رؤى حول إستراتيجية دفاعية في: حالة ولادة دولة جديدة بالجنوب … بقلم: عمر خليل علي موسي

 


 

عمر خليل علي
2 November, 2010

 


بقلم: عمر خليل علي موسي .../كاتب في الشئون العسكرية والأمنية – الدوحة
Osssm5@hotmail.com

1-    تقديم .  وفقا لكثير من المعطيات المحلية والدولية التي تحيط بالاستفتاء المقرر حول مصير جنوب السودان في يناير المقبل ، ترجح معظم  الدوائر وتشير كافة الدلائل والمؤشرات إلي ان احتمال انفصال جنوب السودان عن شماله هو الأرجح مما يؤدي إلي ولادة وتكوين دولة جديدة مستقلة تماما عن الشمال ، تربطها بجمهورية السودان حدود مشتركة يبلغ طولها نحو  1950 كلم . لم تكن فترة ارتباط جنوب السودان بشماله منذ الاستقلال في 1956 مستقرة يسودها السلام والاستقرار والوئام  المستمر لأسباب شتي منها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والديني والعرقي مما أدي إلي نشؤ نزاعات مسلحة  أثرت سلبا علي امن واستقرار السودان خلال 6 عقود مضت ، خلال تلك الفترة كان التعامل الأمني مع مشكلة الجنوب  يتم في إطار عمليات الأمن الداخلي (وان كان للقوات المسلحة الدور الأكبر في العمليات بالجنوب – في شكل حرب نظامية - خاصة خلال فترات الحكومات التي سبقت الحكومة الحالية) ، إلا ان إستراتيجية الدولة عموما خلال هذه العقود تعاملت  مع ما يجري في الجنوب علي أساس انه تمردا وعصيانا داخليا يدخل عملياتيا  في إطار الأمن الداخلي ، شارك في مواجهة هذا التمرد بجانب القوات المسلحة - في العقدين الماضيين فقط - قطاعات أخري من غير القوات المسلحة من القوات الشبه نظامية كالدفاع الشعبي (طلبة وموظفين ومتطوعين) وكذلك مجندي الخدمة الإلزامية الخ .. عموما ان عمليات الأمن الداخلي وفق ما هو معروف عسكريا تقوم بها قوات الشرطة والقوات الأمنية الاخري ،  ولا تتدخل القوات المسلحة إلا عند الطلب في حالة استعصاء الأمر علي القوات النظامية الاخري المنوط بها حفظ الأمن الداخلي أو لضعف هذه القوات أو لاستفحال الأمر وخروجه عن سيطرة هذه القوات .

2-      الموقف الراهن . العالم الآن في انتظار ولادة دولة جديدة علي حدود ما يعرف حاليا بالسودان الشمالي ، لم تحسم نيفاشا والطريقة التي نفذت بها الاتفاقية الأمور وفق ما كان منتظرا لعدة أسباب (لا مجال لتفصيلها هنا) ، لذا ظلت عدة أمور عالقة أدت ولا تزال تؤدي إلي توترات حالية ومستقبلية خاصة تلك المسائل المتعلقة بالحدود المشتركة ومنطقة ابيي والحقول النفطية في المناطق المتنازع عليها وتقرير المصير والمواطنة إلي آخر القائمة المقلقة والتي ستظل شوكة حوت في حلق العلاقات المستقبلية بين الدولتين (في حالة الانفصال) هذه التوترات بعد إعلان دولة الجنوب قد تتطور لنزاع مسلح بين الجانبين ان لم تُحسم مثل هذه الأمور وسيخرج النزاع المستقبلي بين الدولتين من نطاق عمليات الأمن الداخلي إلي حرب بين دولتين (نزاع مسلح إقليمي)  وقد يتجاوز الدولتين )الشمال والجنوب) إلي محاور وواجهات نزاع اكبر حيث ان للدولة الوليدة أصدقاء وحلفاء وهناك في العالم من يتكسب ويربح ذهبا من مثل هذه النزاعات الإقليمية ويصفق لها ويزيد من أوارها.

3-    أهمية الإستراتيجية الدفاعية العسكرية .وفق العقيدة العسكرية للسودان (Military doctrine)  ، يفترض ان تكون هذه العقيدة دفاعية تبني وتؤسس وفق نظم إستراتيجية دفاعية تعمل علي تحقيق مبدأ الدفاع عن ارض وحدود الدولة البرية والبحرية والجوية لضمان سلامة وأمن واستقرار الوطن ومواطنيه حيث يقع علي عاتق قواتنا المسلحة وحدها بهيئاتها وإداراتها وأفرعها المختلفة وضع هذه الإستراتيجية وتنفيذها ، هذه الإستراتيجية تفرضها مستجدات وتطورات تحدث  في الجنوب (أهمها ميلاد دولة جديدة مجاورة وبالتالي بروز خط حدود فاصل جديد يعتبر بالمقاييس العسكرية اتجاه جديد للتهديد) فمهما كانت هذه المستجدات سلمية أو عدائية ، فان ولادة دولة جديدة تستوجب تبني مثل هذه الإستراتيجية والعمل علي تنفيذها ، حيث ان الحكومات في الدولتين تتعاقب والسياسات تتبدل ، والعلاقات الممتازة اليوم بين دولتين قد تسؤ غدا لأي سبب من الأسباب ، إلا ان الاستراتيجيات و الأسس الدفاعية العسكرية  تبقي طالما ان هناك قوات مسلحة وطنية وقومية باقية .

4-    أهم ملامح هذه الإستراتيجية الدفاعية الجديدة .

   أ . استخدام كلمة جديدة لا يعني أنها شي مستحدث وجديد وإنما هي إستراتيجية يفرضها وضع جديد بدء يلوح في حدود الشمال الجنوبية وبروز اتجاه جديد للتهديد ، يفترض ان تُحِل هذه الإستراتيجية محل عمليات الأمن الداخلي التي كانت تنفذ في الجنوب في العقدين الأخيرين من عمر الصراع .

  ب. من المهم لهذه الإستراتيجية العسكرية الدفاعية ان تكون من تصميم وتنفيذ الخبراء العسكريين بالقوات المسلحة فقط ونحمد لله ان قواتنا بها من الخبرات والقادة العسكريين المؤهلين الذين هم أهل لذلك ، مع أهمية الابتعاد عن شاكلة من يبررون من غير المتخصصين ويصرحون بمثل : (ان عدم التصدي لقوات غازية تقدمت نحو العاصمة آلاف الكيلومترات كان بهدف استدراج هذه القوات لأرض القتل في المناطق المبنية والسكنية....! أو من يشيرون بحفر الخنادق حول المدن ، في وقت أصبحت فيه الحروب تدار بالأقمار الاصطناعية والأهداف تدمر بدون إرسال قوات عن طريق الطائرات القاذفة بدون طيار وباستخدام الصواريخ الذكية الجوالة التي خط طيرانها وفق تضاريس الأرض  تحتها - حادث تدمير مصنع الشفاء وحادث ضرب قافلة مركبات بشرق السودان خير مثال - ...! ) .

 ج . بداية يجب أن نحدد بوضوح أن عبء تنفيذ العمليات  البرية المتعلقة بتهديد خارجي مسئولية القوات المسلحة وحدها وهي وحدها المؤهلة للقيام بذلك بدون الزج بالجماعات الشبه عسكريه في إدارة مثل هذه الصراعات حيث ان المعارك الدفاعية البرية والجوية وعمليات الدفاع الجوي والبحري/النهري (وبالطبع الهجومية) لها تكتيكاتها  وخططها وتقديراتها وأسلحتها ورجالاتها (كما للسياسة والطب والتدريس والزراعة رجالاتها ووسائلها).....وان مثل هذه العمليات ليست مجرد مشاريع (ضرب نار وطوابير بيادة وجمعون أو مركبات لاندكروزر مزودة بمدفع دوشكا) تديرها المنسقيات وينفذها طلاب المدارس والجامعات والموظفين ..! فعبء الدفاع عن الدولة (كأحد أوجه الحرب الأربعة ، هجوم/دفاع/تقدم /انسحاب) علم وتقنية حديثة ومعلومات وتخطيط وفنون قتال و قيادة وكل ذلك من اوجب واجبات القوات المسلحة ويختلف اختلافا كبيرا وبينا عن عمليات الأمن الداخلي .

د .  في حالة انفصال الجنوب ستكون حدود السودان الجديدة كما واضح من الخارطة وهي بطول نحو 1950 كلم من نقطة إلتقاء الحدود السودانية بالحدود الإثيوبية شرقا إلي نقطة الالتقاء بحدود دولة أفريقيا الوسطي غربا  وسيجاور السودان 7 من الدول من حوله بدلا عن تسع  إلا ان هذه الحدود الجديدة مع الجوار الجنوبي ستشكل عبئا اكبر من حالة الجوار الماضية من الناحية الأمنية لعدة أسباب أهمها أنها تحولت من حدود أقاليم داخلية إلي حدود دولية  تفصل بين قبائل حدودية متداخلة تربطها علاقات مستمرة ومتباينة أهمها التجارة والرعي والزراعة والقربى والتنازع حول مواقع وأراضي بعينها مما يجعل من هذه الحدود خاصة في جنوب كردفان ودارفور والنيل الأزرق  بؤر للإحتكاك  لن تكون بين الدينكا والمسيرية وغيرهما من القبائل فقط ،  بل سيتحول إلي صراع بين دولتين متجاورتين ، يجب ان ياخذ من يخطط لأي إستراتيجية جديدة كل ذلك في الاعتبار لحماية هذا الاتجاه من التهديدات بأنواعها (وهي كثيرة) إلا ان أهمها :استمرار التنازع علي الثروات ومناطق الرعي ، الاعتداءات بين القبائل الحدودية ، التسلل ، الإرهاب ، النزاع علي مياه الأنهار والمشاريع المقامة عليها ، أطماع دولاً جديدة في المنطقة تهمها مصالحها الجديدة والتي تعبت عقودا لتحقيقها كإسرائيل وأمريكا . إذن هناك اتجاه جديد للتهديد وتهديدات ماثلة من الضروري ان تقابله إستراتيجية دفاعية سليمة .

هـ . يلاحظ ان بروز ولاية أعالي النيل الحالية إلي مسافة نحو 100 ميل وبعرض 70 ميلا داخل ولاية النيل الأبيض شمالا يُعطي مديات إضافية بقدر طول هذا البروز لدولة الجنوب ، الشئ  الذي سيشكل عبئا دفاعيا إضافيا علي كثير من المدن والمواقع الاقتصادية الإستراتيجية الحيوية بالسودان ، فمثلا عند إقرار الحدود الجديدة ( وهي الحدود الحالية التي تفصل بين الشمال والجنوب) تصبح كوستي علي بعد 64 ميلا من حدود الدولة الجديدة عند اقرب نقطة حدود في بروز ولاية أعالي النيل الحالية وعلي مسافة 83 ميل من حدود ولاية الوحدة الحالية ، أما الدمازين وخزان الروصيرص يبعدان نحو 82 ميلا من حدود بروز أعالي النيل ، وسنار وخزانها عل مسافة 69 ميلا فقط من نفس البروز بأعالي النيل ، والابيض علي مسافة 150 ميلا من أعالي النيل و195 ميلا من حدود ولاية الوحدة ، أما الفاشر فتبعد نحو 216 ميلا من حدود شمال بحر الغزال وجبل مره علي مسافة نحو 193 ميلا من بحر الغزال  ، أما المشاريع الصناعية والاقتصادية جنوب النيل الأبيض فهي علي مرمي حجر من حدود الدولة الوليدة . عليه هذه المسافات (وهي مسافات دقيقة) تعتبر قريبة جدا وخطيرة في عرف مديات الصواريخ  أرض/أرض  متوسطة المدى والمدفعيات بعيدة المدى والطائرات القاذفة ، وكذلك في عمليات التسلل والاختراق وتقدم القوات المعادية ، الشي الذي يجب ان يوضع في الاعتبار عند التخطيط  للإستراتيجية العسكرية الدفاعية لهذا الاتجاه .

و . هناك ضرورة ملحة لأن تشمل هذه الإستراتيجية قاعدة جوية كقاعدة الوادي ، توضع ضمن (المدى المناسب) لحماية المواقع الهامة التي ذكرت وتكون خارج نطاق مديات الصواريخ المعادية (المتوقعة)  متوسطة المدى،  مع وضع بروز أعالي النيل (كمدي إضافي لصالح الدولة الجديدة) يجب أن يُتَحسب له تجاه أي تهديد من الجو (صواريخ /مدفعية /طيران) أو حتى من النيل ، أو من أي عمليات تسلل الخ .... يجب ان تكون هذه القاعدة قائمة بذاتها (أي ليست انطلاقا من المطارات الحالية في المدن) مثل الأبيض والفاشر أو الدمازين مع وجود القوات اللازمة لحمايتها وتأمينها ،  وأهمية تكوين فرق من القوات الخاصة SFs   وقوات التدخل السريع RDFs المنقولة والمدعومة جوا للدفع بها  إلي مناطق التهديد والعمليات وفق تطورات الموقف .

ز . تطوير قوات القطاع النهري التي ستتغير وتنكمش مناطق مسئوليتها بتغير الحدود وذلك بدعمها بالزوارق السريعة المسلحة بالأسلحة المناسبة  لمراقبة المناطق الاقتصادية الهامة من النهر علي طول ولاية النيل الأبيض وعند الحدود النهرية ومنع عمليات التسلل النهري.

ح . إن طول الحدود المشتركة بين الدولتين يتطلب لإحكامها والدفاع عنها  ومراقبتها  عملا إستخباريا مكثفا تقوم به الاستخبارات العسكرية ، يتمثل هذا الجهد العسكري في جمع المعلومات الخاصة بتحركات القوات علي الجانب الآخر وتحديد ومراقبة ومتابعة مناطق الحشد ، ومكافحة التجسس ، ولتحقيق ذلك لابد من قوات استطلاع بري وجوي مدربة ومؤهلة عاليا ، بجانب ذلك لابد من  مراقبة الاتصالات العسكرية وما تشمله من معلومات تعتبر مفتاح المعارك لتامين الأرواح .  يقع علي الاستخبارات أيضا عبء تحديد واكتشاف المعدات والعتاد والمشتريات العسكرية للجانب الآخر خاصة الأسلحة والمعلومات الفنية والتعبوية الخاصة بها وقدرات الجانب الآخر في استخدامها والمستوي التدريبي والعملياتي الذي وصل إليه ، الاستخبارات العسكرية هي صمام الأمان للدول من الاعتداءات والاختراقات الخارجية وهي عين القوات والقادة ومصدر قراراتهم وتحركاتهم السليمة .
5-    ختاما لنجاح القوات في بسط الأمن وتحقيق الأهداف الإستراتيجية للدولة والمحافظة علي ما تبقي من حدود البلاد لابد من استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية بالبلاد ، وإلا سنكون كمن يؤذن في الفاتيكان .
 

 

آراء