حين اذكرك ياصديقي بكري، ترجع بي الايام الي رحاب مدرسة وادي سيدنا الثانوية خلال الستينيات من القرن الماضي، المدرسة النموذج – حيث هرعنا اليها من قرانا بعد النجاح، وتعايشنا في داخلياتها وفصولها وملاعبها ومعاملها، ونمت بين المنتسبين اليها علاقات هي أقرب لعلاقات صلة الرحم، أكلنا العيش والملح، وتشاركنا في ملاعبها المتعددة التي شملت كرة القدم وكرة السلة والكرة الطائرة.. وحوض السباحة، والقوارب النيلية، وفي المهرجان الرياضي السنوي الذي كان ينظم منافسة بين الداخليات في شتي الالعاب الرياضية، أذكر أنك كنت فارس الحوبة في الرياضة ولا سيما كرة القدم، كنت يابكري بين رصفائك الاكثر أناقةً، وتهذيباً وذكاءاً، عرفتك ملاعب كرة القدم، وكنا نقول بأن السودان موعود بلاعب فذ من وادي حلفا، فيما كان بعض الاخوة يعيروننا بأن منطقتنا رغم أنها قدمت الموهوبين في مجال السياسة والشعر والموسيقي والغناء إلا أنها لم تسهم في مجال الرياضة، وقد نسوا أن قرعم وسري لاعبا المريخ أبناء عمومة الخليل وغيرهما كان لهم القدح المعلي في تطوير كرة القدم وإن تربوا بعيداً عن منطقتنا. ومن خلال معلمين أفذاذ أمثال الشاعر محمد محمد علي والهادي احمد صالح وصالح احمد صالح وعباس المعتصم ونور الدين وعمر ماس وقطر وعثمان عبد المجيد تزودنا بمعارف وعلوم هي زادنا حتي اليوم. ومن خلال التدريبات العسكرية التي كانت تنظم عصراً بإشراف الصول جمعة وامثاله تدربنا علي بعض الفنون العسكرية من بيادة.. وانضباط وتعامل مع السلاح. وقد عرفت يابكري بالذكاء والمثابرة في دروسك واحرزت من النتائج الباهرة ما تؤهلك للدخول في جامعة الخرطوم الجميلة ومستحيلة وحلم الشباب في تلك الايام، ولكن برؤيتك الانسانية، ولأن الوالد الذي يعمل في السكة الحديد علي مشارف المعاش، وشقيقك الاكبر (محمد) قد إنتقل الي رحاب الله، اَثرت أن تلتحق بمعهد المعلمين العالي الذي كان يعد معلمي المدارس الثانوية العليا، ومن أهم شروط الالتحاق به تخصيص مرتب للطلاب كان في تقدير ذاك الزمان مجزياً. تخرجت يابكري من المعهد معلماً عام 1970م لتملأ ساحات المدارس التي عملت بها إبداعاً كمعلم فذ ورياضي مطبوع، والطلاب الذين درسوا بمدرسة الخرطوم الجديدة بنين ما زالوا يذكرون بكري المعلم الكفؤ والرياضي الذي ظل طيلة فترة عمله مشرفاً علي تدريب الشباب علي أصول لعبة كرة القدم. حين فكرت وزارة الخارجية – علي عهد وزيرها الرائد د. منصور خالد- رفد ساحتها بخريجين عملوا في مؤسسات مختلفة، لضخ خبرات في مفاصلها بدلاً من الخريجين الجدد التي تنقصهم التجربة العملية- حينذاك تقدمت الي الوزارة للعمل بها ضمن دفعة 1977م.. وبعد نجاحك واجتيازك الامتحان التحريري والمعاينات، دلفت الي عالم الدبلوماسية التي كانت موعودة لشخصٍ يناسبها خلقاً وهيئةً وسلوكاً. عمل بكري في سفارات عدة منها رومانيا وسوريا وايطاليا وليبيا، وفي إدارات الوزارة المختلفة. كان بكري يأمل أن يمثل السودان سفيراً في إحدي البعثات حين كان تمثيل البلاد شرفاً لا يدانيه شرف، والقدوة أمام كل من ولج الخارجية كان يتجلي في رعيلٍ أول أمثال الانيق الاديب مبارك زروق، والشاعر الاديب محمد احمد محجوب رائد الدبلوماسية العربية والافريقية في زمنه، والذي لم نسمع أنه وظف شعره وأدبه الرصين في شعرٍ مبتذل من غزلٍ ونسيب وتشبيب، ومن قبل هذين العظيمين احمد خير مؤسس مؤتمر الخريجين، والذي لم تعجبه مناورات الاحزاب وتقلبها وعمل وزيراً لخارجية أول حكم عسكري مهني في السودان (رائداً) للدبلوماسية وليس (مأموراً). إصطدمت احلام بكري مع غيره من الدبلوماسيين الاكفاء بقرارات الفصل التعسفي غير المبرر بعد 1989م- وفصل في نفس هذا العام، كما فصلت زوجته الدبلوماسية سلوي عوض بشير. كنت حقيقة أخشي علي امثال بكري من انعكاسات مثل هذه القرارت الفطيرة، فحساسية امثال بكري تكون اكبر لأنه تربي علي الصدق وكره الظلم، وكثيراً ما كنت أشير لبكري وامثاله بأن الوظائف لا تستحق ان تذرف عليها الدموع.. وعلي الانسان ان يوطن نفسه علي مجابهة التحديات لينطلق في رحاب مجالات أخري. وفي عام 2001م داهمه مرض ضعف في عضلة القلب، وجرت محاولات لعلاجه في قطر والسعودية ولكن إرادة المولي أرادت أن يكون في معيته بالملأ الاعلي. لم أقصد أن أنكأ الالام للدبلوماسية سلوي وأنجالها، ولكن هذه خواطر جائتني في اخريات ايام هذا الشهر الفضيل.. لعلها تصل إلي بكري وأمثاله في دنيا البرزخ، ليعلموا بأنهم في حدقات عيون من عرفوهم وعاشروهم وعرفوا مقدراتهم..... لك الرحمة بكري. salahmsai@hotmail.com