صديق محمد البشير: الإنسان الطيب من دارفور بقلم: د.عبد السلام نورالدين
7 August, 2009
abdelsalamhamad@yahoo.co.uk
مهاد:
أنت إنسان برهن على ذلك
هل الإنسان متوحشٌ بالفطرة، كاسر بالطبعِ، شريرٌ بالميلاد؟ كما قد نبت وإعشوشب وتسلق ذاك التصور في دماغ وسلوك وخلق أبي الطيب المتنبئ فعدا بشعره علي كل من خلق الله، وما لم يخلق، ولم يتخل منذ نعومة بوصيلات مشاعره وحتي مصرعه في دير العاقول عام 354هـ عن ذات الاعتقاد الراسب في باطنه؟!
في لحظة من الإشراق يانعة تخلى أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي ( 450هـ -505هـ ) عن بلاط السلطان نظام الملك السلجوقي، وعن الشيطان أيضاً في صورة الطالح والمرسل من المصالح الدنيوية التي كما قد إعترف في سيرته الروحية أنها قد كتبت عبره الكثير من مصنفاته، فتكشف له بما لا يدعو مجالاً للمراوغة دلالة الحديث النبوي (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) والمعني الذي تبدي له بصريح العبارة العربية والفارسية إن كل العقائد الدينية عارضة، وأن الأبوين، والعائلة، والبيئة، والمجتمع، والتعليم، والثقافة، وما يتداعى منها وينساب تتداخل وتتبادل الأدوار وتتصارع هزيمة وإنتصاراً، عفواً وقوة، في بناء الشخصية الإنسانية وصياغة أخلاقها ومزاجها.
يبدو أن الإمام الغزالي قد أسقط بالضربة القاضية السؤال الكلامي المدرسي الشائع الذي ما زال يأتي بعد ألف عام من وفاته: هل الإنسان بالطبع شريرٌ أم خيرٌ؟ وما تناسل منه وتفرع وتفرخ.
وكيف إذن يتأتى للإنسان أن يكون فاضلاً؟ قد عثر الغزالي في التصوف ذوقاً وعملا ً، مدخلا ً ومخرجا، من ظلمات البغي السلطاني، ومن حلزونيات كهوف الأنا، وكلها من الصناعات التي برع فيها الأوباش من بني الانسان، والحاجه أم الإختراع.
تشبه ضربات الإمام الغزالي القاضية جولات الإنتفاضات الشعبيه في السودان (1964-1985) مع الطغم الإستبدادية، إذ تطيح بها بالضربة القاضية، ولكنها تعجزعن توطين الديمقراطية، فتسمح للاستبداد أن يستعيد قواه فيعتلي الحلبة مرة أخري لينازل بهمة عالية، والضربة التي لا تقتلك ستستقويك.
جاوز الشاعرُ والكاتبُ والمسرحي الألماني برتولد برشت (1898– 1956م) مفاوز الأخلاقيين من حكماء يونان، ومتاهات علماء الكلام في المسيحية والإسلام عن الخير الأقصى والشر المطلق، وتخطى مقولات عصر النهضة والتنوير عن اللذة والمتعة، والمنفعة والألم، إلى مازق الفعل ومعارجه إلي أعلي عليين واسفل سافلين في ثنايا التحديات التى تجابه الإنسان في فكره وسلوكه اليومي . تساءل برشت بتشاؤم الشعراء وتفاؤل عامل يعرف القراءة والكتابة عن مدى قدرة هذا الإنسان أن يتجاوز شح نفسه، وقصور يده، وحدود بصره، في سياق ثقافة ومجتمع يتقلب بين الهبوط الي القاع والنهوض لإقتحام السماء.
كتب " برشت" قصيدة كاملة تتألف من خمس كلمات فقط على منوال برهن علي ذلك في الرياضيات.
تقول معلقة الكلمات الخمس:
أنت إنسان
برهن على ذلك
Du bist ein mensch beweis das
ماذا تتضمن أطول القصائد معني وأقصرها مبني؟
*ليس الشر أو الخير معطي جاهزا يفيض من لوح محفوظ وانما يتخلقان في مجري الحرب الاهلية الدائمة التي ألفي الانسان نفسه في دواماتها منذ أن إنبثق ضوء الوعي يوما في محجريه فأبصر.
حينما تحول مصاعب السهول دون أن يبلغ الإنسان مراده الفردي أو الاجتماعي يتعرق العجز واليأس من مساماته لؤما وشرا، وحينما ينتصر نفس الانسان علي تحديات الجبال يشرق الفرح في عيونه أملا ويملأ العالم نضارة وبشرا.
*إذا طرح إنسان ما بجدية كاملة على نفسه مهمة أن يبرهن على إنسانيته فسيظل طوال حياته مستغرقا على مدار الساعة آناء الليل وكل النهار لإنجاز تلك الغاية التي ليست بأية حال يسيره، ومع ذلك سيظل هذا الإنسان على غير درايةٍ عما إذا كان برهانه صحيحاً أم باطلا، إذ لن يتأتي له أن يكون علي قيد الحياة في تلك اللحظة التي تتم فيها مراجعة "البرهان" في كراسة واجبه المنزلي الذي إقتضاه كل سنى عمره.
(2)
الانسان الكامل في السودان
لقد برهن صديق محمد البشير(1936-2009) الإنسان الطيب من حي القاضي بمدينة الفاشر، وصاحب مكتبة الجماهير الحبيب إلي كل من تعلق بالمدينة التي كانت في عقد الخمسين والستين(1965 ــ 1950) وديعة و زاهرة بنبوغ علي المسألة التي درات حولها معلقه برشت.
تسنى لصديق محمد البشير أن يحافظ طوال حياته بصرامة العلوم الرياضية وتلقائية منطقها أن يتزيا بالوسامة، والأناقة، والسماحة، والأريحية، في روحه، وفي بدنه، وفي الملابس التي يرتديها، وفي الخطابات التي يكتبها إلي الخلص من أحبابه والاباعد من معارفه، وفي توجهه الشخصي في المحافل التي يغشاها، وفي الأحداث والوقائع التي شارك فيها مؤازرا أو مبتكرا فاعلا، ومع الذين يلتقي بهم أثناء ساعات العمل الرسمية، وفي الفكر الذي تمثله بشفافيه التذوق، وفي الأهداف والغايات التي تطلع أن يراها تمشي بثبات علي الارض، وقبل ذلك في صلاتة مع أقرب الناس إليه، وعلي وجه خاص الاطفال، والنساء، والشيوخ.
قد حافظ صديق حتى اللحظات الأخيرة التي فارق فيها الحياة على الوسامة، والإناقة، والسماحة التي طبعته، وتحلي بها ظاهرا وباطنا، فلم يزعج أحدا بمسراته، أو بالكوارث السياسية التي حلت به في سني 1965 وفي 1971، أو تلك السنين العجاف التي عقبت قضاء سنتين بسجون دارفور، ثم الطامة التي تلت وفاة شقيقه أحمد محمد البشير الذي تبتل في محراب أطروحة الدكتوراة بمصر لأكثر من ثلاثين عاما، يروح ويغدو بين الجامع الأزهر وشارع عباس العقاد بمصر الجديدة، وظل صديق يرفده بسخاء وحب في ذلك المحراب إلي يوم وفاته، ولقد كانت أيضا اياما عصيبة وفاة زوجه الأولي.
ظل صديق محمد البشير معتدلا متسقا كقامته في كل الأنواء والفصول، إذا إبتهج إبتسم وإذا غضب كظم، وإذا مرض إحتمل، وإذا أضرم سفهاء قومه النار في بيته ومكتبته لمجرد إختلافه معهم في الرأي لم ينتقم.
قد برهن صديق محمد البشير بدقة ونعومة وجمال على عمق إنسانيته التي لم تفارقه لبعض ثانية من الزمان في كل دقائق رحلة حياته.
لو كان ثمة إنسان يمكن أن يُطلق عليه في هذا السودان الذي كاد أن يكون في بعض العالم من معالم الشر المطلق في كل العالم- الإنسان الكامل فقد كان صديق محمد البشير الإنسان الطيب من حي القاضي بالفاشر إنسانا كاملا بحق.
(3)
ألفاشر-النهود-ودجاداللة –ابوالقاسم حاج محمد وعبدالخالق محجوب
لكل مدينة في غرب السودان في عقد الخمسين ومبتدأ الستين من القرن الذي تولي معالم ومنارات وآيات واساطير فإذا ما ألقت بك عصا الترحال يوما في "النهود" مثلا ولم تتعرف على نادي الوطن، ونادي حيدوب، ونادي السلام، ولم تلتق بإدريس الصويم ود بوجة، وعبدالله محمد محمود، ومحمد احمد البلاع، ومحمد آدم يعقوب، وإبراهيم المغواري، وحسن العشاري، وإبراهيم حمادي، وصالح كردفاني، وصالح آدم بيلو وعبد الرحمن الزين، وعبد الرحمن الحضيري، والتيجاني عمر، والغالي جديد، وعبد الحق أحمد الازهري، ولم تجلس إلي عباس الفكي على(عالم عباس)، وعمر عبدالرحمن، وبا نقا مهيد، واسماعيل موسى الحدربي، وفكي كرسي، ومكي الخليفة، والامين جحا، ومنصور ابكر، وضوالبيت شيخ السوق، وميرغني عبدالوهاب، وجبارة اللة الحامادابي، وحامد صقر، وفكي حسن ابراهيم سبيل، وشيخ منعم منصور، والجراح، وأبوالزول، والخليفة الحسن الحسين، وحامد رشوان، ومحمد الامين رشوان، ومستمهل ماكن، ولم تنتظم في شباب الختمية والأنصار حينما تعاشقا في شهر عسل جد قصير وتهاتفا :الختمية والانصار حزبا واحد لن ينهار، ثم فجأه تدابرا- وإذا لم تتذوق علي إيقاع النوبة والحوبة فتة الشيخ البدوي حمد النيل، وود كريب، والخليفة اسماعيل، ولم تسمع بشكري عرقتنجي، وإلياس دولتلي، والكدرش، والريح، وشده كرياكو، وفاطمة راشد، وكركاب، والبرياب، وطاحونة لينق، ومهرة حسين شلبي- والشيخ الزبال، وبالمدرستين الشرقية والغربية ولم تطرف بالساري والجاري من اخبار عُمـري وابو سميركو، وود دامرة، وباكوم، وحسن قاتا، وجمباكا، وباشري وللي، وعلي سعيد، وصلاح السنوسي، وفريق الطويشة وأبو سنون، وابو جلوف، وخور جهنم، فأنت مصاب بداء عضال في البصر والبصيرة، وبأمطار وصواعق في اليافوخ وتائة بين جبال المرخيات علي تخوم أم درمان، وتظن نفسك في غرب كردفان. أما إذا ذهبت في خواتيم عقد الخمسين ومبتدأ الستين (1958-1962) إلى الفاشر أبو زكريا، ولم تكن تعيس الحظ، مبعثر النوايا، ضائعا بين الاتجاهات وإلتقيت منذ الوهلة الأولى بالمدينة صديق محمد البشير الهاش الباش في مكتبة الجماهير بعد أن غادر النهضة فأنت في قلب المدينة العريقة، وأمامك قبابها، ومنائرها التي ستتلو عليك برخيم صوتها آياتها بكل القراءات في مستقبل أيامك بها ولن تخرج منها ابدأ إلا وأنت عليم بالمستور من أخبار"حجر قدو" ومحكمة واقف طولك" و"كفوت" و"القاضي" و"الكرانك" و"الحملة" و"اولاد الريف" و"سبيل" وبالمحجوب من أسرارها لغير بنيها، والمنشور من صحائفها، والمؤتلف والمختلف من آرائها وأفكارها، ولكن قبل أن تتعرف علي كل ذلك تمتع بصديق نفسه الذي سيأمر لك بما تحب من الليمون الطازج، وشاي علي ماء أبيض، أو قهوه مرة فنجانها مزوق، فينادي لتوه: ياشباب!!، فيأتي إليك وقبل أن تتصفح الصحف، والمجلات، والكتب التي وصلت لحظتها من المطار..الشاي الأحمر تضوع منه القرفة والنعناع من قهوة قنديل المجاورة، وستلمح بالطرف الأعلي من عينك وانت ترتشف الشاي الساخن علي الطرف الآخر من الشارع فضل محمدي، صاحب مكتبه النهضة، يتعثر في جلبابه السكروتة، ويعاظل في أمر دفين التجاني سراج الذي فارق الشعر رأسه فراقا غير وامق، ويعبر في تلك الهنيهة هادئا في مشيته مراسل صحيفة كردفان والكاتب الرصين الذي لم يتخط العشرين من عمره مكي نصر، وهو يصغي كعادتة لإبن دفعتة صلاح عبدالله الذي يتحدث بحماس في كل أمر يطرقه، ثم تجلجل علي بعد خطوات في المكتبة الثالثة الاخرى ضحكة لها هدير وارزام فأعلم أنها لشيخ المكتبات، وصحافييها، وقطب الوطني الاتحادي بالفاشر الاستاذ أبوالقاسم حاج محمد الذي كان في عام 1953 علي رأس المظاهرة التي أحرقت العلم البريطاني، ومع ذلك تحرش به ود جاد اهلا في ليلة سياسية لحزب الامه "رمز القوة" في إنتخابات 1958 قائلا بصوت لا ينقصه الإستخفاف والاستكبار:
يا أبوالقاسم حاج محمد يا تقعد في البلد دي زيك وزي أي (مماكوس) ويا عندنا لينا معاك كلام تاني!!.
أما الكلام الثاني الذي لم يخطر علي بال ود جاد الله إذ رد الإعتبار لأبو القاسم حاج محمد وكال الصاع عشرات لود جاد الله الذي لابد أن قد ندم علي ما فلت منه وإنزلق فلم يكن من الطاهر محمد أبراهيم كبير الاتحاديين بالمدينة أو من خطيبها "المفوه" إدريس حبيب بل كان للمفارقات من عبد الخالق محجوب عثمان في ثنايا طوافه دارفور في مارس 1958 مع قادة الجبهة المعادية للاستعمار التي لا بقر عندها تهديها ولا مال فأسعد الفاشريين بمعرفة حالهم وبحسن المقال والثأر للفلانيين، والفزانيين، وأولاد الريف، والصليحيين، والطوارق، والشناقيط، الذين كانوا وما فتئوا من نسيج المدينة وحبلها المتين وقبل ان تنضم دارفور الي السودان الشرقي في 1916.
حالما تتوقف ضحكة أبو القاسم حاج محمد المشاغبة تعلو الأصوات التي لا تعرف ترسيم الحدود بين الجد والهزل بين الجارين العزيزين إلياس جاد كريم وعضو مجلس الشيوخ محمد علي أبو سم، إذ تتجدد الموضوعات والنزاع الودي قائم، أما اذا سئم رجل الأعمال محمد علي أبو سم من جدوي المناظرة التي لانهاية لها مع إلياس جاد كريم الترزي الافرنجي في ذلك الشارع إلتفت يمنة ويسري فإذا لم يجد أحد ابنائه الذي ينبغي أن يكون علي الدوام حاضرا أمامه نادي بأعلي صوته عليهم جمعيا: أين أنت يا إسماعيل؟ ياعبد العزيز؟ يافاروق يا عبد الباقي ؟ ياجاه النصر؟ ثم يعود مواصلا حواره الأثير، مستشهدا بكرزون وشاشاتي وكلهم أعضاء في المجلس البلدي الذي قد قرر في إحدي جلساته بتحريض (كما قد بدا لأبو سم) من إلياس جاد كريم بطرد حمار أبوسم من مربطه بشجره السوق حيث المكتبات التي يؤمها الأفندية الذين يتحلقون لأغراض تقدحها، وتشحذها، المنافسه التجارية، والتوجهات السياسية، وبحث الأفراد الدائم عن شقائقهم في الأرواح فيتوزعون بين صديق محمد البشير وفضل محمدي وابوالقاسم حاج محمد، ولا ينافس اولاء في التألق وبهاء الهالة والوجاهة في ذلك الزمان (1958) إلا: عوض الكريم أبو سن، مؤلف تاريخ دارفور، ومدير المديرية، وقاضي المديرية حسن عبد الرحيم(- المنشفيكي الذي فضل أطروحات عوض عبد الرازق علي موضوعات عبد الخالق محجوب- شقيق عبد الرحمن عبدالرحيم الوسيله وخال القاص البديع مصطفي مبارك) ثم مولانا عوض الله صالح قاضي المديرية الشرعي) ومصطفي أحمد الشيخ ا الذي كان نجما شارقا في قياده إتحاد الشباب السوداني فنفي من الخرطوم الي الفاشر نكاية فيه فإزداد إزدهارا في حاضرة علي دينار، إذ أنتخب رئيسا للنادي الاهلي بالفاشر فأعادوه مرة أخري للخرطوم حتي لاينشر الشيوعية في (الكومة وأزاقرفا) وبعض الشر أهون من بعض. لقد كان دائما في عجلة من أمره، ودودا بتحفظ وحزم، يأتي إلي المكتبة ليلتقط مجلاته، وكتبه، ويخرج كالسهم إلي مرماه، ولا يضحك بملء فيه مسترخيا إلا مع صديق محمد البشير أو مع الاديب النابه فاروق الطيب أبن الاراك والمقل والمطرود من مصر الناصرية لأواصره مع الاخوان المسلمين ذلكم هو الشاعر محمد الحسن عكود الاستاذ بالوسطي بنات ولم تحل مشاركته في تأسيس حركه الاخوان المسلمين السودانية إبان نشأتها الاولي ان يكتب شعرا رومانسيا غزلا فينشده فاروق الطيب المفتون بسيد قطب الناقد الادبي وأنور المعداوي بمحبة، وبقي الاستاذ عكود بالفاشر ردحا من الزمان، وتزوج منها، وعاصر وكون مع الشاعرين عوض مالك الضابط بالقيادة الغربية ومبارك حسن خليفة الاستاذ بالفاشر الثانوية حلقة للتدارس الادبي. حينما تحتسي آخر جرعات الشاي مع نهاية يوم العمل في الثانية بعد الظهر يهل كرف وباسيلي اولا، ثم تتدفق علي مكتبة صديق جحافل الافندية، وضباط الحامية، الغربية، وعمال الحملة المستنيرين، من مدمني القراءة لتناول الصحف اليومية والمجلات المصرية التي ترد مرة كل اسبوع بالطائرة لإلتهامها قبل واثناء تناول وجبة الغداء.
أما غير العجولين فسيأتون بعد الرابعة مساء، إذ تتحول مكتبة صديق إلي منتدي وملتقي عام لنخبة المدينة بكل مشاربها وألوانها في الثقافة والسياسة والفكر والرياضة والغناء، أما مركز الأضواء والدائرة فهو صديق محمد البشير الذي يجسد ويبلور في سلوكه، وأخلاقه، ومواهبه، ورحابته، روح المدينة، وسعة صدرها، وحسن استقبالها للوافدين اليها من كل حدب وصوب قبل أن يجتاحها الغلاة من الأصوليين في 1965 الذين أشعلوا النيران في كتبه، ومنزله، وأفسدوا علي الفاشريين بهجتهم بسماحة مدينتهم. لم يخطر لأكثر اهل دارفور خيالا شرودا أن الإعتداء الغاشم الذي وقع علي صديق محمد البشير في (1965) الذي يضرب بوداعته وتسامحه وحبه للبشر الأمثال، كانت المقدمة المشؤومة للقيامة في الحياه الدنيا التي تعيشها كل دارفور الان.
(4)
كرف -حسبو ابراهيم - عبدالرحيم علي بقادي
إنني علي يقين تام أن كل الفاشريين الذين عاصروا بعيون مفتوحة المدينة في إبان تألقها في النصف الثاني من عقد الخمسين والأول من عقد الستين في القرن الماضي يدركون أن صديق محمد البشير في إيلافه قلوب المقيمين بها بأفئدة الوافدين إليها كان رمزا لوجدان وعقل الفاشر المتسامح، الودود، الشارق، وبوفاة صديق تنطوي لهم صفحة مضيئه كانت لها تاريخ في أعماقهم.
يظل صديق عالما من الخير، ورمزا له بالنسبة لأولئك الذين كانوا في الخامسة عشر من عمرهم مثلي الذين إنما قدموا إلي الفاشر للإلتحاق بإحدي ثانويتيها- الفاشر الثانويه أوالمعهد العلمي ـ الشرقية، وكان صديق محمد البشير من مصادرهم الأساس للتعرف علي الكتب، والمجلات، والبشر، وعلي وجة خاص الناس في المدينة الوادعة.
أدرك أن كثيرا، عديدهم من أسرة صديق ومن ابناء الفاشر ومن اصدقائه وأحبابه الذين لا حصر لهم، قد أصابتهم الواقعة برحيل صديق المفاجئ، ومع ذلك قد عجزت تماما أن أتصور كيف استقبل كرف، وحسبو ابراهيم، وعبدالرحيم علي بقادي، الخبر أن صديق محمد البشير لم يعد من الاحياء.
لصديق الرحمة والمغفرة بقدر البشر، والسماحة، والمودة، والعطاء، الذي فاض منه
وأربي.
**
صحيفة الاحداث- الخرطوم الاثنين /08/0903
Dr Abdelsalam Noureldin
abdelsalamhamad@yahoo.co.uk