زيارة غير ميمونة
الفاضل عباس محمد علي
22 January, 2022
22 January, 2022
في أول مارس 1954 هبطت طائرة الرئيس المصري اللواء محمد نجيب بمطار الخرطوم في زيارة رسمية لافتتاح أول برلمان سوداني؛ ولكنه غادر المطار من باب خلفي، وتسللت سيارته إلي سراي الحاكم العام (القصر الجمهوري)، ثم عاد مسرعاً للمطار ليغادر إلي القاهرة، فلم يرحب به كم هائل من شعب السودان، وقد غطت الشوارع المحيطة بالمطار وبالسراي مليونيات المستنكفين لتلك الزيارة من جماهير حزب الأمة والاستقلاليين الرافضين للوحدة مع مصر التي كان المصريون يسعون لها بالظلف والناب في تلك الأيام. وقد نجم عن ذلك الحراك (المسمي بحادثة أول مارس) العديد من القتلي بالرصاص الحي، منهم ضابط شرطة انجليزي وأحد كبار الأنصار وحفنة من المدنيين والجنود. ولقد تمت محاكمات عاجلة لبعض قادة حزب الأمة مثل أمير الأنصار طيب الذكر عبد الله عبد الرحمن نقد الله، وحكم عليهم بفترات سجن متفاوتة، ولكن سرعان ما أطلق سراحهم. فقد أدركت حكومة الأزهري أن زيارة محمد نجيب كانت استفزازاً في غير مكانه لشرائح واسعة من أهل السودان كانت ضد الوحدة مع مصر، وكانت تطالب بالاستقلال التام النظيف كصحن الصيني بلا شق أو طق، مثل سائر الدول التي خرجت من بردة الاستعمار البريطاني كالهند. فكانت الزيارة كارثة دبلوماسية، ولكنها كبوة استقام السير بعدها، وشيئاً فشيئاً اقتنع الوطني الاتحادي حزب الأزهري بضرورة البعد عن النظام العسكري المصري، خاصة بعد أن انقلب مجلس الثورة نفسه علي رئيسه محمد نجيب ونكل به وأودعه سجناً قضي فيه باقي عمره، وقال الأزهري حينها: ( هذا ما فعلوه بابن جلدتهم، فما هو مصيرنا نحن البرابرة إذا أسلمنا قيادنا لهؤلاء القوم؟)، واستمسك أزهري ورفاقه بحتمية السير نحو تقرير المصير، وقد تم ذلك بالفعل بإعلان الاستقلال من داخل نفس البرلمان الذي لم يتشرف نجيب بافتتاحه، وكان ذلك الإعلان في 19 ديسمبر 1955.
ولقد قفزت تلك الزيارة لذهني لما سمعت بزيارة الرئيس السيسي للخرطوم اليوم، وبلادنا تئن وتلعق جراحها، ودماء الشهداء ما زالت تخضب شوارع الخرطوم ومدني وغيرها من ممدن السودان الثائرة. وخطر لي أنها زيارة غير موفقة (منحوسة) مثل سابقتها مفجرة أول مارس، لعدة أسباب، منها:
1. العلاقات بين البلدين في قمة التوتر كما يشير لذلك قفل وتتريس الطريق المؤدي للحدود المصرية، الذي لم يكن فقط بسبب زيادات رسوم الكهرباء، إذ تكشف للجماهير التي أوقفت الشاحنات الضخمة المتجهة لمصر أنها تحمل بلاوي بداخلها: بضائع مثل القطن والصمغ والسمسم والقنقليس والفحم وغيرها بدون تخليص جمركي وبدون أوراق تثبت دفع الرسوم المستحقة وموافقة بنك السودان، مما أكد للشارع السوداني شكوكه حول طبيعة التبادل التجاري مع مصر المجحف في حق السودان منذ عهد جعفر النميري مروراً بنظام البشير والإخوان لمسلمين حتي عهد السطوة البرهانية المترنحة اليوم, وستظل هذه المشكلة قائمة إلي أن تنظر حكومة الثورة في أمر الاتفاقيات التجارية والعسكرية مع القاهرة. والحكومة الثورية الآن في حالة مخاض وتخلّق، وليس هذا وقت مناسب لزيارة السيسي التي ربما تربك الحسابات وتثير المخارف، كأنه ثور في مستودع الخزف.
2. طوال حراك الشعب السوداني منذ ديسمبر 2018 ظلت الحكومة المصرية وإعلامها في حالة صمت كصمت القبور، ضاربة صفحاً عن أرتال الشهداء الذين ما فتئوا يسقطون علي أيدي جندرمة المكون العسكري وجنجويده، بينما جاء الدعم المادي والمعنوي بأريحية دفاقة من حكومات وشعوب العالم الحر، مثل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. ولا يستطيع الشعب السوداني الثائر أن يصنف زيارة السيسي: هل هي دعم للمكون العسكري الذي يرفضه الشارع تماماً؟ أم هل هي وقوف متأخر مع شعب ثائر سقط منه آلاف الشهداء والجرحي طوال الثلاث سنوات المنصرمه؟ وهل سيخطر في بال السيسي أن يترحم علي الشهداء أو أن يزور أياً من منازل ذويهم المكلومين لتقديم واجب العزاء؟ وهل سيجتمع مع ممثلي الشارع كما فعل الوفد الأمريكي؟ وهل سيحترم حق الشعب في التظاهر السلمي من أجل مجتمع مدني ديمقراطي؟ أم هل سيكتفي بفتح ملفي مياه النيل واحتجاز الشاحنات فقط؟ وفي هذه الحالة يكون كمن جاء للعزاء في وفاة والده من أقاصي الأرض ولا يفتح فمه إلا حول تقسيم ميراث الفقيد!
3. هنالك أصدقاء عديدون للسودان اجتمعوا مؤخراً بالسعودية للبحث في سبل دعمه للخروج من وهدته، ولم تكن مصر واحدة منهم. كما سجلت حضوراً سالباً بمؤتمر باريس قبل عام الذي تبرعت فيه الدول بمليارات الدولارات للسودان. بينما الدوله الوحيدة التي تتحدث عن الشعب السوداني ك"شقيق" هي مصر، وبالطبع هناك تمظهرات متعددة لهذا الإخاء، رغم أنها من طرف واحد – الطرف السوداني: فقد ذهب المتطوعون السودانيون بالآلاف عام 1948 ليحاربوا مع الجيش المصري في حرب فلسطين، وهبّ آلاف المتطوعين السودانيين لدعم الجيش المصري أيام العدوان الثلاثي عام 1956، وقبل السودان باتفاقيات السد العالي عام 1959 التي كانت مجحفة في حق السودان أيما إجحاف، إذ دمرت ثلاثين مدينة وقرية بمنطقة حلفا – بنخيلها وبساتينها وزرعها وضرعها وآثارها الضاربة في عمق التاريخ، وفرقت شعبها أيدي سبأ، لتفمرها بحيرة ناصر التي التهمت جزءاً عزيزاً من الأرض السودانية بثمن بخس، وبلا تعويض في شكل خط كهربائي من ذلك السد الذي شيده الاتحاد السوفيتي، وظلت المديرية الشمالية المتاخمة لمصر مظلمة تماماً حتي اليوم، بينما اشتعل الريف المصري بكهرباء السد من أسوان حتي الإسكندرية.
علي كل حال، إذا شكلت زيارة اليوم دعماً معنوياً للمكون العسكري فهي فاشلة تماماً قبل أن تبدأ ، إذ بات هذا المكون في خبر كان، وما هي إلا بضع أيام حتي يذهب لمزبلة التاريخ. فماذا أنتم قائلون لأجيال شباب السودان الثائرة الغضة التي سوف تتربع علي السلطة بلا أدني شك. وان كنتم أصلاً لا تتفقون مع هذه الثورة باعتبارها خميرة عكننة للأنظمة الاستبدادية بالمنطقة، والأنظمة التي تفرض هيمنتها علي شعوبها المقهورة بسطوة القمع والإرهاب والتقتيل والسجون، فلتعلموا أن أهم شعار رفعته هذه الثورة هو عدم التدخل في شؤون الغير، والبعد عن سياسة المحاور التي انتظمت المنطقة منذ سنوات، وسمحت للدول ذات الشوكة والمال أن تتدخل في شؤون غيرها الأقل شأناً في نظرها. ولتعلموا أن زمن الإيديوليجيات والتبشير بالرسالات العابرة للحدود قدد انتهي، وما يريد شعب ثورة ديسمبر إلا أن يؤسس نظاماً مدنياً ديمقراطياً، يتم فيه منح الجيش حقوقه كامله كمؤسسة حامية لحدود الوطن، تحت قيادة وزير دفاع مدني من صفوف الشعب.
إن شعبنا يحس بالوجود غير المريح لألاف المخبرين والعملاء المصريين، وهم لن يفتوا في عضد الشعب ولن يفشلوا ثورته. ولكن من الحكمة والدبار والنظرة الاستراتيجية للمستقبل البعيد، أن تعيد النخبة الحاكمة المصرية النظر في جذور العلاقة المصرية السودانية. فلقد فطرت الشعوب علي بحق تقرير المصير منذ عهد الرئيس وودرو ويلسون ونقاطه الأربع عشرة قبيل نهاية الحرب الكونية الأولي التي ركزت علي حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعلي ذلك قامت مبادئ الأمم المتحدة ومواثيق حقوق الإنسان الصادرة عنها منذ 1945. ورغم ذلك رأت الشعوب أن مصلحتها لا تتحق بالإنكفاء علي الذات، إنما بالتعاون والتكامل مع الجيران. ولقد بدأ هذا الاتجاه يؤتي ثماره بعد الحرب مباشرة بالسوق الأوروبية المشتركة التي تطورت حتي بلغت (الاتحاد الأوروبي)، فأصبح للأوروبيين برلمان وحكومة اتحادية وعملة موحدة – اليورو – وهكذا.
بل هنالك العديد من دول العالم الثالث التي جنحت للتكتلات الاقتصادية علها تحقق التعاون والتكامل بينها، وليس الاحتراب كما كان الأمر حتي (نهاية التاريخ) بنهاية الحرب العالمية الثانية. وأوضح مثال لهذه التكتلات الإقليميه دول مجلس التعاون الخليجي. ولكن مثل هذه التكتلات لن تنجح تماما إلا في ظروف الحرية والشفافية والديمقراطية والحكم السليم البعيد عن موروثات العهود الاقطاعية من توريث واحتكار السلطة لأسر أو طوائف بعينها، ولن يتحقق إلا في ظروف الدولة المدنية الديمقراطية، أي العلمانية.
لقد تمت العديد من المحاولات لتطوير العلاقات بين السودان ومصر وفق مفاهيم التكامل والتعاون الاقتصادي، ولكنها بكل أسف كانت تتم تحت أنظمة عسكرية آحادية، مثل نظام النميري ونظام البشير الإخواني, ولكن هذه المشاريع لن يكتب لها النجاح إلا إذا نشأت أنظمة ديمقراطية تعددية علمانية في كلا البلدين، وعندها تصبح الصحافة حرة والنقابات منتخبة في ظروف الشفافية والحرية، وهكذا يتم تصحيح المسار يوماً بعد أيام، وتلاحق الخروقات ومكامن الفساد في مهدها ويتم حسمها وتصحيحها.
إن السودان علي وشك تأسيس ذلك المجتمع الوطني الديمقراطي، مجتمع الحريات التامة للأفراد وللنقابات والهيئات والأقاليم، وتلك هي الدولة المؤسسة علي نظرية المنافع المشتركة والتعاون السليم مع من يمد يده بنية سليمة من الجيران وأبناء القارة. نتمني أن يأخذ جيراننا هذه الرؤي في حذرهم، وأن يتركونا وشأننا لنبني بلد السلام والعدالة والحرية، فذلك خير لنا ولهم.
حرية سلام عدالة....الثورة خيار الشعب !!!!!
ولقد قفزت تلك الزيارة لذهني لما سمعت بزيارة الرئيس السيسي للخرطوم اليوم، وبلادنا تئن وتلعق جراحها، ودماء الشهداء ما زالت تخضب شوارع الخرطوم ومدني وغيرها من ممدن السودان الثائرة. وخطر لي أنها زيارة غير موفقة (منحوسة) مثل سابقتها مفجرة أول مارس، لعدة أسباب، منها:
1. العلاقات بين البلدين في قمة التوتر كما يشير لذلك قفل وتتريس الطريق المؤدي للحدود المصرية، الذي لم يكن فقط بسبب زيادات رسوم الكهرباء، إذ تكشف للجماهير التي أوقفت الشاحنات الضخمة المتجهة لمصر أنها تحمل بلاوي بداخلها: بضائع مثل القطن والصمغ والسمسم والقنقليس والفحم وغيرها بدون تخليص جمركي وبدون أوراق تثبت دفع الرسوم المستحقة وموافقة بنك السودان، مما أكد للشارع السوداني شكوكه حول طبيعة التبادل التجاري مع مصر المجحف في حق السودان منذ عهد جعفر النميري مروراً بنظام البشير والإخوان لمسلمين حتي عهد السطوة البرهانية المترنحة اليوم, وستظل هذه المشكلة قائمة إلي أن تنظر حكومة الثورة في أمر الاتفاقيات التجارية والعسكرية مع القاهرة. والحكومة الثورية الآن في حالة مخاض وتخلّق، وليس هذا وقت مناسب لزيارة السيسي التي ربما تربك الحسابات وتثير المخارف، كأنه ثور في مستودع الخزف.
2. طوال حراك الشعب السوداني منذ ديسمبر 2018 ظلت الحكومة المصرية وإعلامها في حالة صمت كصمت القبور، ضاربة صفحاً عن أرتال الشهداء الذين ما فتئوا يسقطون علي أيدي جندرمة المكون العسكري وجنجويده، بينما جاء الدعم المادي والمعنوي بأريحية دفاقة من حكومات وشعوب العالم الحر، مثل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. ولا يستطيع الشعب السوداني الثائر أن يصنف زيارة السيسي: هل هي دعم للمكون العسكري الذي يرفضه الشارع تماماً؟ أم هل هي وقوف متأخر مع شعب ثائر سقط منه آلاف الشهداء والجرحي طوال الثلاث سنوات المنصرمه؟ وهل سيخطر في بال السيسي أن يترحم علي الشهداء أو أن يزور أياً من منازل ذويهم المكلومين لتقديم واجب العزاء؟ وهل سيجتمع مع ممثلي الشارع كما فعل الوفد الأمريكي؟ وهل سيحترم حق الشعب في التظاهر السلمي من أجل مجتمع مدني ديمقراطي؟ أم هل سيكتفي بفتح ملفي مياه النيل واحتجاز الشاحنات فقط؟ وفي هذه الحالة يكون كمن جاء للعزاء في وفاة والده من أقاصي الأرض ولا يفتح فمه إلا حول تقسيم ميراث الفقيد!
3. هنالك أصدقاء عديدون للسودان اجتمعوا مؤخراً بالسعودية للبحث في سبل دعمه للخروج من وهدته، ولم تكن مصر واحدة منهم. كما سجلت حضوراً سالباً بمؤتمر باريس قبل عام الذي تبرعت فيه الدول بمليارات الدولارات للسودان. بينما الدوله الوحيدة التي تتحدث عن الشعب السوداني ك"شقيق" هي مصر، وبالطبع هناك تمظهرات متعددة لهذا الإخاء، رغم أنها من طرف واحد – الطرف السوداني: فقد ذهب المتطوعون السودانيون بالآلاف عام 1948 ليحاربوا مع الجيش المصري في حرب فلسطين، وهبّ آلاف المتطوعين السودانيين لدعم الجيش المصري أيام العدوان الثلاثي عام 1956، وقبل السودان باتفاقيات السد العالي عام 1959 التي كانت مجحفة في حق السودان أيما إجحاف، إذ دمرت ثلاثين مدينة وقرية بمنطقة حلفا – بنخيلها وبساتينها وزرعها وضرعها وآثارها الضاربة في عمق التاريخ، وفرقت شعبها أيدي سبأ، لتفمرها بحيرة ناصر التي التهمت جزءاً عزيزاً من الأرض السودانية بثمن بخس، وبلا تعويض في شكل خط كهربائي من ذلك السد الذي شيده الاتحاد السوفيتي، وظلت المديرية الشمالية المتاخمة لمصر مظلمة تماماً حتي اليوم، بينما اشتعل الريف المصري بكهرباء السد من أسوان حتي الإسكندرية.
علي كل حال، إذا شكلت زيارة اليوم دعماً معنوياً للمكون العسكري فهي فاشلة تماماً قبل أن تبدأ ، إذ بات هذا المكون في خبر كان، وما هي إلا بضع أيام حتي يذهب لمزبلة التاريخ. فماذا أنتم قائلون لأجيال شباب السودان الثائرة الغضة التي سوف تتربع علي السلطة بلا أدني شك. وان كنتم أصلاً لا تتفقون مع هذه الثورة باعتبارها خميرة عكننة للأنظمة الاستبدادية بالمنطقة، والأنظمة التي تفرض هيمنتها علي شعوبها المقهورة بسطوة القمع والإرهاب والتقتيل والسجون، فلتعلموا أن أهم شعار رفعته هذه الثورة هو عدم التدخل في شؤون الغير، والبعد عن سياسة المحاور التي انتظمت المنطقة منذ سنوات، وسمحت للدول ذات الشوكة والمال أن تتدخل في شؤون غيرها الأقل شأناً في نظرها. ولتعلموا أن زمن الإيديوليجيات والتبشير بالرسالات العابرة للحدود قدد انتهي، وما يريد شعب ثورة ديسمبر إلا أن يؤسس نظاماً مدنياً ديمقراطياً، يتم فيه منح الجيش حقوقه كامله كمؤسسة حامية لحدود الوطن، تحت قيادة وزير دفاع مدني من صفوف الشعب.
إن شعبنا يحس بالوجود غير المريح لألاف المخبرين والعملاء المصريين، وهم لن يفتوا في عضد الشعب ولن يفشلوا ثورته. ولكن من الحكمة والدبار والنظرة الاستراتيجية للمستقبل البعيد، أن تعيد النخبة الحاكمة المصرية النظر في جذور العلاقة المصرية السودانية. فلقد فطرت الشعوب علي بحق تقرير المصير منذ عهد الرئيس وودرو ويلسون ونقاطه الأربع عشرة قبيل نهاية الحرب الكونية الأولي التي ركزت علي حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعلي ذلك قامت مبادئ الأمم المتحدة ومواثيق حقوق الإنسان الصادرة عنها منذ 1945. ورغم ذلك رأت الشعوب أن مصلحتها لا تتحق بالإنكفاء علي الذات، إنما بالتعاون والتكامل مع الجيران. ولقد بدأ هذا الاتجاه يؤتي ثماره بعد الحرب مباشرة بالسوق الأوروبية المشتركة التي تطورت حتي بلغت (الاتحاد الأوروبي)، فأصبح للأوروبيين برلمان وحكومة اتحادية وعملة موحدة – اليورو – وهكذا.
بل هنالك العديد من دول العالم الثالث التي جنحت للتكتلات الاقتصادية علها تحقق التعاون والتكامل بينها، وليس الاحتراب كما كان الأمر حتي (نهاية التاريخ) بنهاية الحرب العالمية الثانية. وأوضح مثال لهذه التكتلات الإقليميه دول مجلس التعاون الخليجي. ولكن مثل هذه التكتلات لن تنجح تماما إلا في ظروف الحرية والشفافية والديمقراطية والحكم السليم البعيد عن موروثات العهود الاقطاعية من توريث واحتكار السلطة لأسر أو طوائف بعينها، ولن يتحقق إلا في ظروف الدولة المدنية الديمقراطية، أي العلمانية.
لقد تمت العديد من المحاولات لتطوير العلاقات بين السودان ومصر وفق مفاهيم التكامل والتعاون الاقتصادي، ولكنها بكل أسف كانت تتم تحت أنظمة عسكرية آحادية، مثل نظام النميري ونظام البشير الإخواني, ولكن هذه المشاريع لن يكتب لها النجاح إلا إذا نشأت أنظمة ديمقراطية تعددية علمانية في كلا البلدين، وعندها تصبح الصحافة حرة والنقابات منتخبة في ظروف الشفافية والحرية، وهكذا يتم تصحيح المسار يوماً بعد أيام، وتلاحق الخروقات ومكامن الفساد في مهدها ويتم حسمها وتصحيحها.
إن السودان علي وشك تأسيس ذلك المجتمع الوطني الديمقراطي، مجتمع الحريات التامة للأفراد وللنقابات والهيئات والأقاليم، وتلك هي الدولة المؤسسة علي نظرية المنافع المشتركة والتعاون السليم مع من يمد يده بنية سليمة من الجيران وأبناء القارة. نتمني أن يأخذ جيراننا هذه الرؤي في حذرهم، وأن يتركونا وشأننا لنبني بلد السلام والعدالة والحرية، فذلك خير لنا ولهم.
حرية سلام عدالة....الثورة خيار الشعب !!!!!