سنواتي في امريكا : محمد علي صالح ..وصحف قطار كريمة (18) … بقلم: طلحة جبريل

 


 

طلحة جبريل
4 October, 2009

 

 

talha@talhamusa.com

 

الآن ساحدثكم عن انطباعاتي حول السودانيين في امريكا، لكن مع تحفظ أساسي، وهو اني أقصد بالسودانيين هنا اولئك الذين تعرفت عليهم في منطقة واشنطن الكبرى ، التي تضم العاصمة واشنطن دي سي  وولايتي فرجينيا وميرلاند، وكذا بعض السودانيين في كل من نيويورك وبنسلفانيا. هناك بالطبع سودانيون منتشرون في جميع الولايات الامريكية، التقيت أفراداً منهم لكن لا أزعم انني توقفت على تفاصيل مجتمعاتهم والظروف التي يعيشونها.

وأظن من المروءة أن يكون مدخلي للحديث عن سودانيي امريكا ، أن أبدأ بالزميل والصديق الذي ضمنا واياه مكتب واحد طوال سنواتي في امريكا. تعرفت على هذا الرجل الفاضل في الواقع قبل أن التقيه بسنوات طويلة. والحقيقة أن الأقدار لعبت دورها في نسج المصادفات بكفاءة عالية.

كيف ذلك ؟

سأقول لكم.

في تلك الايام التي بدأت تتراجع الآن الى ظلال الذاكرة ، كان هناك قطاران يصلان كل اسبوع الى محطة كريمة . نظرياً كان يفترض ان يغادر القطار الخرطوم يوم الاحد ليصل كريمة يوم الاثنين، او يغادر يوم الاربعاء ليصل يوم الخميس. بيد أن ذلك كان مجرد افتراض نظري ، لان إدارة السكك الحديدية كانت ترسل اسوأ قطاراتها في اتجاهين، إما الى نيالا في الغرب أو الى كريمة في الشمال. لذلك كان "قطر كريمة" كما كنا ننطقها، يصل بعد ايام وليس في اليوم التالي كما كان يفترض.

أتذكر ونحن في مدرسة "كريمة الصناعية الوسطى" كنا نردد أهزوجة تقول :

لا تغدينا ولا تعشينا

ومن الجوع أكلنا ايدينا

قطر كريمة الديمة مكسر

مرة اتكسر في الكاسنجر

الايام بقت اربعتاشر

ومن الجوع اكلنا الطينة

و" الكاسنجر"  لمن لا يعرفها هي اول محطة بعد كريمة.

كان يوم وصول القطار يوم رواج استثنائي في كريمة وهي المدينة الوحيدة التي بدأت "مدينة صغيرة" ثم تحولت الى" بلدة" وفي زيارتي لها العام الماضي وجدت انها تقهقرت لتصبح مجرد" قرية " مع بعض الشةارع المسفلتة.

ما كان يهمنا من قطار كريمة عند وصوله الى المحطة ، ونحن بعد " تلاميذ" في المدرسة الصناعية ، شيء واحد :هي الصحف. كنا بعد ان يهبط المسافرون الذين هدهم التعب بحقائبهم الحديدية وملابسهم ووجوههم التي تراكمت عليها طبقات الغبار، نصعد الى عربات القطار بحثاً عن  الجرائد التي تركها المسافرون على الأرض.

في ذلك الوقت كان تعجبني كتابات محرر شاب متخصص في القضايا الدولية ، وكان أسلوبه يعتمد الجمل القصيرة مع معلومات غزيرة. ومازلت اتذكر موضوعاً كتبه عن " الخلافات بين حزبي البعث في كل العراق وسورية". واهتمامي بما جاء في ذلك التقرير كان مرده في الواقع الى أجواء تلك الفترة في منطقة مروي.

واستأذنكم في شيء من الاستطراد قبل أن عود الى "جرائد قطر كريمة".

كانت مدرسة "مروي الثانوية" لا تبعد كثيراً عن مدرستنا في كريمة ، على الرغم من انها تقع غرب النيل وكريمة شرق النيل. ولاسباب لا أعرفها هيمن " البعثيون" على تلك المدرسة ، على الرغم من أن طلاب المدراس الثانوية في السودان كانوا يتوزعون عادة على " الاتجاه الاسلامي" و" الجبهة الديمقراطية".

كان البعثيون يطلقون على أنفسهم " الاشتراكيون العرب" ، وربما بسبب وجود تيار بعثي قوي في "مدرسة مروي الثانوية" كانت تصل الينا بعض الصفحات من مؤلفات " ساطع الحصري" و" ميشيل عفلق". وبما اننا لسنا سوى " تلاميذ مدرسة وسطى" و هي اضافة الى ذلك " صناعية"  لم نكن نفهم تلك المصطلحات التي تتحدث عن " العمال والفلاحون" و " البرجوازية" و" الاشتراكية العربية" ، ولا أخفى عليكم انني وجدت صعوبة شديدة في ذلك الوقت في فهم الفرق بين لفظتي " عامل " و" فلاح" ، فقد كان عمي " الطيب موسى" الذي تربيت في كنفه رحمه الله ، "عامل " في " مصلحة الوابورات" كما كانت تسمى اي " النقل النهري " حالياً، وهو في واقع الأمر كان حمالاً اي "عتالي" بلغتنا العامية ، وبعد ان يعود من عمله في كريمة الى قريتنا كان يعمل مزارعاً، كما هو شأن أهل قريتنا جميعاً. ومعه تعملت كل ما له علاقة بالزراعة.

كنت أسال نفسي دائماً في تلك الايام سؤالاً لم اجد له جواباً " كيف يكون عمي  الطيب عاملاً وفلاحاً في الوقت نفسه"  كان "عمي الطيب " رجلاً ثاقب الذكاء يحرص حرصاً شديداً على اقتناص الفرص للترويح عن نفسه على الرغم من شظف العيش ومكابدة الايام، لكن لم اكن أفهم كيف يمكن أن يصبح "عمي الطيب" حاكماً في" دولة العمال والفلاحين" كما تقول الأدبيات السياسية التي كنا نقرأها في ذلك الزمان، وهو رجل أمي لا يعرف القراءة والكتابة.

أعود الآن الى تلك الصحف التي كنا نجمعها ممزقة ومتسخة ، لكننا كنا نقرأها بنهم شديد، واستفدنا منها كثيراً. لم يكن المحرر الذي أقرا له باهتمام تلك الملفات السياسية سوى الزميل العزيز " محمد علي محمد صالح"  وهو على وجه التحديد، الذي سيضمني معه مكتب واحد في " مبنى الصحافة" في واشنطن ، هو مكتب صحيفة " الشرق الاوسط" الذي يحمل رقم 1199 في الطابق الحادي عشر من تلك البناية. والزميل "محمد على صالح" كما سيختصر اسمه من بعد ، رجل من اولئك الناس الذين يفضلون حياة هادئة بعيدة عن اي ضجيج.

تخرج  محمد على صالح من كلية الآداب في جامعة الخرطوم عام 1967 ثم انتقل في رحلته الاولى الى امريكا عام 1973 بتشجيع من الصحافي الراحل محمد الحسن احمد الذي كان يتولى آنذاك رئاسة مجلس إدارة " الصحافة" حيث سيحصل على درجة الماجستير في الاعلام من جامعة انديانا .

وعمل  محمد علي صالح محرراً في صحيفة "الصحافة" السودانية  في الفترة ما بين عام 1961 الى 1978 وكان بدأ العمل في الصحافة وهو ما يزال طالباً في مدرسة وادي سيدنا الثانوية ، ثم انتقل الى  العمل في صحيفة  "المدينة" السعودية عام 1978 التي قررت ارساله الى امريكا من جديد عام 1980  ليعمل مراسلاً لها  من واشنطن، لينتقل بعدها  مراسلاً من العاصمة الامريكية الى مجلة " المجلة" عام 1985 ، ثم عمل بعدها في صحيفة " الشرق الاوسط" منذ عام 2004 ، باعتباره كبيراً لمراسلي الصحيفة وحتى الآن. ومحمد علي صالح  يتحدر من قرية "وادي حاج" من منطقة " ارقو" ووالده هو محمد صالح ود ادريس من الكبابيش.

أهم ما يميز محمد علي صالح انه رجل رصين وحازم ودقيق. خجول التصرف.متحفظ في تصرفاته. كريم. يتمتع بحيوية فكرية نادرة.يتصدى  للكتابة بلا أفكار مسبقة أو مواقف جامدة. فولاذي الأعصاب، لكنه رقيق جداً في المواقف الانسانية، الى حد انه لا يداري دموعه عندما تهزه حالة انسانية. تبدو عليه رواسب من اصول قروية. من افضل السودانيين الذين يعرفون خبايا الواقع السياسي في امريكا. يمتاز بقدر كبير من الاستقامة والحرص.حسن الوفادة ورحب الصدر. مرح المزاج. لديه ميل مقلق لقول الصدق.في عينيه نشوة عصفور. وجدته رجلا يتمتع بصلابة خلقية تدعو للإعجاب. يملك كفاءة التعامل مع الطوارئ والمفاجآت وملء الثغرات والفجوات واستيعاب الهزات والصدمات.

كان محمد علي صالح يفضل ان يبدأ عمله في الصباح الباكر لذلك كان اول من يأتي الى مكتب "الشرق الاوسط". ولا يخرج حتى ينجز ما هو مطلوب منه.

ظل يحرص على الاستماع الى إذاعة " هنا امدرمان" وهو منكب على عمله اليومي . كنت استغرب هذه القدرة الفذة على الاستماع والكتابة في الوقت نفسه. يتحدث الانجليزية بلكنة امريكية واضحة، وهو أمر طبيعي بعد كل السنوات التي مكثها في الديار الامريكية، بيد انني كنت دائماً أشعر بان له حنين جارف للسودان. كنت حين اصل المكتب في الصباح ، اتحاشى ازعاج نزعته الواضحة للهدوء ، القي عليه تحية صباحية مقتضبة.

" صباح الخير يا محمد "

وهو يرد بجملة لا يبدلها : " أهلاً يا طلحة".

وعندما ينهي عمله كان يمر على مكتبي ليقول جملة واحدة " مع السلامة يا طلحة".

على الفواصل الخشبية التي تفصل مكتبه عن باقي مكاتب الزملاء والزميلات ، يعلق بعض القصاصات من الصحف، لا يربط بينها رابط. وكان وحده الذي يعرف لماذا يثبت تلك القصاصات على تلك الفواصل الخشبية.

لم اكن اتدخل قط في عمله. كان يختار المواضيع التي يرغب في الكتابة عنها. واذا حدث وهي حالات نادرة ، أن طلبت منه كتابة مادة صحفية محددة كان سؤاله الوحيد " كم كلمة؟".

ظل رجلاً محباً للعمل. حتى عندما يذهب في عطلة ، كان يرسل للصحيفة بعض التقارير. كان يعشق الكتابة عن التاريخ، لذلك احترمت رغبته الدائمة في تمضية اكبر وقت وهو يبحث وينقب في وثائق الارشيف الوطني الامريكي في واشنطن.

ظل دائماً يتمنى ان " تتوحد كلمة السودانيين" لذلك عندما شرعنا في تأسيس" اتحاد الصحافيين السودانيين في امريكا" عقدت الاجتماعات التاسيسية في منزله، على الرغم من انه رفض باستمرار ان يصبح عضواً في اللجنة التنفيذية لذلك الاتحاد.

عندما اردت ان أتعرف على مجتمع السودانيين في واشنطن ، كان محمد علي صالح هو دليلي .

نواصل

 

عن "الاحداث"

مقالات سابقة

جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى  يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط

http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1

 

 

آراء