رسالة الصداقة: من أخبار الكاكوم والدلال

 


 

 

 

Khaldoon90@hotmail.com 


التقى الطالب الأمين البدوي الأمين كاكوم ، بزميله الطالب إبراهيم محمد محمود الدلال لأول مرة ، بمدرسة خور طقت الثانوية التي تقع على بعد نحو تسعة كيلومترات شرق مدينة الأبيض ، قصبة بلاد كردفان بغربي السودان الأوسط. وكان ذلك عندما قُبلا معاً بتلك المدرسة العريقة ، في أواخر السنوات السبعين من القرن الماضي. جاء إليها الأول من بلدة " أم دم حاج أحمد " بشرق كردفان ، بينما قدم إليها الآخر من بلدة " أم بادر " التي تقع في الركن الشمالي الغربي من تلك الولاية. وكلتاهما بلدتان مشهورتان عامرتان ، وذواتا صيت طائر ، سواء كان ذلك داخل الولاية ، وحتى خارجها على نطاق السودان الواسع إلى حد ما. ذلك بأن الناس قد كانوا ما يزالون يستمعون من خلال المذياع في برنامج " في ربوع السودان " - على سبيل المثال – إلى بدو الكبابيش وهم يرتجزون في غناء " التوية " قائلين:
السجادة الأهلها عجمْ
أم ريداً لا قدم لا تمْ ..
......................
ودوني لى حكيم أم دمْ .. الخ ..
ذكر لي الوالد عليه رحمة الله ورضوانه اسم ذلك الحكيم المعني ، ولكنني أنسيته لطول العهد.
والأشهر منها قطعاً ، ذكر البلدة الأخرى " أم بادر " الذي خلدته الأغنية الشعبية التي اصطفاها الفنان الشامل الأستاذ عثمان حميدة تور الجر أثناء جولة فنية له في ربوع كردفان ربما في مطلع ستينيات القرن الماضي ، وأهداها للمطربة الصداحة " مهلة العبادية " ، فأدتها بصوتها الشجي:
الليلة والليلة
دار أم بادر يا حليلا
بريد زولي ..
التقيا إذن في ربوع تلك المدرسة المرموقة الجامعة ، وهما ما يزالان في ميعة الصبا وشرخ الشباب الباكر ، حزاورةً أيفاعاً ، ما طر لأحدهما شاربٌ بعد ، فما لبثا أن تعانقت روحاهما ، وأتلفت كيمياوهما ائتلافاً عجيباً ، فصارا في سرعة فائقة ، " ربيعين " كما يؤثران أن يقولا ، بترقيق الراء على مذهب لهجة أهل تلك البوادي ، أي أنها قد أضحيا إلفين يضمهما ربعٌ واحد ، فهما يقومان ويقعان معاً كركبتي البعير.
قدم ذانك الفَتَيان إلى المدرسة الثانوية ، وكلٌ مهما مشبع حتى الثمالة سلفاً ، بحصيلة وافرة جداً من الأداب والأشعار والقصص والأخبار ، من كلا التراثين العربي االفصيح ، والشعبي العامي السوداني ، فتوجها كلاهما نحو الاستزادة من تلك العلوم والمعارف والفنون ، سواء من خلال مناهجها التعليمية النظامية الراتبة ، أو من خلال النشاط الثقافي الموازي أو اللاصفي ، فازدادت حصيلتاهما وازهرتا ازدهاراً كبيراً خلال تلك المرحلة التي شهدت خصوصاً ، تفتق ملكة إبراهيم الدلال في قرض الشعر الفصيح من والعامي ، في الوقت الذي تفتحت فيه ملكة صنوه الأمين كاكوم في السرد الفني ، والنقد الأدبي ، والخطابة ، والمناظرة ، وإلقاء المحاضرات.
والحالُ كذلك ، فقد توجه كلا الصديقين بصورة طبيعية وتلقائية ، إلى الانخراط في المساق الأدبي ، فصارا من " الكرشجية " كما كانوا يعرفون بهذا الاسم عصرئذ في مدرسة خورطقت ، وربما في غيرها من المدارس الأخرى النظيرة لها في السودان عموماً أيضا. هذا ، وقد كنا نحن أيضاً من الكرشجية والحمد لله. والكرشجية هو نبذٌ كان ينعت به منتسبو المساق العلمي من أبناء تلك المدرسة ، زملاءهم المنتسبين إلى المساق الأدبي. ولم يكن يخلُ ذلك النبذ من شئ من التنقص والسخرية المستبطنة التي مؤداها العام ، هو أن الطلاب العلميين ، هم من يتعلمون المواد العلمية و العملية المفيدة ، التي تؤهلهم إلى أن يصبحوا أطباء ومهندسين وصيادلة ، وسوى ذلك من المهن المرموقة ، بينما أن الطلاب الأدبيين ، يدرسون مجرد كلام وتنظير والسلام ، وأن مستقبلهم المهني غامض أو بائس على أحسن تقدير. وكلمة " كرشجية " كما يقال ، مشتقة اشتقاقاً محرفا من كلمة culture بمعنى ثقافة في اللغة الإنجليزية ، ثم أضيفت إليها اللاحقة " جي " التركية الأصل ، التي تفيد الحرفة أو المهنة.
وبالفعل كان الكاكوم والدلال ، ذوي نزعة سيوطية واضحة. بمعنى أنهما كانا ينفران نفاراً بيناً من مواد الرياضيات والكيمياء والفيزياء وما إليها من طلسمات ، مثلما أن الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي 1445 - 1505م ، الذي كان على سعة علمه ، وتبحره ، وقدرته المدهشة على التأليف في كل فن من الفنون تقريبا ، قد صرح في معرض سيرته الذاتية الموسومة ب " حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة " ، بأن أعسر شئ عليه من صنوف العلم ، كان هو علم الحساب. وهو قوله: " وأما علمُ الحساب ، فهو أعسرُ شئ علي وأبعده عن ذهني. وإذا نظرتُ في مسألة تتعلق به ، فكأنما أحاول جبلاً أحمله. " أ. هـ
وكذلك كان حال صاحبينا الكاكوم والدلال مع مادة الرياضيات. وقد حدثني الأمين كاكوم بنفسه أن نتيجته في مادة الرياضيات في امتحان الشهادة الثانوية الوطنية كانت واحداً فقط من مائة ، أو " عكاز واحد " كما وصفه لي ضاحكا. أما صاحبه الدلال ، فأخبرني عنه الأمين في ذات السياق ، أنه كان قد سلم ورقة امتحان الرياضيات كما هي ، بيضاء من غير سوء ، فكان حظه صفرا كبيراً بالطبع. ولكن الاثنين برزا في باقي المواد الأخرى ، وخصوصاً مواد: اللغة العربية ، والتربية الإسلامية ، واللغة الإنجليزية ، والأدب الإنجليزي ، والتاريخ جميعاً تبريزاً باهراً ، مكنهما من أن يقبلا معا وبكل سهولة ويسر ، بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ، من ضمن نحو ما يزيد قليلاً على المائتي طالب فقط ، تم اصطفاؤهم من بين عشرات الآلاف من الطلاب والطالبات على مستوى السودان قاطبةً آنئذ.
كنت أتقدم الأخوين الكاكوم والدلال بفصلين في خور طقت الثانوية ، فلحقا بي في كلية الآداب بجامعة الخرطوم ، فألفياني بها في السنة الثالثة. ولما كنت على معرفة وثيقة بالأمين كاكوم بحكم أنه من أبناء قريتي نفسها ، وقد ظللت أعرفه معرفة تامة ، واحتفظ له بصداقة وود خاص منذ الطفولة إذ كنا جيراناً أيضاً ، فقد تهيأت لكلينا الفرصة لرعاية تلك الصلة وتوثيقها ، بعد أن بلغنا سن الرشد ، وأدركنا مرحلة النضوج الفكري والثقافي والمعرفي إلى حد ما ، بما يتيحه مناخ مثالي كمناخ جامعة الخرطوم في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي. ثم إن الأمين كاكوم قدعرفني على نحو أوثق بصفيه إبراهيم الدلال ، الذي كنت أعرفه معرفة سطحية في الواقع من خلال السنة الوحيدة التي تعاصرنا فيها معاً في رحاب مدرسة خور طقت الثانوية ، قبل أن أغادرها لدراسة الجامعة بالخرطوم.
لقد كان الأمين كاكوم وإبراهيم الدلال محظوظين حقاً ، إذ أنهما وجدا كلية الآداب حينئذ ، وخصوصاً قسم اللغة العرببة الذي انتسبا إليه ، مزداناً بكوكبة وضاءة من كبار الأساتذة مثل: العلامة عبد الله الطيب إثر عودته للتو من فترة انتداب بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس بالمملكة المغربية ، إلى جانب الأساتذة: البروفيسور عون الشريف قاسم ، والبروفيسور صلاح الدين المليك ، والدكتور الحبر يوسف نور الدائم ، والأستاذ محمد الواثق ، والدكتورة زكية عوض ساتي ، والدكتور عبد الله محمد أحمد ، والدكتور الحسين النور يوسف وغيرهم. فنهلا من علوم أولئك الجهابذة الأفذاذ ومعارفهم ما شاء الله لهما أن ينهلا. وكان الأمين بالذات ، أثيراً جداً لدى العلامة عبد الله الطيب ، الذي كان يدنيه منه ويقربه إليه ، حتى لأوشك أن يصير عنده بمنزلة أبي يوسف القاضي ، من الإمام أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه. استأذنت مرة زائراً العلامة عبد الله الطيب في مكتبه للتحية والسلام ، فوجدت معه الأمين البدوي ، وهو يقرأ عليه فصولاً من كتاب " الفروق " لشهاب الدين القرافي المالكي المتوفى في عام 684 هـ ، من نسخة قديمة ، ذات ورق أصفر حائل اللون.
وكان الكاكوم والدلال ربما اختلفا علاوة على أساتذتهما بقسم اللغة العربية ، إلى أمثال المرحوم الشاعر الدكتور محمد عبد الحي أستاذ الأدب الإنجليزي ، بمكتبه بقسم اللغة الإنجليزية ، فما يزالان في أنس وتجاذب لأطراف الحديث معه. ومرة شخص الكاكوم إلى مدينة ود مدني بطلب من الدكتور محمد عبد الحي ، الذي كان قد جعل يميل إلى التصوف شيئاً ما في أواخر سني عمره الغض ، فجلب إليه منها نسخة من كتاب " الجلجلوتية " في الأوقاف والقرانات من بعض معارف الكاكوم من الفقرا من مهاجرة غرب إفريقيا المقيمين هناك. ويقيني هو أن الدكتور محمد عبد الحي ابن الخرطوم 2 ، وخريج جامعة أوكسفورد الأرستقراطية ، لم يسمع بكتاب الجلجلوتية ذاك ، إلا من فم الأمين كاكوم المسلط نفسه. وكذلك كانت صلتهما قوية بالدكتور عبد الله علي إبراهيم بمعهد الدراسات الإفريقية والآسيوية ، الذي كان يراجع معهما أخبار بادية الكبابيش ، وتراثها الشعبي ، وخصائص لهجتها العامية.
وتجاوزت صلات الأمين كاكوم الأساتذة السودانيين ، فعقد علاقات حميمة مع بعض الأساتذة الأجانب الذين كانوا يفدون على جامعة الخرطوم من حين لآخر ، ومنهم باحث أستاذ ياباني تخصص في الشؤون السودانية ، ند عني اسمه.
وشأنهما شأن أي ثنائي فني معروف ومشهور ، يكون من الملاحظ عليهما في أحيان كثيرة ، أن يكون أحدهما في سمته وهيئته وحركته ونبرة صوته ، أكثر جرأة ، وأظهر حضوراً واندفاعاً وتأتياً و " حركات وشيطنة " ، وربما أقوى صوتاً نوعاً ما. تجد ذلك في الثنائي مرغني المامون وأحمد حسن جمعة ، وكذلك في ثنائي العاصمة إبراهيم أبو دية والسني الضوي على التوالي. فكذلك يظهر الأمين بمظهر الرجل المتوثب والجرئ والمبادر أو " الكُلفاح " كما يُسمى مثل ذلك الرجل في كردفان ، وهو نفسه ما يُعرف بالرجل " القومابي " في بلاد النيل الأوسط بالسودان ، بينما يغلب على سمت إبراهيم الدلال ، شئ من الركانة والرزانة والحياء والتأني.
لم يكتف الصديقان بما كان يُلقى عليهم من الدروس من داخل القاعات بالكلية ، ولا مما كانا يتسقطانه من المعارف والأخبار والمعلومات – وهي غزيرة ومتنوعة وثرية للغاية - من خلال سائر مناشط وفعاليات الحركة السياسية والثقافية والاجتماعية الموارة والصاخبة التي ظلت تُعرف بها جامعة الخرطوم حتى إلى عهد قريب ، بل واصلا ما كانا قد عُرفا به أصلاً منذ صباهما الباكر من انفتاح على المجتمع السوداني العريض ، ورموزه المعرفية والثقافية ، وتراثه الشعبي والفني. أما الدلال ، فقد قادته تربيته ونشأته إلى سلوك نهج التصوف ، فسلك الطريقة التجانية على يد الشيخ يوسف إبراهيم بقوي رحمه الله بود مدني ، فصار من بعد ، من أوثق الباحثين المعاصرين معرفة بتاريخ هذه الطريقة ورموزها داخل السودان وخارجه. وللدلال منظومة شعرية طويلة ضمنها جميع مشايخ الطريقة التجانية تقريبا ، وخصوصاً في داخل السودان. وكان قد أطلعني على بعض أبياتها قبل سنوات ، فترجوته أن يعمد إلى جمعها في الحاسوب حتى لا تضيع ، والعمل على طباعتها ونشرها ، بوصفها أثراً أدبياً وتاريخياً نفيسا. ومنها قوله:
أكابرُ الطريق في السودان من خدموا طريقة التيجاني
الطاهرُ الحيمادي ابنُ التلب بجاههم نُجارُ من الســـــلب
صار بها في رفعة الأقمار مبشر الفوتي في سنار ... الخ
وهذه المنظومة تحتاج بالطبع ، لشروح وحواشي حتى تعظم الاستفادة من المعلومات الغزيرة والمفيدة التي وردت فيها.
وكان الشيخ إبراهيم ربما غادر مساكن الطلاب بالبركس عصر هذا الخميس أو ذاك ، متوجهاً إلى مسجد الشيخ العلامة مجذوب مدثر الحجاز بحي أب روف بأم درمان ، لكي يشهد ذكر الجمعة هناك.
وأما الأمين كاكوم ، فإنه علاوة على ما اتصف به من صلة واشجة ، ووفاء لطريقة آبائه ، ألا وهي الطريقة المكاشفية القادرية ، صعدواً إلى الشيخ عبد الباقي النيل راجل أم قنطور ، فقد نمى لديه أيضاً ، كلفاً واهتماماً ظاهراً بالفلكلور ، والأدب الشعبي ، والأثنوغرافيا ، والمعارف الشعبية عموماً ، فضلاً عن ميل للتواصل الحميم مع المشتغلين بمثل هذه الأشياء من غمار الناس نساء ورجالا. ومن عجب أنه كان يلقى من جميع هؤلاء ، قبولاً منقطع النظير ، بمن فيهم صنوف الرمتالة ، والفتاك ، والمتهتكتين ، ومقاطيع الطاري. فهم يهشون له ، ويجيبونه إلى مسائله ومطلوباته في ود وأريحية. ذلك بأنه يحسن الحديث إليهم بلغتهم ، ويدخل عليهم بالمداخل الصحيحة لشخصياتهم ، فهو مثل الأستاذ الراحل الطيب محمد الطيب في هذه الناحية.
قال لي مرةً ، إنه ما حسد شخصاً على سيرة ذاتية C.V ، وقالها لي هكذا بالإنجليزية ، إلا على السيرة الذاتية لرجل من أصفيائه يسمى " قيدم " ، كل عناصر سيرته الذاتية تتلخص في أنه: " نجامي من سيالة ود البولاد !! ". وكان يرى أن تلك السيرة الذاتية للشيخ قيدم ، أحفل من سيرة البروفيسور محجوب عبيد طه ، وأعمر من سيرة الدكتور فاروق الباز ! . ذلك ، والنجامي بجيم مشددة مفتوحة تليها ميم مكسورة ، هو المُنجم أو العراف الذي ينظر في النجوم ، ويخط على الرمل ، فيدعي التنبؤ بما سوف يحدث في المستقبل. وقد زعم لي الأمين ذات مرة أيضا ، أن صديقا له آخر عرافا من قرية " الدفينة " بريفي ود عشانا ، قد تنبأ له بوقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2011 م ، قبل حدوثها ببضعة أعوام ، فالله أعلم أي ذلك كان.
كان الأمين كاكوم على تواصل منذ سنوات طلبه بالجامعة ، وإلى ما بعد تخرجه فيها ، بشخصيات مثل: الفنان محمود عبد الكريم " فردة ثنائي أولاد الموردة " ، وكان قد أسن آنئذ ، وبالمطرب بادي محمد الطيب ، وبالباحثين من أمثال " علي الدكشنري " ، والأستاذ " عوض بابكر " ، فيتباحث معهم حول تاريخ ما يسمى بغناء الحقيبة في السودان 1920 – 1940م ، وبهذه المناسبة ،ما أزال أنا أعاود إلى الآن بين الفينة والأخرى ، مشاهدة حلقة شهيرة بثتها إحدى القنوات التلفزيونية السودانية قبل بضعة أعوام ، مسجلة على " يوتيوب " ، شارك فيها الأمين كاكوم ، وأدى فيها المطرب جمال النحاس أداء أخاذاً ، إحدى أروع أغنيات الحقيبة ، ألا وهي أغنية " يا سليم الذوق الجمالك صار .. زينة الأيام متعة الأبصار " ، والتي هي من كلمات الشاعر عبيد عبد الرحمن ، وربما من ألحان كرومة. وقد كان الطرب والاستحسان باديين على محيا أخينا الأستاذ الأمين طوةال تلك الجلسة الفنية العامرة.
تخرج " توأما برقو " إذن في كلية الآداب قبيل نهاية الثمانينيات من القرن الماضي ، وكان حقهما لو لا قليل ، أن يكونا الآن أستاذين كبيرين للأدب العربي في أي من الجامعات ، لو أنهما سلكا السبيل المناسب إلى ذلك. ولكن إرادة الله سبحانه وتعالى قبل كل شئ ، شاءت أمراً آخر ، وكلٌ ميسر لما خُلق له.
وكما نفر الرجلان عن الرياضيات والعلوم البحتة منذ المرحلة الثانوية ، فقد نفرا أيضاً عن مقارفة الوظيفة الديوانية العامة ، فلم تستهوهما ، ولم يحاولا الاقتراب منها البتة ، ولا مجرد محاولة. انخرط الصديقان عوضاً عن ذلك في التجارة والأعمال الحرة ، فشرقا معها وغربا ، فهما طوراً في ليبيا وتارة في مصر ، وآناً في حمرة الشيخ ، أو في جريبان أو اللعيت جار النبي ، وآنا آخر في الروصيرص أو الدمازين. بيد أنه يبدو أنهما لم يجنيا منها فائدة تذكر.
وفي غضون ذلك ، تعرف الرجلان على أصناف شتى من البشر ، كان من أبقاهم ذكراً في نفسيهما ، لجهة ما اتسموا به من صدق المودة ، والظرف والطرافة والحس الفكاهي والعفوية ، طائفة من الأعراب الأقحاح ، والريفيين الخلص ، الذين تقاطعت دروبهم معهم بضواحي غرب أم درمان الخلوي البعيد الذي هو عالم قائم بذاته ، ولا علاقة له بأم درمان خليل فرح ، ولا بمدينة علي المك التي هي من تراب. فضاء غفل محض ، تحس فيه أنك في حيث لا حيث وعند لا عند. فلا تدري هلى أنت في شمال كردفان ، أم في نهر النيل ، أم في الولاية الشمالية ، أو بولاية الخرطوم. أعني أماكن مثل: سوق المويلح ، والشيخ أبو زيد ، وسوق قندهار ، والقليعة ، وسوق ليبيا. قال إبراهيم الدلال في قصيدة له:
وموطني هامشُ ام درمان مُنفرداً
فخل عنه ولا تسأل عن السبــــب
وحدثني الأمين يوماً ، أن الصدفة قد جمعته ذات نهار قائظ في ظل راكوبة في تلك الفجاج ، بواحد من جوقة الفنان الكبير النعام آدم ، زاعماً أنه هو نفسه الذي يرفع عقيرته مزغرداً كالنساء ، عندما يستبد به الطرب حينما يشدو النعام بمثل رائعة الشاعر خضر محمود سيد أحمد: " مقسوم لي مقدر .. الحب والغرام مكتوب مسطر .. ياخي ". ففرح الأمين بذلك اللقاء مع عضو فرقة النعام ، أكثر من فرحه لو أنه قابل راغب علامة بدلاً عنه.
ومرة اتصلتُ على الدلال هاتفياً من خارج السودان ، فرد علي ، وكان يبدو أنه لا يسمعني جيداً ، وأحسست بأن المكان الذي كان موجوداً به ، فيه ضوضاء وضجة غير عادية ، فسألته: أين أنت يا رجل ؟ فرد علي: أنا في ال Hey Market أي " سوق القش " بنواحي سوق ليبيا ، فضحكنا وواصلنا حديثنا. والمعروف هو أن الهيماركت ، موضع مشهور في العاصمة البريطانية لندن ، وله ذكر في رواية الطيب صالح ذائعة الصيت " موسم الهجرة إلى الشمال " ، وإنما آثر الشيخ الدلال الإشارة إلى سوق القش الأمدرماني بترجمة اسمه إلى الإنجليزية تفكهاً منه ، ولبيان المفارقة المضحكة ، رغم التطابق الحرفي في مدلول الاسمين ، ولكن:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى
يزيد سُليم والأغر ابن حــاتـــم
اشتغل الرجلان في بحر التسعينيات من القرن الماضي ، وشطراً صالحاً من هذين العقدين الأولين من الألفية الجديدة ، متعاونيْن مع الهيئة الوطنية للإذاعة والتلفزيون ، في مجالات التدقيق اللغوي ، وإعداد بعض البرامج الثقافية ، وبرامج المنوعات والبحوث وغيرها ، وقد أهلهما لذلك كونهما خريجين في مجال الآداب من جامعة مرموقة ، فضلاً عن كونهما أديبين مبدعين ، ذوي معرفة واسعة ، وعلم مكين بكلا التراثين العربي الفصيح ، والسوداني الشعبي الدارج. ولكن كل ذلك لم يشفع لهما – فيما يبدو – مع صديقهما الأثير البدوي القح الملقب ب " ود عنقر " ، الذي ظن بحكم مخالطته لهما ، وتبسطهما معه في الحديث ، وذهابهما مذهبه في كل شئ تقريباً ، أنهما يعملان خفيرين يتعسسان ليلاً أمام بوابة التلفزيون ، يحمل كل منهما هراوة غليظة ، وينوط سكيناً بذراعه .فسألهما بكل براءة: بتشتغلوا هناك بالليل ما كدي ؟؟!!.
حيا الله صيقي العزيزين الأديبين الكبيرين ، الأستاذين الأمين كاكوم وإبراهيم الدلال ، وأبقاهما في عافية وصحة وسعادة

//////////////////////////////////

 

آراء