شذرات منصور خالد وهوامشه ـ الحساب ولد (6)

 


 

 

 

abusamira85@gmail.com

رغم أن السيرة الذاتية من أكثر الأجناس الأدبية مراوغة، إلا أن الدكتور منصور خالد في كتايه الجديد (شذرات من وهوامش على سيرة ذاتية)، نجح في إعداد (نص متين ذي منظومة معرفية) يقترح إقامة علاقات مع القارئ، ليست بصيغة التصديق أو (إني الموقع أدناه) كما في السيرة الذاتية التقليدية، بل هي (اقتراح) قابل لملامسة فضول القارئ وإثارة شهيته، بهذا تخلق شذرات منصور خالد وهوامشها (أثرا) في القارئ.
ينتمي كتاب منصور خالد (شذرات من وهوامش على سيرة ذاتية) الصادر عن دار رؤية للنشر والتوزيع في القاهرة، بأجزائه الأربعة الضخمة لأدب السير الذاتية، وهو جنس يتداخل مع الفن الروائي، حيث قدم للمتلقي تفاصيل من حياته بضمير المتكلم (أنا) تأكيدا على هيمنة شخصيته على بنية هذا العمل الأدبي، وبذلك صار السارد متكلما ومنتجا للقول في العموم، وهنا التفاصيل:
فقدان الإرادة
منذ بدايات مسيرته في عالم الكتابة التفت منصور خالد إلى القضايا المهمة في بلاده، ولذا عندما تقرأ الجزء الثاني من كتاب (شذرات من وهوامش على سيرة ذاتية)، المعنون بـ (جيل البطولات وجيل التضحيات أين وكيف تنكبوا الطريق)، يستوقفك سؤال فحواه: ما هي أهم الأفكار التي تلح على منصور خالد في حديثه عن جيل البطولات وجيل التضحيات؟.
تكمن إجابة منصور خالد عن هذا السؤال في فقدان الرؤية، وما تتبعه من تخبط في السياسات، وربما نخلص إلى فقدان الرؤية هي آفة الحياة السودانية.
ويتعين على القارئ، أن تكون هذه الإجابة حاضرة في ذهنه عندما يطالع 16 فصلا تمثل الجزء الثاني من كتاب الشذرات تمتد على مساحة 481 صفحة تبدأ بقصة الرق في السودان وتنتهي بمجالي البحوث والبيئة مع ملحقين للصور والوثائق.
تجاوز منصور خالد القيود التي تتحكم في الكتابة عن موضوع الرق في السودان، وربطه ربطا عضويا بموضوع القومية، باحثا عن دوافع أهل الشمال للحط من قدر إخوتهم غير المستعربة؟.
إن أهم ما تشي به مبادرة منصور خالد في شأن ظاهرة الرق الاستطراد الجيد عن الظاهرة في سياقها التاريخي والجغرافي، ودعوته إلى الاقتداء بالعالم المتحضر في الاعتذار لأحفاد المسترقين عن الضيم الذي لحق بأجدادهم، ذلك أن ما (يميز أغلب دول العالم عنا هو استدراكها بعد إلغاء الرق كمؤسسة شرعية أن العالم في حاجة إلى تطهير نفسه من تلك الوصمة).
يطلق منصور خالد هذه الدعوة بيقين أن موضوع الرق لم يلق اهتماما في المشرق العربي، لكنه يستدرك أن ما يبعث على الارتياح أن دولتي المغرب وتونس أولتا موضوع الرق الاهتمام العلمي الملحوظ.
الرق سودانيا
عندما يعود منصور خالد إلى ظاهرة الرق في السودان، يحمل عصاه الغليظة ويهش بها نحو السيد الصادق المهدي مبينا أن قدم (دراهم زائفة) في موضوع الرق. وممكن الزيف عند منصور أن الصادق قدم وثيقة بعنوان (نحو سلام عادل)، حيث يرى المهدي أن موضوع الرق قد (قرئ من الجنوبيين قراءة أحادية، لأن الإشارة للمارسات قبيلية في السودان فيها اضطهاد واسترقاق لبعض الناس هي ممارسات خارج القانون والأرادة السودانية، وتوجد في كل البلاد المتخلفة، ووجودها في السودان بحجم أقل نسبيا من بلاد أفريقيا الأخرى).
يرى منصور خالد أن هذا الطرح يتضمن أكثر من (خظأ في التحليل وخطأ جسيم في الأحكام). والخطأ الأول (الإيحاء أن ظاهرة الرق تتعلق بالجنوب). والخطأ الثاني (محاولة الاستهانة بالرق بقياس حجمه).
ويتسأل منصور عن ما يعنينه الصادق بعبارة (ممارسات الرق خارج القانون والأرادة السياسية)، هل القانون هو الشريعة الإسلامية التي تبيح الاسترقاق في جهاد غير المسلمين، أم أن الأرادة السياسية تشمل إدارة الخليفة عبد الله الذي (كان بيت ماله يكتظ بالعبيد من بعد أن وزعت العبدات والسبايا وقسمن على الأحرار أي من ليسوا عبيدا، كما كان بيت ماله يضم العديد من الدوائر من بينها دائرة مبيعات الرقيق).
فرض موضوع الرق نفسه في مؤتمر المائدة بإثارته من قبل السياسي الجنوبي أقري جادين، وهنا تمتد عصا منصور خالد الغليظة تجاه زعيمين مرموقين، أولهما الزعيم إسماعيل الأزهري، حين يستدعي تعليق الأزهري على جادين (إثارة الموضوع خطة جهنمية لتكريس العداء والتفرقة بين أهل السودان).
وتمتد عصا منصور خالد تجاه عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي السوداني حين على علق على (فظاظة) أقري جادين في وصفه للزبير باشا بـ (شيخ النخاسين). وكان رد عبد الخالق (نحن فخورون بأن نكون أحفاد الزبير باشا).
ويخلص منصور خالد في تتبعه الجيد لموضوع الرق بطرح سؤال عن الذي فعلناه لألغاء الأثر الذي تركه الرق في نفوسمن أبناء وأحفاد وضحاياه في السودان؟ وهذا هو السؤال الذي ينتظر منصور خالد الإجابة عنه.
الميل الواضح
يستوقفك الميل الواضح عند منصور خالد للسرد الذي يمكن أن يحمل في طياته ملامح لكتابة روائية متماسكة وممتدة. ولعل هذه الشذرات من والهوامش على السيرة الذاتية يمكن أن تتحول في يوم ما إلى شرارات تمهد لكتابات أكثر عمقاً وتشعبا.
ويبدو هذا التمهيد واضحا حين نتفق أن الحزب السياسي كائن حي يتوقف تأثيره في الحياة السياسية على عملية تبادلية مستديمة بينه وعضويته الملتزمة ومجتمعه في سعته القومية، وعمق تلك العملية يرفد من منطلقات الحزب الإيديولوجية والفكرية للحزب وقدرتها على التفاعل مع القضايا والموضوعات والمواقف المتغيرة.
مناسبة هذه التقدمة أن منصور خالد لم يترك للحركة الاتحادية في مسمياتها المختلفة ظهرا ترقد عليه، ولسنا في مقام تقصي اسباب انتقاده الدائم للاتحاديين، لكن مراجعة أدبيات الاتحاديين ووثائقهم على مدى تاريخهم الطويل، تؤكد مدى سريان روح وثقافة الديمقراطية والوطنية والوسيطة والانفتاح الرشيد، إضافة إلى أن الحزب عند الآباء المؤسسين هو حزب وطني اتحادي جماهيري ديمقراطي، وعند اللاحقين حزب وسطي اشتراكي مفتوح لكل ألوان الطيف السياسي والثقافي دون شوفينية ولا عزل ولا تعصب. وفاز الحزب بالدوائر الانتخابية في كل أصقاع السودان شماله وجنوبه وشرقه وغربه ووسطه وجنوبه. وكان في الصفوف الأمامية للعاملين فيه، الإخوة من الأقباط وأبناء المديريات الجنوبية وجمعت منصة قيادته ابناء الشمال وكردفان والوسط والسودان كله.
وحين تناول منصور خالد حال الحركة الاتحادية لم يهتم بإيراد صعوبة العمل في حزب جماهيري كامنة في طبيعته وصفته، فنشاط التيارات وجماعات
الضغط المتعارضة ـ سيدي منصور ـ ليست غريبة على حزب عريض العضوية. وإذا
تأملنا في الأحزاب المماثلة في العالم تبين لنا تكرار ظواهر الاختلاف يصورها وأشكالها المتعددة. ولقد استطاعت الأحزاب الديمقراطية في بلاد عديدة، تطوير آليات للتعامل مع الخلافات الداخلية بحسمها ديمقراطيا، أو تطويقها واستيعابها أو تجاهلها أو الاكتفاء بالتعايش معها، قادتهم إلى ذلك تقاليد العمل التنظيمي الممتد دون انقطاع عبر التاريخ والمستندة إلى أدبيات ووثائق تنظيمية رفيعة المستوى يحتكم إليها ويحتج بها ويرضخ لها الخصوم. وفي ظل هذا ودون أية محاولة لإبداء التواضع الزائف نرجح أن الحزب الاتحادي الديمقراطي، هو حزب المستقبل في السودان إذ أحسن قادته في الكيانات كافة أن يطوروا آليات لتنظيم الخلافات. ويستمد هذا الترجيح مشروعيته من أن النسبة الأكبر بين الشباب اللذين قادوا حركة التغيير التي أدت إلى سقوط نظام الإنقاذ منذ ديسمبر 2018 ينتمون إلى الحركة الاتحادية ويمثلون الجيلين الرابع والخامس منها، وهؤلاء سيعيدون الحزب الاتحادي الديمقراطي المنفعل بقضية الوطن والواعي بعمق الأزمة وخطرها المتماسك على نضاله الجسورلأجل استعادة الديقراطية، وهذا حديث لم يات آوانه بعد.
الزعيم الأزهري
لسنا في مقام تقصي الأسباب التي جعلت منصور خالد كثير التجني على الزعيم إسماعيل الأزهري، ولا مجال للعجب هنا، ذلك أن تاريخ السودان المكتوب بأيدي الأجانب أو السودانيين تراه لا يسهب سهوا أو عمدا عن تدوين مآثر الأزهري الشخصية والعملية. فالأزهري بحسب من عاصروه وعايشوه لحظة بلحظة قدم كحاكم للبلاد تجربة غنية وفريدة على مستوى الاقليم والعالم، تستحق أن تروى وأن تتخذ كمثال، لما يجب أن يكون عليه ولاة الأمر على البلاد والعباد، عندما تم تشكيل أول وزارة سودانية برئاسة الأزهري في‏9‏ يناير‏1954‏ م. من الإشارات اللطيفة في شخصية الأزهري التي ظهرت في تلك الجلسة التاريخية ما نقله الأستاذ عبد الرحمن أحمد مهدي مدير مكتب الرئيس إسماعيل الأزهري أثناء تروؤسه لمجلس السيادة بعد ثورة أكتوبر 1964، في كتابه (حكايات عن الزعيم الإنسان إسماعيل الأزهري) على لسان البروفسير يوسف بدري الذي دائما ما كان يوصف الأزهري بـ (رجل دولة).
جاء في كتاب الأستاذ عبد الرحمن أحمد مهدي (حكى لي البروفسير يوسف بدري أن والده الشيخ بابكر بدري ذهب لحضور جلسة البرلمان التاريخية التي كان مقررا فيها انتخاب السيد إسماعيل الأزهري رئيسا للوزراء بعد فوز الحزب الوطني الاتحادي بالأغلبية المطلقة في الانتخابات، وبالطبع كان الأزهري في قمة بهجته بتلك اللحظات التي جاءت تتويجا لنضاله السياسي. لمح الأزهري الشيخ بابكر بدري يتوكأ في طريقه لداخل مبنى البرلمان، فأتجه نحوه وأخذه بيده حتى أوصله إلى مقعده داخل القاعة، التقط مندوب صحيفة التايمز الصورة وظهرت على صفحات الجريدة وعليها تعليق خلاصته كيف يوجه رئيس الوزراء في تلك اللحظات التاريخية اهتمامه برجل التعليم! أطلع السيد يوسف والده على الصورة والتعليق، فقال له الشيخ (لا مجال للعجب فهذا إسماعيل الأزهري).
الولاء الشديد
إن أكثر ما يرسخ في الذهن عن الأزهري حسب شهادة قدمها لي البروفسير محمد عمر بشير في يونيو 1985 (المثابرة والولاء الشديد والإغراق في السودانية والمعلم الماهر والرجل المنهجي، إضافة إلى عدم الحدة والقدرة على ملاءمة الناس من حوله).
وهذه شهادة أخرى عن شخصية الأزهري يقدمها السير قوين بل آخر وكيل لوزارة الداخلية قبل الاستقلال, جاءت في كتابه (ظلال على الرمال) الذي ترجمه إلى اللغة العربية الأستاذ بشير محمد سعيد. ونص الشهادة (على الرغم من أني سمعت كثيرا عن السيد إسماعيل الأزهري بوصفه رئيسا لمؤتمر الخريجين العام ورئيسا لحزب الأشقاء المتطرف ورئيسا للحزب الوطني الاتحادي، فإنه لم تتح لي الفرصة لإنشاء صلات معه، إلا عندما صار رئيسا للوزراء ووزيرا للداخلية. وظلت علاقتنا منذ ذلك الوقت متصلة ويومية. وكانت نظاراته ذات الإطارات المذهبة تخفي وراءها شخصية دافئة القلب، كريمة المظهر، طموحة ومتماسكة. وخلال الأشهر الثلاثة الأولى حاولت جاهدا أن أتقرب إليه وأصادقه وأحرز ثقته، مما يمكنني من التأثير على مجرى الأحداث، ولكن السبيل إلى ذلك لم يكن سهلا. وأقر أن الأزهري لم يحاول أن يلقي تبعة أحداث مارس المؤسفة علينا، كما لم يتخذ أي إجراء ضد حزب الأمة أو الأنصار).
عندما نعود إلى الطريق الذي قاد الأزهري إلى الاستقلال، نلاحظ أن أحداث مارس 1954 تركت أثرا واضحا على أفكار الأزهري، إذ أخذ ينظر للأمور بواقعية، رغم الضغوط الشديدة التي ظل يمارسها عليه بعض المتطرفين من مؤيديه، حيث اعترف بالحكمة التي عالج بها أحداث مارس، خصومه قبل أصدقائه، وهنا شهادة السير روبرت هاو حاكم عام السودان (إن الأزهري كان رجلا يتمتع بسعة صدر عالية وقدر عال من التسامح).
نواصل

 

آراء