رؤية محافظة للحدود لا تغيرها العولمة … د. عثمان أبوزيد

 


 

 

 ما يدور من نقاش سياسي أو ديني أو قانوني هذه الأيام في موضوع الجدار الفولاذي بين غزة ومصر، يثير عندي استشكالاً فكرياً أيضاً، فهناك من المفاهيم ما يتم تسويقها على أنها في حكم البديهيات، لكنها عند النقاش الموضوعي تصبح مجرد أمور مشكوك فيها.

يمكن سماع الفكرة بأن العالم بفعل العولمة استطاع أن يلغي الحدود الزمانية والمكانية بين الشعوب، غير أن هذه الفكرة لا تقف على ساق عندما نلاحظ الفوارق الكبيرة بسبب التفاوت في القدرات الاقتصادية والمالية بين الكيانات الدولية.

صحيح أن التواصل أصبح ممكناً بتخطي حدود الزمان والمكان بفضل الانترنت والفضائيات وأجهزة الصرف الآلي ، لكنه تواصل في الفضاء. أما على الأرض فتتواتر الأخبار عن أسوار وجدران تقام عبر الحدود الدولية في العالم.

قديماً كانت المدن ذات الأسوار ، وحديثاً الدول ذات الجدران.

لا تزال المدن القديمة تحتفظ بأثر من أسوارها وأبوابها مثل باب توما في دمشق وباب شريف في جدّة القديمة. طبيبة فرنسية وصفت أسوار مدينة صنعاء عندما زارتها في منتصف القرن العشرين، فقالت: أسوار من الطين كثيفة وعالية تزينها أبراج تحيط المدينة من كل جانب. أبواب تقفل في الليل، والباب الرئيسي هو باب اليمن الذي يفتح إلى الجنوب، والذي يدخل منه الأجانب، وتفسر ذلك بما تقوله خرافة قديمة ... فقد كان في عقد الباب حجاب للحماية فإذا اجتازه العدو أو الثعبان السام خر لتوه صعقاً!

ربما لن يمضي وقت طويل حتى نرى معظم الدول وقد أحاطت نفسها بأسوار عالية كما يحيط السوار بالمعصم.

الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن ساعدت باختراعاتها الجبارة في وصل الشعوب بعضها ببعض، بدت أحرص ما تكون على بناء الأسوار والجدران، كيف لا وهي التي أقامت «سور أمريكا العظيم» في حدودها مع جارتها المكسيك.

نسمع أن العراق ينجز حفر خندق على الشريط الحدودي بينه وبين سوريا بطول 149 كيلو متراً وبعمق ثلاثة أمتار، ولأن الخندق ليس معه «حجاب باب اليمن» فسوف يستخدم سيارات عسكرية وكاميرات حرارية وأبراج مراقبة ، فضلاً عن أسلاك شائكة مزدوجة وحواجز بلاستيكية في نهر الفرات لمنع الدخول عبر النهر.

أما الأرض الفلسطينية فحولها جدار فوق الأرض، وجدار تحت الأرض من الفولاذ!

وحتى في الحدود  البرية بين الكاميرون ونيجيريا ، يقام مشروع لتعيين الحدود الدولية بوضع الأحجار على طول 1950 كلم ، بتكلفة أربعة ملايين يورو...

 أحجار فقط؟ ما هذا التخلف؟

علينا في السودان أن نحتاط عند إجراء الاستفتاء على مصير الجنوب بالتفكير في أشياء كثيرة؛ ليس أصعبها مصير الجنوبيين في الشمال ومصير الشماليين في الجنوب، بل بناء السور بين البلدين والتكلفة الباهظة المتوقعة لأنه سور طويل جداً أو كما قيل في دراما التلفزيون «طويل وملولو»!

يروي أهلنا ممن أدركوا الانتخابات الأولى بعد استقلال السودان أن المرحوم محمد نور الدين من دعاة وحدة وادي النيل، جاءهم يضرب الأمثال عن ضرورة الاعتصام بالوحدة مع مصر ، ومما قاله لهم: عندما يكون عندنا بيتان وبينهما سور فيتفق الجاران على هدم هذا السور فماذا يعني ذلك؟ أجابوه قائلين: إنه الخراب يا محمد نور الدين!

حقاً، إن الحدود ليست هي الخطوط الوهمية التي رسمها الاستعمار على الورق ، بل هي الحدود المرسومة في الضمائر والمشاعر. وهذه الحدود هي التي تعززها الجدران هذه الأيام بين الدول.

يوم أراد المستعمر أن يقيم الحدود الفاصلة بين الجزائر والمغرب، أطلقوا بغلين من داخل حدود الدولتين وجعلوا مكان التقاء هذين البغلين هو حدود الدولتين، والمنطقة تحمل اسم «زوج بغال»، وهي محطة حدودية مغلقة رسمياً بين الدولتين منذ سنوات عديدة.

سمعت من الأخ الدكتور حسن مكي ذات مرّة أنهم زاروا مدينة حدوديةً في جنوب السودان، وأرادوا أن يوقفوا عربتهم في ظل شجرة، فجاءهم الشرطي ليقول لهم: إنكم تخطيتم الحدود السودانية وتقفون داخل يوغندة!

وكتب السيد حسن دفع الله مدير وادي حلفا في مذكراته عن تعيين الحدود بين مصر والسودان: في 19 يناير 1899 تم الاتفاق على تنفيذ اتفاق أبرم بين حكومة صاحبة الجلالة ملكة بريطانيا والحكومة المصرية خاص بالحدود الفاصلة بين مصر والسودان، وقد اتفق قومندان وادي حلفا ومندوب مصلحة الأراضي الحكومية على أن تكون نهاية الحدود الشمالية من الناحية الغربية للنيل عند نقطة على بعد مائتي متر شمال (البربا) خرائب لقرية فرص، ومن الناحية الشرقية للنيل الخرائب الموجودة في أدندان... وأنه نتيجة لذلك فقد ضمت فرص إلى السودان فيما عدا ثلاثة أفدنة وقيراطين وثمانية وخمسين نخلة، وكان من الطريف جداً أن مواطناً سودانياً كان يدفع خراج بعض نخيله إلى الحكومة المصرية لأنها واقعة داخل حدود مصر!

osman abuzaid [osman.abuzaid@gmail.com]

 

آراء