سنواتي في امريكا: السودانيون والاثيبوبيون والعرب .. ودكاكين العرب (17)

 


 

طلحة جبريل
28 September, 2009

 

talha@talhamusa.com

 

انتقلت في السنة الاخيرة من سنواتي في امريكا، من حي "شانتيلي" الى " سكاي لاين" في وسط ولاية فرجينيا. هذا الانتقال أملته ظروف انتقال ابني من المرحلة الثانوية الى الجامعة ، حيث أصبح طالباً في "كلية نوفا" واختار أن يدرس العلوم السياسية، وكانت تلك رغبته دون أن أتدخل في الأمر. ولا أعرف اذا كان قراره صائباً في أن ينخرط هو ايضاً في غمار السياسة.

كان الانتقال من حي" شانتيلي" الى" سكاي لاين" يعتبر في حقيقة الامر انتقال من بيئة امريكية الى بيئة عربية. فترة حي "شانتيلي" كانت فترة خصبة جداً للتعرف على حياة الأسر الامريكية خاصة البيض ، أما فترة " سكاي لاين" فقد كانت بمثابة عودة الى" البيئة العربية" ثم تعزيز الاتصال والتواصل مع السودانيين.

هذا الحي عبارة عن بنايات شاهقة تطل على مناظر جميلة سواء في فرجينيا أو في واشنطن حيث يمكن أن تشاهد بعض أمكنتها ومعالمها بالعين المجردة من هذا العلو الشاهق.

هذا حي عربي. الأقليات العربية هي التي تقطنه. ويقال إن سكانه عند تشييده في السبعينات كانوا أصلا من الخليجيين اولئك الذين كانوا يأتون الى امريكا أما للسياحة أو العلاج أو الدراسة، في تلك السنوات كان حصولهم على التأشيرة الامريكية سهلاً ميسراَ ، لكن بعد هجمات سبتمبر تعقدت الأمور على الجميع ، وأصبح كل رعايا الدول العربية من وجهة نظر إدارة الهجرة الامريكية أو مصالح وزارة الأمن الوطني تحوم حولهم الشكوك وليس قليلاً من الظنون.

 الجميع طالما انهم من منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا، يتم تصنيفهم تصنيفاً واحداً " جميعهم أرهابيون حتى يتبين العكس"  وبما ان معظم الذين نفذوا هجمات سبتمبر من الخليجيين ومن السعوديين على وجه التحديد، فقد وضع الامريكيون الجميع في المعاملة على قدم المساواة، سواء كانوا سعوديين او سودانيين او تونسيين، طالما انت " عربي " او" مسلم" فإن سجلك يبدأ سيئاً وقد تكون محظوظاً وينتهي مقبولاً، لكن ان يكون جيداً هذه ستبقى أضغاث احلام، الا إذا اصبحت "مواطناً" اي ان تحصل على الجنسية الامريكية، هنا سيختلف الامر، اما اذا بقيت محتفظاً بجنسيتك الاصلية، ستحيط بك في الغالب الريبة والشكوك، وهذا الأمر وبكل موضوعية يجسد بعض مظاهر التعسف الامريكي، او لعله منطق وقانون القوي.

والموضوعية تقتضي مني القول إنني حظيت بمعاملة طيبة طوال إقامتي في امريكا، اولاً لانني صحافي، ثانياً لانني كنت ادخل البيت الابيض والخارجية والكونغريس وما الى ذلك من مرافق مهمةبسهولة ويسر ، وهذا امر يتم تسجيله في ما يعرف بمصطلح " التحقق او التثبت" ، لكن بالمقابل لم اصادف إذلالاً مثل الاذلال الذي يمكنه أن يصادفه حاملو الجوازات السودانية او السورية أو الايرانية على وجه التحديد في المطارات الاميركية.

 هناك ستجد امريكيين آخرين من فصيلة بشرية في منتهى الغلظة والعجرفة، يتعاملون معنا كأننا بهائم ، تساق من مكتب الى آخر دون رأفة أو شفقة. وكنت في كل مرة اخرج فيها من امريكا أضطر للبقاء بسبب جوازي السوداني عند العودة في المطار مدة زمنية تتراوح بين خمس الى سبع ساعات، خاصة إذا كان الدخول عن طريق مطار "جون كنيدي" في نيويورك، ولو عرف مسؤولونا حجم الاذلال الذي يتعرض له حملة الجوازات السودانية في المطارات الامريكية، لادركوا أن مناطحة القوى الكبرى لا يعدو أن يكون عبثاً لايجلب لأهل البلد سوى المهانات. وفي أكثر من مرة وبسبب سوء المعاملة كنت أقول لضابط الجوازات إذا لا تريد ان تسمح لي بالدخول فانا لست حريصاً على دخول بلدكم.

لكن ما يجعل هذه الصورة تتبدد هو ان الامريكيين خارج المطارات قوم وشعب مختلف اختلافاً جذرياً عن هذه الفئة التي تصادفها في المطارات، ولعلهم من أطيب الشعوب التي صادفتها في حياتي خلال سنوات النزوح التي طالت ولم يطل بعد فجر العودة الى وطن أحبه أكثر من اي مكان آخر في كل الدنيا، وهذه على اية حال قصة أخرى.

تركت حي " شانتيلي" حزيناً على أيام طيبة على الرغم من حالة الوحدة التي عشته في جنبات ذلك المنزل الذي تحيط به المروج والساحات الخضراء  والغابات وتسرح قربه الغزلان وفي نهره الصغير يحط الأوز وتتقافز في غاباته الارانب البرية والسناجيب، وانتقلت مع ابنائي الى شقة توجد في الطابق الرابع عشر في حي " سكاي لاين".

قرب الحي توجد مقاه ومطاعم وحوانيت ، يطلق عليها السودانيون " دكاكين العرب". قبل أن احدثكم عن هذه الحي التجاري الصغير، دعونا نتوقف عند أسلوب السودانيين في اختزال الاسماء ودلالات ذلك.

ما عرفته من عدد من الاصدقاء إن السودانيين يطلقون في مختلف المدن الامريكية الاسم نفسه على الأمكنة التجارية التي تبيع المواد الغذائية وغيرها للعرب. كما لاحظت ان السودانيين يطلقون على المهاجرين من افريقيا، ايضاً لفظاً لافتاً، حيث يقولون" الجماعة الافارقة". وفي الحالتين سواء بالنسبة " للعرب " أو" الافارقة" لا أعتقد أن الامر يتعلق بنظرة دونية، بل أن السودانيين ربما يعتقدون في لاوعيهم ، أنهم ليسوا جزء لا من " العرب أوالافارقة" هذا الشعور نجده عندنا خاصة في الشمال بمعناه الثقافي الشاسع وليس بمعناه الجغرافي. ربما يتطلب الامر تحليلاً سوسيوثقافي، لكننا هنا لسنا في مجال التحليلات الاكاديمية. انا أسجل انطباعات شخصية ولا أود ان ادخل بكم في متاهات.

كنت اتردد على " دكاكين العرب" حتى قبل أن انتقل الى " سكاي لاين" ، وذلك لشراء اللحوم والدجاج وبعض الخضروات المعلبة وغيرها من المواد الغذائية مثل الفول وزيوت الطعام والبهارات وحتى الخبز والكسرة والفسيخ. 

وما شجعني على التبضع من تلك الدكاكين، هو ان الجزارين الذين يعملون فيها مغاربة، وبما ان ثقافتي الغذائية مغربية وبسبب السنوات الطويلة التي أمضيتها في المغرب تعودت على مذاق الأكلات المغربية ، ولان الأبناء هم نصف سودانيين ونصف مغاربة ، فقد وجدت ان التعامل مع جزارين مغاربة مسألة مريحة. المغاربة لهم طرقهم الخاصة في طهي اللحوم والخضروات، وفي ظني أن المطبخ المغربي هو المطبخ الأكثر غنى وتنوعاً في كل المنطقة العربية، إذ يجمع هذا المطبخ ما بين حضارة الاندلس التي كانت حضارة زاهية في كل شيء بما في ذلك بالطبع الطبخ ، وثقافة البحر الابيض المتوسط الغذائية، ويدخل في ذلك تنوع الأسماك خاصة أن سواحل المغرب المطلة على المحيط الأطلسي تعتبر من اغنى السواحل في العالم بالأسماك الى حد ان اليابانيين يأتون الى هذه السواحل لاصطياد الرخويات، واشهرها سمك القريدس ( القنبري).

وشخص مثل الداعي لكم بالخير جاء أصلاً من حجار وجبال " شبا" من منطقة مروي ، اي ثقافة غذائية تتوقعون ان تكون لديه ؟ هو في كل سنوات الطفولة والصبا، كان لا يأكل سوى التمر والقراصة بالملاح الأخضر، ولا يعرف طعم اللحم الا يوم الخميس وهو يوم السوق الاسبوعي ، ولم يحدث طوال سنواته في قريته أن عرف ماهو" الدجاج المحمر" ولم يسمع قط بالزبادي ولم يشاهد ثلاجة او هاتف الا بعد أن انتقل الى الخرطوم، وكان جهاز الراديو بالنسبة له من عجائب الدنيا. لكل ذلك كان من الطبيعي ان تكون ثقافتي الغذائية مغربية.

قطعاً ليس "دكاكين العرب" كلها محلات جزارة مغربية. والمفارقة أن السمة الطاغية على هذه الحي التجاري الصغير، هي المحلات الاثيوبية. وشخصاً وكما قلت أكثر من مرة، أكن تقديراً خاصاً للاثيوبيين، خاصة اثنية " الامهرا". هؤلاء ناس في منتهى الرقي والتحضر، ولم أجد شعباً ينحني تأدباً عند السلام عليك سوى الاثيوبيين، وهم في ذلك على غرار اليابانيين ، وفي اعتقادي ان الشعبين هما من أكثر شعوب الأرض توغلاً وتجذراً في الحضارة ، والبلدان تحكمهما امبراطوريتان ضاربتان في اعماق التاريخ. كان ذلك قبل ان يأتي العسكر الى اديس ابابا.

والى جانب تهذيبهم، يمتاز الاثيوبيون بنظافتهم وأناقتهم. وتوجد عدة مقاه ومطاعم اثيوبية ضمن " دكاكين العرب". وبراعة الاثيوبيين في صنع القهوة لا تضاهى، على الرغم من أنني شخصياً لا أحتسي القهوة. وهناك ايضاً محلات للخردوات ، كما نطلق عليها في السودان. ومطاعم صغيرة تونسية واثيوبية ويمنية.

في نهاية الأسبوع والعطل تسهر" دكاكين العرب" حتى الفجر، إذ يرتاد الشباب المطاعم والمقاهي خاصة تلك التي تقدم " الشيشة" وهي عادة عربية انتشرت بين جميع الشعوب العربية ، لكنني لاحظت ان أكثر من يحرص عليها في مقاه " دكاكين العرب" هم الصوماليون. واذا كان الاثيوبيون هم الأكثر تحضراً من بين جميع الشعوب الافريقية، فإن الصوماليين هم قطعاً الأكثر تخلفاً.

كنت زرت الصومال في نهاية الثمانينات قبل ان تنزلق تلك البلاد الى حالة من الفوضي تحترق في أتونها الى الآن ، واجريت حواراً مع الرئيس الأسبق سياد بري ، وتجولت في البلاد من هرجيسا في الشمال وحتى كسمايو في الجنوب، وايقنت وقتها ان ذلك البلد ذاهب الى حالة فوضى لا مثيل لها.

لم اكن حريصاً للتعرف على العرب الذين يقطنون في حي " سكاي لاين" لكن الأمر يختلف  بالطبع بالنسبة للسودانيين. بيد ان التواصل مع السودانيين وأنشطتهم،على اختلاف ميولاتهم السياسية ومرجعياتهم بل وحتى أمزجتهم ، لم يبدأ مع انتقالي الى "سكاي لاين" بل حرصت على ذلك منذ أن وصلت الى امريكا. كيف بدأ التواصل وكيف كان وفي اي اتجاه سار ؟ هذا ما ساحاول ارصده بشيء من التفصيل.

نواصل   

 

عن "الاحداث"

مقالات سابقة

جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى  يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط

http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1

 

 

آراء