذي يجعلني لا أكتب عن موضوع" المحكمة الجنائية الدولية". والجواب الذي أكرره، بان لدي الكثير الذي يمكن أن اقوله في هذا الشأن، لكن بالمقابل أحرص أن يصل ما اكتب الى القاريء داخل السودان، اما القاريء خارج الوطن، فالفضاء مفتوح والمنابر بلا حصر، والأمر لا يتطلب في بعض الأحيان سوى نقرة على لوحة المفاتيح.
داخل السودان الامر يتعلق بهامش حرية يضيق ويتسع طبقاً للمزاج السياسي للحاكمين، وقدرنا أن نكتب ما يمكن ان ينشر، وليس أن نكتب ما نعتقد ونحن ندرك مسبقاً انه لن ينشر. وما اكثرهذا الذي نعتقد ولا يمكن نشره في صحافتنا السودانية. شخصياً كان خياري واضحا منذ أن بدات الكتابة داخل السودان، ان اكتب ما افترض انه قابل للنشر. إذ لا تستهويني مطلقاً مسالة "حذفته الرقابة" إذ هي وجدت أصلاً لتحذف ولاشيء آخر سوى الحذف.
كنت عندما بدأت أكتب داخل الوطن، بعد ثلاثة عقود من الكتابة خارجه، وهي كتابة مستمرة حتى الآن، قلت بالحرف في كلمة منشورة "توزعت مشاعري بين محاذير الكتابة في صحيفة سودانية على وجه التحديد في ظل الأوضاع الحالية، بحيث لا تحرج الكتابة المفترضة الصحيفة التي ستنشر، أو تجبر الصحافي الذي سيكتب أن يمارس رقابة ذاتية تعتم على وجهات نظره وتدفع بأفكاره إلى منطقة الظل" وزدت قائلاً" طرحت على نفسي سؤالاً أساسياً: ترى ما هو هامش الحرية التي يمكن الإستفادة منها داخل وطن يسعى جاهداً للخروج من شمولية خانقة إلى تعددية سياسية حقيقية" وقلت ايضاً "لا أنكر أنني حاولت منذ فترة ... أن إنبه نفسي إلى مزالق الانتظار حتى يأتي فجر الديمقراطية حتى يمكنني الكتابة للقارئ السوداني (في الداخل). وفي اعتقادي بشان هذا الانتظار أن الليالي العامرة بالقلق تتراكم ولا تلوح في الأفق خيوط هذا الفجر متسللة من خلف الظلام لتعلن قرب مجئ النهار. ثمة مسألة أخرى وهي أنني وضعت حدوداً لنفسي منذ أن كتبت ثلاث مقالات فقط بعد الانتفاضة في صحيفة (السياسة) السودانية، هذه الحدود تجعل من السؤال: لماذا لا يكتب فلان؟ أفضل بكثير من أن يسأل الناس: ما هذا الذي يكتبه فلان؟ ".
ذلك ما كنت كتبته قبل ثلاث سنوات، من هذه النقطة انطلق لأقول إن مشاكل ومتاعب الصحافة السودانية تتلخص في خمس نقاط، وهو ما يجعل هذه الصحافة برمتها لا يتعدى توزيعها 350 الف نسخة في اليوم، اي اقل من واحد بالمائة قياساً لعدد السكان.
أولاً ،هامش الحرية الذي كما اسلفت يضيق ويتسع، بحيث يجد رؤساء التحرير امامهم لائحة متحركة من" الخطوط الحمراء". وفي هذا الشأن، أتذكر بانني كنت اعتزم قبل حوالي ثلاث سنوات الكتابة عن احد "مساعدي رئيس الجمهورية" وسمعت من صديق أعرف دقة معلوماته " أنتبه هذا الرجل خط أحمر" يومها قلت للصديق ما قاله السياسي الراحل يحي الفضلي في خمسينات القرن الماضي" لا قداسة مع السياسة". كان ذلك الشعار يعني انه طالما أن الشخص أي شخص يمارس السياسة لماذا يتحول الى" خط أحمر" اليس هو بشر يخطيء ويصيب.
ثانياً، مشكلة الامكانيات المادية ومحدودية سوق الاعلانات، وأكبر مصدر للاعلانات طبقاً لمعلومات يعتد بها هي الجهات الحكومية، والواضح ان الاعلانات الحكومية لا توزع على الصحف تبعاً لمعايير موضوعية، بل أصبحت وسيلة للثواب والعقاب. الموالون تغرقهم الاعلانات والصحف" المتنطعة" من وجهة نظر السلطة تغرق في الديون. وبكل موضوعية هذا الأمر لا يقتصر على السودان، بل هي ظاهرة توجد في دول أخرى. ومسألة الاعلانات جعلت من شركات الاتصالات،وهي من اكبر المعلنين الخواص حالياً في السودان تتحول بدورها الى" خط أحمر" انتقادها يمكن أن يحرم الصيحفة الناقدة من اعلاناتها. ولا أعتقد ان هناك رئيساً للتحرير سيقبل أن يكتب اي كاتب في صحيفته مقالاً يتعرض فيه الى إحدى شركات الاتصالات.
ثالثاً، ضعف الاستثمارات في المؤسسات الصحافية، واحجام القطاع الخاص عن هذا المجال، هناالأمور واضحة هنا،إذ لا يمكن لرجل اعمال أن يغامر بالاستثمار أو دعم صحيفة لا ترضى عنها السلطة الحاكمة وإلا عرض استثماراته ونشاطه التجاري والاقتصادي الى مخاطر.
رابعاً، شدة المنافسة من طرف فضاء الانترنيت المفتوح بالمجان والذي الغى الخطوط بين الكاتب والقاريء ، وجعل القراء كتاباً، وهي مرحلة " التفاعل" التي نعيشها الآن بين اي موقع وقرائه. وكان يمكن للصحف الورقية ان تتغلب على منافسة الانترنيت، باعتماد مواقع اليكترونية متجددة، لكن الأمر يتطلب امكانيات مالية،وسوق الاعلان في الانترنيت في بلد مثل السودان يحتاج الى عقود اخرى من الانتظار.
خامساً، ضعف الجوانب المهنية لأسباب متشابكة ومعقدة. وهذه النقطة تحديداً هي التي سأركز عليها.
أعني بضعف الجوانب المهنية،عدم العناية الكافية بأن تتوخى الكتابة الصحافية، في جميع الأجناس والتي اصبحت الآن تسعة أجناس، بالأصول العلمية، حتى تصبح الصحافة وسيلة "لتدفق المعلومات" بدلاً من الاثارة الطاغية حالياً، والتي تلجأ اليها الكثير من الصحف السودانية لتحقيق الرواج. هذه الاثارة هي في الاساس من بقايا "مدرسة كولومبيا" (جامعة في نيويورك) التي سادت في الصحافة المكتوبة خلال السبعينات والثمانينات، لكن سرعان ما تلاشى تأثيرها في الصحافة الغربية. تلك المدرسة، ظلت تقول إن " الخبر" هو الذي يشتمل على أكبر قدر من الاثارة. وترى "مدرسة كولومبيا" إن الاخبار المثيرة هي التي تشتمل على واحد من خمسة عناصر، او أكثر من عنصر، وبالطبع أكثر الاخبار إثارة هي تلك التي تشتمل على العناصر الخمسة دفعة واحدة. وحددت" مدرسة كولومبيا" هذه العناصر في " الدين والحاكم والجنس والجريمة والغموض". ولشرح نظريتهم أقترح أصحاب "مدرسة كولومبيا" هذه العبارة، وفي رأيهم انها تشرح المقصود، تقول العبارة "صاحت الملكة قائلة يا آلهي الأميرة حامل من الذي فعلها ".في هذه العبارة نجد الحاكم (الملكة والأميرة) والدين (يا آلهي) والجنس (الاميرة حامل) والجريمة ( معاشرة جنسية) والغموض (من الذي فعلها) .
عندما طرحت "مدرسة كولومبيا" نظريتها في كتابة الاخبار، وجدت هذه النظرية احتفاء منقطع النظير في قاعات تحرير الصحف الغربية، خاصة وانها تزامنت مع نظرية اخرى ظهرت في بريطانيا تقول إن الصحافة الحديثة يجب أن تكون هي "صحافة الساندوتش" متأثرة بفكرة الساندوتش على اعتبار انه مذاق العصر، إذ الانسان هو يركض طوال النهار، يكفيه ساندوتش بدلاً من الوجبات التقليدية، سواء كان " بيتزا" او" شاورما" أو " كنتاكي"أو "همبرغر" او " هوت دوق"، وبالتالي يكفي قاريء الصحف أن يكون الخبر على غرار الساندوتش بحيث لا تتعدى كلماته 300 كلمة، وكما الساندوتش ، يشعر القاريء بالشبع المعرفي وهو "يلتهم" هذا الخبر السريع. وكان اول من طبق هذه النظرية الصحافي الفريد هارموز وورث في صحيفة " ديلي ميل" البريطانية.
لكن هاتين النظريتين، اللتان توارتا الآن، لم تصمدا كثيراً في الصحافة الغربية، وهما السائدتان حالياً في الصحافة السودانية، بادراك او بدونه.
حالياً راحت الصحافة الغربية في ظل منافسة شرسة من الانترنيت والتلفزيون، تعتمد "صحافة التحقيقات" وتعدد المصادر بحيث تكون جميع وجهات النظر موجودة في الاخبار اوالاجناس الصحافية الاخرى سواء تعلق الأمر بالتقارير الاخبارية،او التحقيق، او الاستطلاع أو القصة الملونة، أو البروفايل، او الرأي والحوارات أوالكتب والمذكرات والوثائق. هذه المدرسة تمثلها حالياً صحيفة" واشنطن بوست". وأظن أن الصحافة السودانية تحتاج فعلاً أن تعمل طبقاً لأسلوب هذه المدرسة. صحيح انها مدرسة تحتاج الى حرية تعبير كاملة، وبالطبع لامكانيات مالية. لكن الأمور ليست مستحيلة.
صحافة التحقيقات أثبتت كفاءتها في الغرب في النفاذ إلى دخائل وخبايا السياسة والغوص في الأسرار وتغطية أكبر مساحة من وقائعها وكشف أدق تفاصيلها، وهذه مدرسة صحافية تدرك أن النفاذ إلى العمق حق قارئ لا يعنيه ولا يرضيه أن تنحصر مهمة الصحافة في الحديث عن الحاكم والإشادة بعظمته فيما فعل ولم يفعل وتعرف أيضاً أن قارئها يستطيع النظر إلى سطح الحوادث من متابعة التلفزيون في حين أن الكلمة المكتوبة حياتها وشبابها أصبحت موصولة بقدرتها على النفاذ إلى عمق لا تستطيع الصور أن تبلغه أي بقدرتها على الذهاب وراء السطح بكل ما يتزاحم فوقه من اجتماعات واستقبالات ومراسم واحتفالات وتصريحات وبيانات، وتلك كلها في هذه الأزمنة وسائل تزويق وليست مناهج توثيق .
في هذا الصدد، دعونا نقول بكل موضوعية، ان السلطة الحاكمة في السودان عادة ما تجد ذريعة في لجم بعض الصحف وأعتقال الصحافيين، بتهمة نشر اخبار كاذبة، اوغير موثقة. واقول بكل موضوعية مسألة "غير موثقة" هذه في كثير من الأحيان تكون صحيحة،على الرغم من انها كلمة حق يراد بها باطل. التوثيق من وجهة نظر مهنية يععني ان الصحافي ينقل المعلومات الى الجهات الرسمية ويطلب رأيها، مثلاً إذا كان هناك خبر حول تأثير نفايات دفنت في زمن مضى في الشمالية هي التي تتسبب في ارتفاع نسبة الاصابة بالسرطان، وبادر محرر الى إنجاز تحقيق حول هذا الموضوع، ماذا يضير ان يأخذ وجهة نظر وزارة الصحة. بعض الزملاء يقولون إن المسؤولين الحكوميين عادة ما يحجمون عن الادلاء باية معلومات. هذا صحيح لكن قدرنا نحن الصحافيين أن نتصارع مع الحاكمين حول " المعلومة". القاريء دائماً ينتظر منا معلومات وليس انطباعات شخصية. وبقدر ما يبتعد المحرر عن إقحام رؤاه الشخصية في العمل الصحافي سواء كان خبراً أو أي جنس آخر، بقدر ما تكتسب المادة الصحافية قوتها وتميزها. الخبر الموثق يجعل من صاحبه بطلاً إذا تعرض للقمع، لكن الخبر غير الموثق، يجعل من كاتبه ضحية.
بعض الناس يعتقدون أن الصحافة هي أن تقول رأياً، وأن يكون راياً حاداً. في ظني أن الصحافة هي ان تقدم أكبر قدر من المعلومات. لأن راياً بدون معلومات، لا يعدو ان يكون بمثابة هتافات في مظاهرة عابرة، لا يحدث اثراً إلا في حناجر المتظاهرين.
عن " الأحداث"
مقالات سابقة
جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط
http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1