سياسات الهوية والباب المفضي للحرب الأهلية الشاملة

 


 

إبراهيم حمودة
25 September, 2023

 

الحرب التي بدأت بين جنرالين يتناطحان على السلطة وصلت الآن وبعد زمن وجيز قياسا بتاريخ الحروب الى نقطة الاصطفاف الاثني والجهوي. وحينما تقحم الهوية في مثل هذه الحرب يكون الأمر مقدمة لقتال شامل لا يبقي ولا يذر.
وسيكون هذا القتال هو تصفية نهائية لظلامات مؤجلة من لحظة اعلان الدولة السودانية الوليدة ككيان سياسي مستقل معترف به. وفي بلد متعدد الاثنيات مثل السودان، يحتل فيه النظام القبلي والإدارة الأهلية دورا كبيرا، وتدار فيه الأمور بشكل كبير بعيدا عن أجهزة الدولة الحديثة، خاصة في العقود الأخيرة لحكم الإنقاذ، تصير عملية ذوبان مكونات المجتمعات المحلية المتباعدة، بحكم المسافات الشاسعة ومشاكل البنى التحتية وتوزيع الخدمات، في مجتمع سوداني مشترك الوجدان غاية في الصعوبة، خاصة في غياب عامل الديمقراطية والمشاركة السياسية المعافاة والفضاء الاجتماعي المفتوح.
ربما يسهل هذا الأمر على مستوى أضيق في المدن متعددة الثقافات مثل مدينة أم درمان، ولكن أن يحدث مثل ذات التلاقح على مستوى مساحات أكبر في كل الأقاليم، يحتاج الأمر الى سياسات دولة وخطط واضحة تستهدف اذابة كيانات القبيلة لصالح مجتمع مدني حديث. وهذا أمر لم يتحقق ولم يتم العمل على توفير ظروفه وبناه التحتية من قبل الكثير من الحكومات. بل وعلى العكس من ذلك تم استخدام الكيانات والبنى القبلية في دعم السياسات التي تختطها مختلف الأنظمة الديمقراطية الحزبية منها أم العسكرية الديكتاتورية.
نظام التعليم وتوزيع الخدمات الأساسية ومؤسساتها، مشاريع التنمية والبنى التحتية والمشاريع الإنتاجية الكبيرة والحديثة على امتداد البلد لم يساعد أيضا على ادماج مختلف المكونات المحلية على مستويات الولايات والقرى في عملية الإنتاج والانتماء لمختلف هذه المؤسسات، اذ ظلت المدن الكبرى هي الحاضنة للشركات والمؤسسات الإنتاجية التي تستوعب عمالة كبيرة.
لتكوين وجدان مشترك يمثل السكان أو الشعب في رقعة جغرافية ما، لا بد لهم من حقل وسط اجتماعي يتلاقون فيه يعملون سويا ويلهون ويمارسون الرياضة ومختلف الهوايات من اجل تشكيل ذاكرة مشتركة ورباط يخصهم كمجموعة.. وبالتالي تشكيل هوية جماعية كبيرة تخص الوطن.
اذا عرفنا انه ومنذ الاستقلال، ان القطاعات الإنتاجية ظلت على شكلها التقليدي من زراعة ورعي دون تطوير أو تحديث، فيمكننا تخيل العزلة التي تعيشها مجموعات كبيرة في الريف وفي مناطق الإنتاج النائية، عما يجري في المدن وفي أقاليم أخرى بعيدة في بلد مترامي وشاسع لا يملك البنية التحتية المناسبة للتنقل والتواصل.
حين تم تكوين ميلشيات الجنجويد سابقة ونواة قوات الدعم السريع الحالية لتقوم بالدور الذي لا تستطيع أي قوات مسلحة محترفة القيام به، وهو قتل المواطنين واستباحة أراضيهم وممتلكاتهم واغتصاب نسائهم، حين تم ذلك، اعتمدت السلطة السياسية لنظام المؤتمر الوطني الاسلاموي، والقوات المسلحة التي أشرفت على العملية، على تكوينات قبلية قائمة واستيعاب افرادها ضمن هذه القوات، وهو أمر أسهل بكثير من محاولة استقطاب وتجنيد مجموعات متباينة من أصحاب النزعات الاجرامية.
العودة للقبيلة وتوظيفها بهذا الشكل هو جزء من سياسات الإنقاذ التي سعت لتكسير بنى الدولة الحديثة على قدر الموجود والمتحقق منها، والاتكاء على القبيلة، أو البنى القبلية ذات الطبيعة والوعي المتخلفين عن تنظيمات المجتمع المدني الحديث التي تساهم عادة في تشكيل الحواضن للتنظيمات السياسية الحاكمة، أو المعارضة المشغولة بهم السلطة وتداولها بشكل سلمي. كل ذلك في خضم الصراع الاجتماعي الذي تحاول مختلف القوى فيه الحصول على نصيبها من السلطة والثروة، منفردة أو متحالفة داخل عملية إدارة الصراع الاجتماعي سلميا.
استخدام القبيلة والرجوع لها في ظل نظام الإنقاذ يبدو للناظر بريئا باعتبارها التكوين الذي ظل يعمل دائما في ظل تأخر خطى الدولة المدنية وتكون مجتمعات حضرية متحررة ومستقلة من فكرة القبيلة. ولكنه الأمر كما تكشف التجربة محاط بكل المقاصد السيئة، وينسجم مع نهج الإسلاميين الساعين لتحطيم صنم الدولة المدنية الحديثة والرجوع لثقافة القبيلة التي يلعب فيها الإذعان من قبل الفرد للمجموعة، وهرمية السن والنوع الاجتماعي دورا كبيرا في حل النزاعات وتمرير إرادة شيوخ القبائل دون كبير مساءلة كما يحدث في شرق السودان ونموذج الناظر ترك الذي يتقلب ذات اليمين وذات الشمال في قرارته وتتبعه المجموعة الأكبر دون صوت معارض قوى يسائل هذه المواقف والقرارات من أساسها.
ما فعله الإسلاميون لا يختلف كثيرا عن الأحزاب السياسية عبر تاريخ السودان كتنظيمات حديثة يفترض فيها التسامي عن عوامل القبيلة والعرق والجهة. تكوين الأحزاب السياسية كان سيكون بداية لذوبان الكيانات التقليدية في اجسام ذات طابع حديث لا تعتمد سياسة الطاعة والاذعان وهرمية العمر والنوع الاجتماعي، ولكن كما نرى في تاريخ السودان انقادت طليعة المتعلمين الذين يفترض فيهم حمل مشاعل التغيير الاجتماعي، لفخ الطائفية الدينية، والى الإذعان لمشيئة الراعي ووصايته فصارت الأحزاب المعروفة بالطائفية، الأمة والاتحادي منصات سياسية تأتمر بأمر الراعي أو الامام.
أما المؤسسة العسكرية من لدن استقلال السودان، ومنذ أول تجربة لها في تولي مقاليد الأمور عبر انقلاب عسكري، كان الأمر بمباركة هذه الأحزاب التي لم يكن لها أي موقف مبدئي ضد حكم الفرد والطغمة العسكرية المساندة له. بهذا يكون الجيش والمؤسسة العسكرية قد دخلت الساحة السياسية من هذا الباب لتكون تدريجيا جزء من نسيج النخبة التي توالت على حكم السودان تحت مختلف الحكومات ديمقراطية أو عسكرية، انتهاء بفترة نظام الإنقاذ الاسلاموي التي استمرت لثلاثة عقود حدث فيها ذوبان المؤسسة العسكرية داخل التنظيم وتحولت لجيش حزبي بالقدر الذي تحول فيه كامل جهاز الدولة الى جهاز حزبي، العملية التي وصفت بأنها اختطاف بالكامل للجيش وجهاز الدولة من قبل التنظيم الإسلامي.
اختارت الدولة السودانية منذ الاستقلال أن يكون لها هوية عربية إسلامية في مجافاة للتنوع الاثني الكبير، وانكار كامل لحقوق العنصر غير العربي وغير المسلم.
عملت الدولة السودانية كذلك، تحت مختلف الأنظمة، فرض هذه الهوية بالقوة عبر الحروب التي خاضتها المؤسسة العسكرية منذ الاستقلال وحتى هذه اللحظة التي ما زالت تحمل فيها حركات عبد العزيز الحلو، وعبد الواحد النور السلاح من أجل إرساء دعائم دولة المساواة على أساس المواطنة بعيدا عن عوامل العرق والدين واللون.
على هذه الخلفية تكون الإجابة على السؤال الشهير للطيب صالح في مقاله الموسوم بذات الاسم: من أين أتى هؤلاء؟ انهم جاءوا من رحم الدولة الأولى التي اختارها الشعب السوداني. والتي مضت في تناقض وتنافر واضح مع مبدأ الديمقراطيات في ادارة التنوع، الى حسم الاختلافات لصالح هوية واحدة، تقضي بأن دولة السودان يجب أن تكون عربية إسلامية حتى ولو كلف الأمر استخدام السلاح والاقتتال. وهو الأمر الذي حدث طوال تاريخ السودان منذ الاستقلال وحتى الآن.
في هذا الصدد يحكى أن وزير المعارف في ذلك الوقت وفي ثاني جلسة لأول برلمان السوداني تولى الرد على نائب برلماني جنوبي تقدم بطلب استخدام اللغات المحلية في التدريس في المرحلة الأولية على أن تكون اللغة العربية من المواد الأساسية فكان رد الوزير:
"السودان بلد عربي مسلم والما عاجبو كده يشوف ليهو بلد تاني".
وكما أورد الراحل منصور خالد في مذكراته كان هنالك مقترح باستيعاب الأطفال في المناطق غير الناطق بالعربية في المدارس من سنة الخامسة حتى لا تتمكن منهم العجمة، لصالح اللسان العربي المتسيد بقوة السلاح.
الذي يحكيه التاريخ هنا أن الجيش السوداني ومنذ العام 1955 ظل في حروب مستمرة من أجل فرض هوية الدولة العربية الإسلامية امتثالا لرغبة الساسة، وامتثالا لإرادة قادة الجيش في أنظمة عبود ونميري وعمر البشير الذين قادوا انقلابات عسكرية حكموا بموجبها البلاد حكما مطلقا واتفقوا جميعا على مواصلة الحرب على تمرد المكون غير العربي.
الدفاع عن الهوية المفروضة بقوة السلاح يفترض أن تركيب المؤسسة العسكرية ذاتها وعقيدتها القتالية يمثلان هذه الهوية على نحو ينعكس في التركيبة الاثنية لقيادة الجيش وهيئة الأركان باستمرار. بحيث يندر، أو لم يحدث أن تولى القيادة العامة للجيش قائد من جنوب السودان أو من جبال النوبة أو من غرب السودان رغم التمثيل الكبير لهذه المناطق وسط العساكر وضباط الصف بنسبة قد تبلغ 80 بالمائة حسب تقديراتي. ولتجنب أن يكون الأمر لافتا للنظر، يكون هناك على الدوام ضباط في الرتب الوسطى والصغيرة، ولكنهم لا يبلغون سنام القيادة بأي حال.
تمرد وتمرد
في الحرب الحالية تصف قيادة الجيش قوات الدعم السريع بأنها قوات متمردة يجب قتالها واخضاعها ومحاسبتها على هذا التمرد. في الوقت الذي تقول فيها قوات الدعم السريع بأنها تقاتل من أجل تخليص الجيش من الإسلاميين ومن أجل استعادة عملية التحول الديمقراطي التي ترى هذه القوات أن البرهان ومن معه في قيادة الجيش بأنهم يقفون حجر عثرة في سبيلها.
الكثيرون لا يصدقون حرفا واحد من هذه المرافعة التي تقدمها قوات الدعم السريع من أجل تبرير استماتتها في هذه الحرب. وتقول الوقائع أن كلا من الجيش والدعم السريع عملا خلال أربع سنوات من عمر الثورة السودانية، سويا من أجل اسكات صوت الثورة ووأدها وشاركا سويا في كل الجرائم الموثقة من قتل واغتصاب واخفاء قسري التي تعرض لها الثوار.
ولكن الإشارة لمفارقات التاريخ تملي في هذا المقام التطرق الى تمرد آخر على جيش الاحتلال البريطاني المصري في العام 1924الذي قاده علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ من أجل التخلص من الاستعمار وإقامة حكم وطني. تعرض موقف عبد اللطيف وصحبه أيضا للسخرية والاستنكار ممن سموا أنفسهم "كرام المواطنين"، الذين فضلوا أن يحكمهم المستعمر الإنجليزي من أن يحكمهم اشخاص من شاكلة علي عبد اللطيف الذي أستتشهد من أجل القضية التي آمن بها.
ليس الغرض من هذه المقارنة الإيحاء بتساوي دوافع علي عبد اللطيف مع محمد حمدان دقلو، فالملابسات والظرف التاريخي والدوافع وطبيعة تكوين القوة تختلف. ولكن تبقى المفارقة في فداحة القدح في موقف شخص بناء على منحدره العرقي رغم نبل الغاية وسموها في زمن ثورة 1924
بهذا نفهم أن يصدق الداعمين للجيش، ومن شايعهم، البرهان الكذاب الذي انقلب على نفسه أربع مرات من أجل تعطيل مسيرة الثورة في أنه سيعيد الديمقراطية للسودان بعد الحرب، خلافا لحميدتي الذي يرفع شعارات عودة مسار التحول الديمقراطي، وكلاهما أكدت الوقائع في السنوات الفائتة منذ قيام الثورة كذبه ومداورته.
في بداية هذه الحرب التي تفجرت في الخامس عشر من ابريل هذا العام، كانت الغالبية تنظر اليها على انها حرب نفوذ بين جنرالين وجيشين داخل بلد واحد، وهي وضعية شاذة وغريبة كان لا بد وأن تؤدي لصدام بين المؤسستين في وقت من الأوقات.
ولكن باستمرار الحرب حدث استقطاب دفع بسؤال الهوية للواجهة بشكل ملح ومتكرر بحيث غطى على فكرة أصل الصراع. الجميع يعلم ان قوات الدعم السريع عبارة عن ميلشيات غير منضبطة وافرادها رعاة في الغالب لم يتلقوا قدرا كافيا من التعليم، أو لم يتلقوا أي نوع من التعليم ربما.
ولكن مثل هذه التصنيفات، أوالحقائق المتعلقة بالدعم السريع، لا تخدم غرض التعبئة العامة والاصطفاف خلف الجيش ودعمه من أجل هزيمتها، خاصة وأن سجل المؤسسة العسكرية سيء فيما يتعلق بعلاقتها بالشعب ولا يفرق كثيرا عن سجل الدعم السريع. الجميع يعلم بأن القوات المسلحة السودانية ظلت تقتل شعبها في مختلف بقاع السودان ومارست حرق القرى والقصف بالبراميل المتفجرة وقتلت الاسرى والأطفال والشيوخ، وكل ما يمكن تخيله من جرائم الحرب، وهي بهذا السجل لا تختلف كثيرا عن الدعم السريع.
لذا ليس من المستغرب الاحجام الواضح في البداية عن الوقوف خلف العسكر في هذه الحرب. بهذا قضى الواقع بأنه كان لا بد من شيطنة الطرف الآخر، قوات الدعم السريع، ودمغها بأنها قوات مرتزقة عابرة للحدود من موريتانيا ومالي والنيجر جاءت لغزو السودان. هذا أمر غير صحيح بإطلاقه، وهو ما وصفه الدكتور النور حمد بأنه ضحك على الذقون وتوسم البلاهة في الشعب السوداني.
قد يكون هنالك افراد ضمن قوات الدعم السريع ذوو خلفيات من تشاد أو من أي من دول الجوار، ولكنها اعداد محدودة، والجميع يعلم بأن هنالك قبائل عابرة للحدود مع مختلف دول الجوار. في زمن البشير تحدث الناس عن الأصل الاريتري لوزير الداخلية إبراهيم محمود وقتها. ولكن حتى لو صحت المعلومة كلنا يعلم التداخل القبلي بين شرق السودان وبين اريتريا بمعنى انقسام الاسر وتواجد جزء منها في كل من الدولتين، وضعية لا ترقى لمرتبة الوصمة أو التخوين.
ربما شكل قدوم افراد الدعم السريع بلغتهم الغريبة وملامحهم وطريقة لبسهم الغريبة تفضح ضحالة معرفة السوداني العادي في الوسط والشمال والشرق ببقية مواطني بلده. هذا من ناحية، من ناحية أخرى تجريد هذه الشريحة من صفة المواطنة وطردها خارج ملكوت المجتمع السوداني والهوية السودانية يدخل في باب العنف والعنف المقابل وتأجيج الصراع على أساس اثني وجهوي خالص.
وكامتداد لفكرة الشيطنة والسخرية عبر منصات السوشيال ميديا تتم السخرية من غناء ورقص المجموعات الرعوية في دارفور وكردفان بشكل عام والرزيقات بشكل خاص. وتمتد السخرية لتشمل طريقة اللبس وغطاء الرأس "الكدمول" وسائر مظاهر جمال البدويات وطريقة تسريح الشعر وصبغ الشفاة بالوشم.
كل ذلك تم اختزاله في شكل الفتاة "أم قرون" التي تغنى بها الشباب وقالوا بأنهم سيركبون سيارات البوكس نصف نقل من أجلها. والتغني بامتلاك السيارات ليس غريبا في بادية كردفان ودارفور "الحجة ما خلقان القماري قوقن ألفانا بالنيسان". والبدو عموما ظلوا يتغنون بالسيارة كبديل حديث للزاملة التي طالما تغنوا بها، ولكن ربط ذلك بشكل متعسف بالحرب التي دارت وعمليات النهب الكبير للسيارات التي صاحبتها، يدخل في باب الاسراف المتهافت في شيطنة الآخر في خضم حرب الهويات.
عامل أخر أيضا يجب الإشارة إليه هنا، وهو أن السخرية بشكل عام ابتكار حضاري يتيح لمختلف المجموعات السكانية النيل من الآخر داخل حدود اللغة ولعبة الترميز الاجتماعي، ولكن ذلك يشترط فضاء من العدالة ومبدأ المساواة، وهي عوامل تنتفي في مجتمعنا السوداني منذ وقت طويل.
جملة الحملة الممتدة لعملية الفرز العرقي والجهوي وتأكيد التفوق الأخلاقي عبر السوشيال ميديا تحاول نزع صفة المواطنة من الثقافة الأخرى وكامل منظومة أدواتها ورموزها. فالرزيقي أو المسيري لا يتوقع منه أن يطرب لخوجلي عثمان أو الجابري وبقية رموز الغناء في الوسط. هنا تتبين لنا طبيعة النظرة للهوية واستخدامها بشكل غير مضياف لعزل الآخر وتجريده من الانتماء، الذي هو مقدمة لحرمانه من الحقوق الاساسية.
في كل المجتمعات التي تشهد استقرارا سياسيا واقتصاديا، ينعكس الأمر على تلاحمها الاجتماعي فلا تكاد تسمع أحدا يذكر سيرة الهوية. في مجتمعات أم درمان والديم في الخرطوم والكثير من الاحياء ذات الطبيعة الاثنية المختلطة، لم تظهر أي دعوات أو حملات فرز اثني أو جهوي، إلا في لحظات الازمات.
مثلا لحظة هجوم الجبهة الوطنية على الخرطوم التي عرفت بحركة المرتزقة. نلاحظ أن المرتزقة صفت الصقت بسودانيين أما وأبا فقط من أجل استدعاء روح المقاومة وهزيمة الحركة وعزلها اجتماعيا قبل هزيمتها عسكريا. في خضم هذه الفوضى العرقية قتل الكثير من الأبرياء على أساس الهوية واشهرهم الرياضي لاعب كرة السلة والمغني وليام أندريا.
كذلك بعد دخول قوات خليل إبراهيم مدينة ام درمان تمت تصفية العديد من الأبرياء بناء على شكلهم وهوتهم. والآن يتكرر ذات الأمر وربما يأخذ درجة أفظع في حال هزيمة قوات الدعم السريع هزيمة نهائية في المعركة.
فكرة الهوية على ضوء ما تقدم لا تقوم إلا على عزل الآخر ونفيه تمهيدا لمصير أفظع سيلاقيه. في حرب رواندا مثلا كان "الهوتو" يصفون "التوتسي" بأنهم صراصير، والناس ينظرون للصراصير ككائنات وسخة لا يقربها الشخص ويمكنه بكل سهولة الدوس عليها وسحقها، وهذا بالضبط ما حصل فيما بعد اثناء الحرب التي كانت ضحيتها مليون شخص في وقت وجيز جدا.
علماء الاجتماع يقولون بهذا الصدد إن الهوية غير مضيافة. لا يوحد شعب أو مجموعة سكانية تكون على استعداد على مجموعة أخرى وتستتظلها تحت هويتها. الهوية تم ابتكارها لتمييز الاخر وعزله واستبعاده. أحيانا تكون الفروقات بين مجموعتين تكاد لا تذكر ولكن من أجل الحرب على هوية أخرى يتم التقاط فروقات لا تكاد تهم أو تذكر.
مثلا مجموعة بيضاء مسيحية ومن شريحة عمالية تتم استضافتها في حي جديد يضم مجموعة عمالية ومسيحية بيضاء فيحدث احتكاك وتنافر بينهما على أساس الهوية. وبما ان الصفات الأساسية من عرق ودين ودخل شهري كلها متشابهة تلجأ المجموعة المستضيفة للقول بأنها لا تعرف المجموعة الجديدة وليست هنالك ذكريات مشتركة، لم يذهبوا للمدرسة سويا، لم يتقاسموا نكات الصبا والمدرسة سويا. لم يذهبوا للعب كرة القدم حين كانوا أطفالا.. الخ، الهوية تسعى لنحت الفروقات الدقيقة ان لم تجد فروقات أساسية لاستبعاد الاخر.
هذا على المستوى الشعبي. على المستوى الرسمي ومستوى الدولة هناك سياسات هوية. اهم ما يميزها بشكل عام هو فكرة الاستتار. مثال على ذلك بعد فوز ترامب حاول الحزب الجمهوري التأثير على توزيع الدوائر الانتخابية بحيث يجعل عملية التصويت صعبة بالنسبة للشرائح التي تصوت للحزب الديمقراطي والافرو امريكان وذوي الأصول المكسيكية بشكل عام.
وفقا للتقسيم تم توزيع مراكز التصويت على مسافات بعيدة جدا بحيث لا يقدر معظم الناس على الذهاب سيرا على الاقدام. ومعروف ان الفئات الفقيرة ليس لها القدرة على امتلاك السيارات، وبعض من ملاك السيارات منهم تكون رخصته مصادرة بواسطة الشرطة بسبب الشرب او التعاطي.
ذات الأمر فعله الرئيس الأسبق ريغان حين طبق سياسات اقتصادية واجتماعية تسعى لتقليص أي مساعدات مالية تقدمها الدولة لشرائح الفقراء وهم بالضرورة من ذوي الأصول الافريقية والمكسيكية والمهاجرين من بلدان أخرى. وكانت النتيجة تنعكس على مستويات التعليم والصحة وبيئة السكن ونوعية الحياة لهذه الفئات بحيث تضاعفت الفوارق الاجتماعية ومستويات المعيشة بشكل لا يمكن اصلاحه مرة أخرى.
في بلدان مثل الاورغواي والأرجنتين تم القضاء على المجموعات السكانية من أصول افريقية باستخدام سياسات مثل استصلاح الأراضي الزراعية في مناطق المستنقعات ذات الأمراض القاتلة، فيتم تركيز المجموعة السكانية المستهدفة هناك بذريعة قيام مشاريع إنتاجية ومن ثم حرمانها من أي خدمات أو مراكز صحية بحيث تهلك الجماعة ببطء وصمت.
بهذا المعنى يمكن للباحث والمهتم تتبع، والتعرف على بعض ملامح سياسات الهوية في الدولة السودانية منذ الاستقلال وتتبع عمليات تنفيذ مشاريع البنى التحتية وتوزيع الخدمات من مستشفيات ومدارس ومراكز ثقافية. ليس ذلك فحسب، هناك دراسة تشير الى أن المناطق التي تساهم في انتاج ما يقارب 90 بالمائة من الدخل القومي، للبلاد ظلت القطاعات المنتجة فيها على ما هي عليه منذ الاستقلال في كردفان ودرافور والنيل الأزرق. القطاع الرعوي الذي يساهم بقدر كبير في العملات الصعبة التي تعود على الخزينة العامة، ظلت فيه رعاية الماشية تتم بذات الطريقة التقليدية. والزراعة وجني الصمغ الى حد كبير أيضا.. كما أن سكان هذه المناطق الأكثر معاناة وعرضة لأي مجاعة وليست لديهم القدرة على شراء الذرة التي ينتجونها من اجل اطعام أنفسهم خارج موسم الحصاد، اذ يتولى تجار الجملة شراء المحصول وتخزينه ورفع سعره فيما بعد. وحذر تقرير أخير لمنظمة الزراعة والأغذية بأن السكان في مناطق الإنتاج التقليدي هم الأقل قدرة على شراء الغذاء والأكثر عرضة للمجاعة في السودان.
تنعكس سياسات الهوية التي تمارسها الدولة والأجهزة التابعة لها بشكل ملحوظ في أجهزة الاعلام وتعاملها مع الخطاب الثقافي لمختلف الشرائح والمجموعات داخل المجتمع السوداني. اذ يوجد الكثير من حراس البوابات لتنظيم وانتقاء من يحق له الظهور عبرها.
الاعلام وأجهزة الراديو والتلفزة والصحافة الورقية تتمتع بأهمية خاصة في عملية انتاج الخطاب وتوزيعه داخل المجتمع. في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية تكون هنالك ساحات تتصارع فيها الخطابات في المؤسسات البحثية مرورا بالبرلمان وجمعيات الدفاع عن الحقوق المختلفة انتهاء بالمسارح ومحطات الراديو والتلفزة.
فكرة الاعتراف بالهوة الثقافية الفاصلة بين الثقافة السائدة الآن والثقافات الفرعية والهامشية الأخرى ليست أمرا رمزيا في هذا السياق. ولا تعالج بعدالة صورية في استعراض ملامح هذه الثقافات عبر التلفاز أو الراديو وأجهزة الدولة الرسمية الأخرى. الأمر يتعلق بخطاب سائد يستبعد أي خطاب آخر، وممثلو هذا الخطاب هم الذي لديهم الحظوة بتقلد المناصب وتوزيع الموارد.
تقضي قواعد اللعبة الديمقراطية بتوزيع الفرص إن لم يكن بشكل عادل، فبشكل يحول دون حرمان واستبعاد مجموعات بعينها وطردها خارج أي فضاء يتم فيه تبادل وتلاقح الخطابات، ومعروف أن الصراع على الخطاب هو في جوهره صراع على السلطة. الطبقة أو الشريحة المنتجة للخطاب هي التي تسعى بأن يكون للمنتمين اليها الحق في ترويج هذا الخطاب ليصحبوا ممثلية بلا منازعة من قبل أي شريحة أخرى. فالمجتمعات التي يسود فيها الخطاب الديني يتمتع فيها الوعاظ والمطاوعة ومن هم ادني درجة منهم بسلطات معنوية وزمنية في اسكات الآخرين وقمعهم باسم الدين. وعموما الحديث عن هذه السياسات يتم بشكل مختصر وعابر في هذا السياق.
الناظر الآن لوسائل التواصل الاجتماعي وتحديدا البوستات المنشورة على الفيسبوك التي تنضح حنينا للديار والماضي القريب قبل الحرب، هو استدعاء الأغاني السودانية بوصفها المعبر الأسمى عن الهوية السودانية كما تمت صياغتها من قبل دولة الاستقلال وكما تبلورت عبر الأجهزة الخاصة بانتاج الخطاب، المدرسة، الجامعة، الإذاعة، التلفزيون، المسرح، الجامع النادي.. الخ.
الحنين هنا يعمل كنداء للتضامن، ولحظة لفحص الذوات المتضامنة وتهيئة المناخ لها للتعرف على بعضها من خلال وضعية وظرف أصبحت فيه الرموز الثقافية للسلطة الراعية في مهب الريح. بقيت أغنية الحقيبة هي المفضلة والأكثر تعبيرا عن ذوات ووجدان الناس لأكثر من مائة سنة، وكذلك أغنية أم درمان، لم يحس فيها الناس في أي لحظة بأن وجدانهم المشترك في خطر. ولم يقدموا على إقامة مناحات تتوسل الأغاني من أجل التعبير عن حقبة مضت، حتى تحت ظل حكم الإسلاميين الذين حاربوا هذه الاغنية بضراوة واتلفوا جزء من مكتبة الإذاعة ونكلوا بالفنانين الشباب وجلدوهم في الساحات العامة. ما أحسته شرائح عريضة الآن وعبرت عنه ضمن موجة النوستالجيا المتدفقة عبر السوشيال ميديا هو زوال المؤسسة السياسية ذات التقاليد والشبكات المتوارثة منذ فترة ما قبل الاستقلال والتي يعبر البعض عنها بمصطلح دولة 56
عملية الحنين هذه يتم الإعلان عنها في الغالب مصحوبة بالإشارة لقوات الدعم السريع، كآخر، و كجسم دخيل لا علاقة له بهذا الإرث وهذه الذاكرة والوجدان المشتركين. والدعم السريع هنا هو ما يراه الناس في الشارع، ولكنهم يجهلون ويغفلون ان هذا الجسم ذو الطابع العسكري هو صناعة إسلامية بامتياز وفقاعة لا تملك أسباب البقاء لوحدها. كان يمكن دمجها واستيعابها في جيش موحد لو توفرت الإرادة السياسية. لا يمكنك خلق جسم مسلح وتمكن له كل سبل الاستقواء ثم تلغيه بجرة قلم مثلما فعل البرهان بقراره بحل هذه القوات، وهو الذي كان يشرف طوال سنوات بمثابرة على قتل الشباب المنادين بحلها.
ورغم أن الكثيرين من افراد هذه القوة ينتمون لقبيلة الرزيقات، ولكن لا يمكننا الزعم أن كافة افراد هذه القبيلة هم من مناصري الدعم السريع ويطبعهم نفس الذوق ولا يحبون الاستماع لوردي، ولم يسبق لهم أن خرجوا في مظاهرة منادية بالحرية والديمقراطية.. وينطبق ذات الأمر على القبائل الرعوية الأخرى من مسيرية وحوازمة وقبائل أولاد عطية جملة.
ثمة مبدأ للعنف يكمن خلف هذه الجزئية. ربما يكون لأفراد الدعم السريع وجدان آخر لم يتشكل على المستوى الرسمي ولم يشارك في انتاج خطابة المؤسسة الرسمية. لهم ذكرياتهم في البادية وفي الرعي وربما المراحل الأولى من التعليم، ولهم اهازيج وغناء وطرب تختلف عما تعوده الناس في ثقافة الوسط وجرى به لسانهم.
ولكن هذه التفاصيل لم تسمح بها الثقافة الرسمية بأن تعلن عن نفسها وتنتشر وتتلاقح وتكون جزء من الخطاب السائد. مثلا استغرق الأمر وقتا طويلا قبل أن تتسلل الاغنية الكردفانية ببطء للأجهزة الرسمية للإعلام في السبعينيات وظلت تحتل هامشا صغيرا منذ ذلك الوقت، مع العلم أن ادعاءات العروبة تنسجم مع هذه الاغنية وطبيعة ميلوديتها ولحنها أكثر من أغنية ام درمان.
ولكن فيما يبدو الأمر لا يخص العروبة في حد ذاتها في هذا السياق، بل بمجموعة ذات مصالح مشتركة رأت استخدام دعاوى العروبة كخطاب يحفظ لها مصالحها ويسمح لها بالتوالي على السلطة ومشاركة شبكة المنتمين اليها في الحكومات المتعاقبة مهما اختلف ماعونها السياسي.
لا يهم مبارك الفاضل ان كان نظام الحكم حزب أمة أو جبهة إسلامية، ولا يهم سبدرات إن كانت استنارته يسارية ولكنه ينافح عن الأصوليين، والتوم هجو استوزر على مستوى ولائي في وقت سابق انابة عن الاتحاديين ولكنه يسعى للأكل من موائد حكومة البرهان الانقلابية..وحسن طرحة من حزب أمة ثائر إلى منافح عن نظام البشير ومعادي لثورة الشباب التي قامت من أجل اقتلاع هذا النظام، والأمثلة كثيرة بالطبع ولكني اختم بالمثال الأنصع:
في بداية انقلاب الإنقاذ تحول صاحبنا وزميلنا أسامة سالم محمد طه "ابن عم علي عثمان" من كادر شيوعي وقيادي بالحزب وبمركزية الجبهة الديمقراطية، الى مناصر للإنقاذ وأحد منظريها بابتكاره نظرية ما يسمى بالمسرح العابد. عبر أسامة عن تحوله المفاجئ والكبير بالقول:
"الإنقاذ دي ما ياها أخواني واشقائي وأبناء عمومتي وأهلي".
وهكذا كانت تسير الأمور على الدوام منذ فجر الاستقلال فيما يخص المشاركة السياسية والحصول على النصيب من كعكة الثروة والسلطة.
من جهة أخرى ما الذي يمنع افراد الدعم السريع وامتدادهم القبلي من تبني الثقافة السائدة والاستمتاع بأغنية الوسط والتراث الغنائي السوداني المبذول والمنتشر؟ محاولة، أو فرضية انكار هذا الأمر على مجموعة اثنية بالجملة ينطوي على مبدأ عنف يسبب شرخا كبيرا على المستوى الاجتماعي واحساس الانتماء.
كما أن عملية انكار مساهمة هذه المجموعة ومنتوجها الثقافي وحجبه من الظهور في الفضاء العام وأن يكون جزءا من الخطاب السائد ينطوي أيضا على مبدأ عنف مماثل، يمكن أن يختزن ويتحول لنقمة جماعية على الثقافة المهيمنة.
قد يستنكر القارئ محاولة رفع هذا العنف الرمزي لمستوى العنف الحاصل حاليا في خضم الحرب الجارية الآن من قتل ونهب واغتصاب.
وهنا تبرز الخلافات حول تعريف العنف والتعرف عليه ومحاولة ابطال مفعوله، وهو أمر فشلت فيه الكثير من المجتمعات التي انزلقت للحروب الاهلية والدمار الشامل.
يقول الفيلسوف السلوفيني "سلافوي جيجك" في كتابه حول العنف، إن العنف ليس مشاهد الدماء والقتل والسحل والحرائق المشتعلة ولكنه يحدث قبل ذلك بمرحلة كاملة. ضرب سلافوي مثلا بالمثل والنكتة المعروفة عن العامل بإحدى المؤسسات الذي يحاول سرقة الأواني "سطل أو جردل" بالاحتيال وملئها بالرمل. يشك حارس المؤسسة عند بوابة الخروج بمحتويات الاناء ويفرغ الرمل وينكش ويبحث فيه دون جدوى. تتكرر عمليات التفتيش بشكل يومي ليكتشف في النهاية ان العامل كان يسرق الاناء ذاته..
بهذا تشكل مترتبات العنف وما ينجم عنه من قتل وحرائق واغتصابات ونهب، تشكل الرمل الذي بالاناء، فيما الاناء ذاته يظل بعيدا عن الشكوك.
بهذا يجب البحث عن العنف حيث يختبئ قبل خطوة واحدة من إسالة الدماء. في أكثر الأشياء براءة، النكات البريئة التي تدور حول العرق والجهة، السخرية من اللسان وطريقة التعبير، حجب ادعاء الحق في الانتماء لخطاب بعينه او استخدام رموز ثقافة بعينها، مثل السخرية من بدوي ارتدى البذلة الرسمية والكرافتة.. الحرمان من الحقوق الأساسية، من الخدمات ومن الحلم حتى بغد أفضل. هنا يكمن العنف الحقيقي ويتم الاحتقان الذي سيخلف الدماء حين ينفجر، الاناء البرئ من كل اتهام عند البوابة.
للتدليل على فكرة العنف والاستثناء من الخطاب التي تطرقت لها أعلاه اسمحوا لي بأن أنقل هنا أحد كتابات الأصدقاء في الفيسبوك والتي تعتبر مثالا لما أردت الإشارة إليه، يقول الصديق في نصه المكتوب، وركز على ما تحته خط:
" عصر امبارح سمعت الأغنية دي وبكيت ما عشان كلام القصيدة (الذكريات ) لا لكن عشان حاجات كتيرة ..زي ما كرة القدم فيها(أداء رجولي ) برضوا الموسيقى نفس الكذلك هنا في اداء رجولي من الاوركسترا والفنان الكبير المغدور
"خوجلي عثمان..له الرحمة والمغفرة ومثواه الجنة إن شاء الله..تقريبا اسلوب العزف والغناء في التسجيل دة بمثل خلاصة الاغنية السودانية الحديثة بل بمثل روح وحضارة ام المداين السودانية(الخرطوم ) كمنجات فخمة ووقورة ورشيقة..طرمبة حاسمة وبراقة وقوية..ريزم سيكشن باص جيتار وجيتار وايقاعات مهيبة.. عازف آلة الوسط (الاكورديون) شغلوا شغل نفس لاعب الوسط في الكورة بربط كل الخطوط مع بعض..مطربين كتار غنوا اللحن دة لكن خوجلي قولو تاني خالص اتحدى واحد فيكم ما شم ريحة بحري وزقاقات الموردة وبراحات الكلاكلات وليالي عموم الخرطوم المبهجة في التسجيل دة..يا جنجويد نحن ما حنهذمكم بالجيش بس(ودة حيحصل قريب بإذن الله ) حننتصر عليكم بالتمدن والتحضر وحب الحياة والفن الخالد دة..الخرطوم الكبرى(الخرطوم..بحري..امدرمان ) لا تموت" .
ترون كما أسلفت أن ادعاء امتلاك حساسية حب خوجلي عثمان وأغنية الوسط وحصره في ذات بعينها في مواجهة ذوات كثيرة غير مرئية، وبشكل مجمل، يمثل جوهر الاستعلاء العرقي.
يتعدى الأمر هنا مقاومة وضعية سياسية أتت بميلشيا مسلحة كان يمكن هزيمتها عسكريا لو كانت هنالك قوات مسلحة تمثل الإرادة السياسية المدنية المشتركة للعشب السوداني. وتأتمر بأمر حكومة مدنية منتخبة تمثل الشعب، وتلتزم بأصول الانضباط العسكري واخلاقيات العسكرية.
ولماذا لا تكون قواتنا المسلحة كما يجب أن تكون عليه أي قوات أخرى؟ لأنها ظلت تدافع عن مشروع هوية أحادي الجانب منذ الاستقلال إلى أن وصلت لهذا الدرك من الهوان.

فيما يتعلق بالهوية فلن تجدي السخرية من أم قرون أو "الكدمول" أو مفردات مثل "نعيمكي زايل"، فهذه ليست من انتاج الدعم السريع أو المكتب الفني الملحق بها. الحركات المسلحة مثل هذه الميليشيا ظاهرة عارضة ناتجة عن سياسات قمعية، وبصفتها هذه لا تنتج الميلشيات فنا ولا ثقافة، بالعكس المجتمع هو الذي يفعل. وحين يكون راد الفعل على الحرب هو السخرية من رموز شريحة ما من شرائح المجتمع والعمل على ابعادها ضمن عملية فرز تخبئ ما يكفي من العنف الرمزي المستتر، فيجب أن نتوقع رد فعل مضاعف في شكل عنف أعمى يستهدف الجميع.
فلنكن من الوعي بتوقع النتائج الماحقة لحرب الهوية. ثم لنتذكر بأن هنالك مجموعات سكانية أخرى في الشرق والغرب والنيل الأزرق وجنوب كردفان معنية بالتأكيد ومتأثرة بعملية فرز الهويات الجارية. مجموعات لم تكشف عن وجهه حتى اللحظة ولم تغادر مواقعها ناحية العاصمة أو مدن الوسط بحيث يراها الناس ويتعرفوا عليها لأول مرة. وربما حملت معها من الأغاني والأهازيج وطرائق الرقص واللبس ما لم يره أحد من قبل. كل هذه العناصر ستشكل وقود الحرب الأهلية الشاملة القادمة، إن لم نضع للحرب الجزئية الجارية حدا، والجلوس من ثم لرسم قواعد اللعبة السياسية بشكل عادل وشفاف يضمن الحقوق المتساوية للجميع بعيدا عن الهوية والعرق والدين واللون.
إبراهيم حمودة
صحفي وناقد مسرحي
22 سبتمبر 2023

ibrahimhamouda777@hotmail.com

 

آراء