رقصة الصحة والسياسة: رحلة البحث

 


 

 

dr.abdelmonim@gmail.com

مقدمة:
في العالم المتسارع شديد التعقيد، كشفت في منتصف ثمانينيات القرن العشرين منظمة الصحة العالمية النقاب عن استراتيجيتها “الصحة للجميع”، في تجاهل تام للتغيرات السياسية في العالم والعلاقة الشائكة بين الصحة والسياسة: فالصحة والسياسة ليسا مجرد معارف، بل شريكان متشابكان بشكل معقد على المسرح العالمي.
يتجاوز الجدل المستمر في ميدان الصحة العامة بين المنظور الضيق المرتكز على الجينات والأحياء الدقيقة وبين التحليل الاجتماعي للأوبئة، والذي يُعتبر من قِبل البعض نقاشًا سياسيًا بحتًا، ليتساءل بعض المتشددين ببساطة: "هل يجب على علماء الأوبئة أن يلتفتوا إلى علاج مشكلة الفقر في المجتمع؟"
"السياسة هي كل شيء"؛ إنها مصطلح يمكن استخدامه لوصف أي "علاقة مهيكلة بالسلطة" كما قالت كيت ميليت. الرعاية الصحية، وخصوصًا في البلدان التي تلعب فيها الدولة دورًا مهمًا في تقديم الرعاية الصحية، تُعتبر موضوعًا دائمًا للنقاش السياسي. ولكن، هل كانت الآثار الصحية جزءا من قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟ وما هو الدور السياسي لحضر استخدام التمويل الفيدرالي في الولايات المتحدة الأمريكية للبحث العلمي المتعلق بإصابات الأسلحة النارية؟
من أجل زيادة الجوانب التي يُعتبر أنها متعلقة بالسياسة في مجال الصحة، يجب أن نتحدى ونعيد تعريف فهمنا للسياسة، يحاول هذا المقال كشف العلاقة المعقدة بين الصحة والسياسة، والخوض في الفلسفة الجوهرية للصحة، والإبحار في متاهة عدم المساواة الصحية، والتدقيق في المحددات الاجتماعية للصحة، وتحدي عدم تسييس هذا الجانب المحوري من الوجود البشري.

ولكن، لماذا يتم تحييد الصحة من السياسة دوما؟

سوء فهم للصحة وتفسيرها في السياسة
نميل غالباً إلى تجنب التورط في الجوانب السياسية، بدلاً من ذلك نعتمد نهجاً ضيقاً وربما أسهل بالانغماس والغوص في الجوانب التقنية للصحة. ونحن نبين أسباب تنفيذ المناهج المستندة إلى الأدلة دون النظر في كيفية التنفيذ العملي والفعلي المتناسب مع الزمان والمكان.
وفي ذات الاطار يتم تبسيط مفهوم الصحة على أنها مجرد رعاية صحية، وهذا التبسيط يُجهض تمامًا الجوانب السياسية المحيطة بها. على سبيل المثال، في المملكة المتحدة، ينصب الحديث السياسي بشكل أساسي حول مسائل مثل تمويل وتنظيم والضغط الديموغرافي المرتبط بتقديم الخدمات الصحية الوطنية.
وهذا التقليل للصحة إلى الرعاية الصحية يمكن ارجاعه إلى تعريفين رئيسيين: تعريف الصحة وتعريف السياسة. حيث تُعرف الصحة عادة على أنها غياب المرض من منظور طبي وكسلعة من منظور سياسي-اقتصادي، وترتكز جميع هذه التعريفات على الأفراد وليس على المجتمعات ككل. لتعتبر الصحة نتيجة لعوامل فردية مثل الجينات واختيارات نمط الحياة، وكذلك سلعة يمكن للأفراد الوصول إليها عبر السوق أو نظام الرعاية الصحية.
وبناءً على ذلك، يعزى عدم المساواة في توزيع الصحة إما إلى تقصير الأفراد أو إلى الطريقة التي يتم بها إنتاج وتوزيع منتجات الرعاية الصحية.
وللتغلب على هذه المعضلة، يُوجَّه الاهتمام السياسي عادة نحو الأنظمة الصحية. وعلى الرغم من أهمية الصحة التي يعبر عنها في الساحة السياسية، والتي ما زالت تُشدد على الرعاية الصحية والخدمة الصحية الوطنية في مناقشاتها حول الصحة. يبدو أن هذا التفكير يتغير تدريجيًا، حيث تسعى بعض الحكومات إلى معالجة مسألة عدم المساواة في الصحة من خلال الخدمة الوطنية للصحة، مع الاعتراف في الوقت نفسه بتوسيع هذه الفجوات من خلال سياساتها الاقتصادية والاجتماعية (النيوليبرالية).
على الجانب الاخر، يجب الحذر من الانزلاق الكلي إلى السياسة وعلم الاقتصاد الكلي عند التفكير في الصحة العامة، فاستخدام مفاهيم كبيرة جدا في كل مناحي الصحة العامة مثل الرأسمالية والشعبوية والنيوليبرالية يمكن أن تعترض طريق التحليل التجريبي الدقيق الضروري في مجال الصحة العامة.

الصحة: ما وراء التسليع
الصحة التي غالبا ما ينظر إليها من خلال عدسة الاقتصاد، تلعب دورا مركزيا في مسرح السياسة. في عصر النيو ليبرالية، تقف كمورد ثمين وسلعة مرغوبة. لينطبق عليها تماما ما ينطبق على السلع في هذا العالم المادي ليتركها بعيدة كل البعد عن المساواة. حيث يستمتع البعض بالأضواء الكاملة في الصف الأمامي، تاركا الكثيرون في هامش المساواة والعدالة.

رقصة المحددات الصحية
تتشابك الكوريغرافيا المعقدة للمحددات الاجتماعية للصحة مع الخطوات المتشابكة للسياسة. هذه المحددات، التي تشمل عوامل مثل الوضع الاجتماعي والاقتصادي، والحصول على التعليم، والظروف البيئية، لتنتظر الفاعل الرئيسي والشريك المناسب وهو السياسة في مقالنا هذا، لقيادة الرقص أو تعريض الصحة لمخاطر التلاشي والتعامل معها كباقي السلع المستهلكة.
نحن نفهم اليوم بشكل أفضل أسباب الإصابة بالأمراض والميول الجينية لها. ويظهر بوضوح أن في معظم الحالات، العوامل المحيطة هي عوامل مهمة، بل وربما أكثر أهمية، وأن أهم محددات الصحة أو المرض مرتبطة بشكل لا يمكن فصله عن السياق الاجتماعي والاقتصادي. عوامل مثل الإسكان والدخل والتوظيف والعديد من المسائل التي تهيمن على الحياة السياسية - هي محددات رئيسية لصحتنا ورفاهيتنا. وبالمثل، العديد من المحددات الرئيسية لعدم المساواة في الصحة تكمن خارج قطاع الصحة وبالتالي تتطلب سياسات خارج قطاع الصحة للتصدي لها. التقديرات الأخيرة لأهمية العوامل الاجتماعية للصحة مرحب بها، ولكنها تواجه القصور والجدية المطلوبة في التعامل مع المحددات السياسية الأساسية للصحة وعدم المساواة في الصحة.

منظور حقوق الإنسان
أيضا الصحة ترقص برشاقة في عالم المواطنة وحقوق الإنسان. فهنالك الصحة تزين نفسها برداء ذو أهمية اجتماعية عميقة. إن حق كل فرد في الصحة، كما تعترف به الأمم المتحدة، يستند على حقه في الحياة والكرامة. الصحة ليست مجرد سلعة، ولكنها جزء لا يتجزأ من الوجود البشري.
في عالم مليء بالتحديات والتغيرات السريعة، تبدو العلاقة بين المواطنة والصحة وكأنها علاقة معقدة ترتبط بالصراعات السياسية والاجتماعية. فالمواطنة تضم في طياتها حقوقًا مدنية وسياسية واجتماعية، ومن أهم هذه الحقوق الاجتماعية حق الوصول إلى الصحة.
في تاريخنا الحديث، شهدنا النضال السياسي والاجتماعي الشاق من أجل الحصول على هذه الحقوق الأساسية خلال فترة الثورة الصناعية الغربية وصعود الرأسمالية. وعلى الرغم من أن هذين النموذجين تطورا بجانب بعضهما البعض، إلا أنهما تحملان قيمًا مختلفة - فالرأسمالية تميل إلى تعزيز عدم المساواة، بينما المواطنة تتجلى في المساواة.
تحت الرأسمالية، تصبح الصحة، مثل أي شيء آخر، سلعة يتعامل معها في السوق الاقتصادي. هذا التحول أصبح واضحًا خلال الثورة الصناعية عندما بات العمال يعتمدون على السوق للحفاظ على صحتهم ورفاهيتهم.
لكن في القرن العشرين، جاء تقديم مفهوم المواطنة الاجتماعية ليغير مسار الأمور. فأُعطيت حقوقًا للصحة والرعاية الاجتماعية، مما أدى إلى تقليل من مكانة الصحة كسلعة بحتة. ساهمت دولة الرعاية الاجتماعية في تحسين سمعة الصحة عبر ضمان الخدمات الصحية الأساسية وتحقيق مستوى معيشة لائق كحقوق أساسية للمواطنين.
هذا الصراع الدائم بين الرأسمالية والمواطنة يُظهر لنا أهمية التوازن بين الاقتصاد والإنسانية. لن يكون تحقيق حق الصحة مهمة سهلة، وسيستمر في المستقبل بالمزيد من النضال السياسي، ولكننا نأمل أن نشهد تطورات إيجابية من خلال إطار المواطنة الاجتماعية ومبادئ حقوق الإنسان الدولية. فالصحة هي حق لا يُساوم عليه، ونحن ملزمون بجعلها متاحة للجميع.

أصوات مكتومة: سياسة الرعاية الصحية
غالبا ما يصبح صوت الصحة مجرد همس داخل المناقشات السياسية، ويختزل في الحدود الضيقة لتقديم الرعاية الصحية. ورغم أن تقديم الرعاية الصحية يشكل أهمية بالغة بلا شك، فلا ينبغي له أن يحجب الفلسفة الأوسع نطاقا للأهمية السياسية العميقة للصحة. لأن سياسات الصحة تمتد إلى أبعد من حدود أنظمة الرعاية الصحية والتمويل.

الصحة: كيان نازح في العلوم السياسية
في العلوم السياسية، غالبا ما تجد الصحة نفسها محصورة في الهامش، محصورة داخل حدود أنظمة الرعاية الصحية ومؤسسات التمويل وتفاعلات النخبة. هذا التعاطي قصير النظر يحجب الأبعاد السياسية الكبرى للصحة، ويحيلها إلى مجالات علم الاجتماع والصحة العامة.
يجب البحث بجدية في مجال الصحة ضمن العلوم السياسية وبالتالي، تصبح سياسة الرعاية الصحية هي سياسة المؤسسات والأنظمة. ومن الجدير بالذكر أن الصحة، في معناها الأوسع، هي قضية سياسية في المقام الأول، وينبغي ألا تكون اهتمامًا حصريًا لتخصصات مثل علم الاجتماع وصحة الجمهور والطب. وأحدي أهم مسببات غربة الصحة في العلوم السياسية يكمن في لغة التخاطب و التواصل بين نشطاء الصحة العامة و الساسة، و الذين في واقع الامر تتجمد قنوات التواصل بينهم غالبا بسبب اختلاف لغة الحوار تماما في اغلب القضايا المتعلقة بالصحة، و التي توحي أحيانا باختلاف الأهداف و الدوافع بين الفريقين.
بالمقابل، غالبًا ما نجد أن دراسات السياسة في مجال الصحة العامة إما دقيقة جدًا لدرجة أنها تتجاهل العامل الخارجي، أو عامة جدًا لدرجة أنها تجعل من الصعب رؤية الحلول العملية وتحقيق التغيير الفعلي.
هناك حاجة ملحة لتغيير نظرة خبراء الصحة العامة نحو مجال السياسة. يُعد أمرًا بالغ الأهمية أن نأخذ في الاعتبار دراستهم بحيادية تجاه الرؤى التي يقدمها السياسيون في الساحة العامة، وكذلك التأثير المباشر وغير المباشر لهذه الرؤى على الصحة العامة. يمكن القول بثقة إن تفكير الفاعلين في مجال الصحة العامة بعقلية السياسي يلعب دورًا حاسمًا في وضع استراتيجيات وسياسات صحية ذات توجه مستنير وفعال. فالساسة بسعيهم نحو النجاح يتعاملون في كثير من الأحيان مع مجموعة معقدة من العوامل تتجاوز إطار العلم والأدلة، مما يمكن أحيانًا أن يخيب آمال الفاعلين في الصحة العامة. والذين يغفلون حقيقة أن اتخاذ القرارات في الساحة السياسية يتضمن إطارًا مُعقدًا يشمل الاعتبارات الاقتصادية والأيديولوجية والشخصية أيضًا، حيث أن عملية التوازن الرقيقة بين القيم المجتمعية والتأثيرات المتنوعة قد لا تمنح السياسيين دائمًا رفاهية اتخاذ القرارات الصحية المسنودة فقط على البراهين العلمية.

علاقة الدولة بالمجتمع
القصور في مجال البحث في علاقات الدولة بالمجتمع في الدول النامية خصوصا، والذي يسعى إلى استكشاف الديناميكيات السياسية المعقدة التي تنشأ عندما تتفاعل الهيئات الحكومية مع مجموعات المجتمع المتنوعة. تطوير وتحسين هذا البحث يتعدى تحليل تأثير جماعات المصلحة على صياغة السياسات إلى استكشاف تأثير المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني على المشهد السياسي. هذا النظرة تقدم رؤى قيمة لمعالجة التحديات المعقدة، مثل تلك التي تواجه ممارسو الصحة العامة وصناع القرار.
في العام 2017، شهدنا حدثاً بارزاً في شمال إيطاليا يعد خير مثال لإشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع، حيث قامت مجموعة من الأهالي بخطوة استثنائية بالإعلان عن نيتهم اللجوء إلى النمسا. والسبب الرئيسي لاتخاذ هذا القرار هو خطوة الحكومة الإيطالية في تلك الفترة بجعل تطعيم الأطفال ضد 12 مرضًا إلزاميًا وعلى وجه الخصوص مرض الحصبة. هذا الحدث يؤكد على التوترات المستمرة بين الحكومات ومجموعات المواطنين فيما يتعلق بالنهج الأمثل لسياسات الصحة. ان التطعيم وهو تدخل مبني على الأدلة والتجربة مهم في انحسار الامراض، ولكن هذا المثال يوضح جليا أن بناء السياسات الصحية لا يقتصر فقط على الأدلة والبراهين، وان الهوة بين الدولة والمجتمع لا زالت تعاني من تصدعات خصوصا فيما يتعلق بالصحة.
برغم الاختلاف في أنظمة الحكم، تظل هذه العلاقة دائمًا معقدة. فالأنظمة الديمقراطية، التي تعكس تمثيلًا أوسع للمجتمع في هياكل السلطة، قادرة على إنتاج سياسات صحية مقبولة لدى المجتمع. وعلى الجانب المقابل تمامًا، الأنظمة الشمولية التي تسيطر على الموارد والمعرفة، تستمر في إنتاج سياسات صحية تعتبر فيها المجتمع والقوى المدنية كعوامل سلبية في عملية صياغة السياسات.
المسؤولية والسلطة
لقد أدى مفهوم إضفاء الطابع الطبي للصحة لدى السياسيين، إلى تحويل السلطة والمسؤولية عن الصحة من الأفراد والجمهور إلى أيدي النخب الطبية والصيدلانية. وقد أخذت هذه النخب زمام المبادرة في تعريف الصحة، وتشكيل آثارها السياسية، والتأثير على الاستقلال الفردي في الخيارات الصحي وبالتالي. تحجيم المشاركة المجتمعية في القضايا المتعلقة بالصحة.
هذا الإبعاد عن الجوانب السياسية للصحة، من خلال جعل السلطة والمسؤولية قاصرة على هذه الجماعات المهنية والتجارية لتحديد ما هي الصحة وبالتالي، اغفال طابعها السياسي، هذا يعني أننا لا ندرك سلطتنا على صحتنا الشخصية أو استقلاليتنا في التحكم بأجسادنا الخاصة.

السياسة الصحية: السعي لتحقيق الانسجام
يكشف الفحص الدقيق للسياسة الصحية عن تركيبة شديدة التعقيد. وهو يتجاوز مجرد مضمون السياسات، ويشمل تنسيق عملية وضع السياسة الصحية داخل الحدود العامة للسياسات العامة للدول. ليجعل نوتات السمفونية لصياغة السياسات تدوي ضمن معايير محددة مسبقا. في كثير من الأحيان، تتقاطع السياسات التي تهدف إلى تصحيح التفاوتات الصحية مع السياسات العامة، من أجل الانسجام مع توجه السياسات الأوسع، والتي تحدد الممكن والمقبول وغير الممكن أو غير المقبول.
إن عملية تقليل مفهوم "سياسة الصحة" إلى "محتوى سياسات الصحة" يحول الانتباه بعيدًا عن الطابع السياسي لعملية صنع السياسات ويجعلها غير مرئية، على سبيل المثال، الاشتراط الأساسي في الاقتصادات النيوليبرالية الغربية يؤدي لعدم المساواة بين الذين يعملون والذين يربحون. هذا التناقض يجعل معنى سياسات الحكومة البريطانية كمثال لـ "مكافحة التفاوتات الصحية" محل شك كبير - حيث لن تدعم أي حكومة حديثة عملية سياسية تسمح بتنفيذ كامل لسياسة اصلاح جذري للقطاع الصحي. بل تقوم الحكومات في هذا المجال بإصلاحات طفيفة ذات صدى قوي، متجاهلة ربط السياسات بالأسباب السياسية الكبرى للتفاوتات الاقتصادية والاجتماعية الذي ينعكس في عدم تكافؤ الفرص في الحصول على الخدمات الصحية. بلا شك حققت السياسات الصحية الناتجة عن تفاعل إيجابي بين ناشطين الصحة العامة و السياسيين طفرات في الصحة العامة للمجتمع ، و خير امثلة لهذه السياسات هي السياسات المتعلقة بإجراءات السلامة في الطريق و ربط احزمة الأمان و السياسات المتعلقة بالتطعيم. مع التأكيد الدائم بانه لا يوجد نهج عالمي يتناسب مع جميع الدول ووجوب تخصيص السياسات لتتناسب مع الظروف الخاصة بالدول وأدوار الجهات المعنية المختلفة.

خاتما، حان الوقت الذي يجب فيه أن نعترف ونناقش بصراحة السياسة الكامنة التي تتخلل الصحة - سواء بشكل ظاهر أو بشكل غير ملموس.
فالصحة، مثل مظاهر حياة الإنسان المختلفة، متشابكة بشكل عميق مع السياسة، كما يوضح في الجوانب التالية:
أولًا، الصحة حتما قضية سياسية في المجتمع الذي يعتمد على نظام اقتصادي نيوليبرالي حيث يتم توزيع الوصول إلى هذه الموارد الحيوية، على غرار السلع الأخرى، بشكل متفاوت بين الطبقات الاجتماعية المختلفة.
ثانيًا، تأخذ الصحة بعدًا سياسيًا نتيجة لتأثرها بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية، التي يمكن تأثيرها أو تعطيلها من خلال الإجراءات السياسية.
في السياق الأوسع، لا شك أن الصحة تعد قضية سياسية لا تُنكر، تخضع للتلاعب والسيطرة ضمن إطار اقتصادي واجتماعي وسياسي معقد. لتحقيق التغيير في هذا النظام، يجب علينا التعامل بصراحة مع هذه الجوانب السياسية والعمل نحو نظام رعاية صحية أكثر عدالة وإمكانية الوصول للجميع.
في الختام، سعى هذا المقال إلى إلقاء الضوء على التفاعل العميق بين الصحة والسياسة، متجاوزا حدود أنظمة الرعاية الصحية والتمويل. إن الاعتراف بالسياسة المتأصلة في مجال الصحة هو خطوة حتمية نحو معالجة أوجه عدم المساواة ووضع سياسات صحية فعالة يتردد صداها بشكل متناغم في السياق السياسي الأوسع.
هذه ليست سوى مقدمة لرحلة بحثية مستندة على مقالات علمية و ابحاث. ستتعمق المقالة التالية في هذه السلسلة عن الأيديولوجيات التي تشكل تصوراتنا للصحة والسياسة، وتقدم مزيدا من الأفكار حول هذه العلاقة المعقدة.

 

 

آراء