صراع المصالح يؤجج حرب جنوب السودان

 


 

 



مع مرور الأيام حاملةً المزيد من المآسي الإنسانية لمواطني جنوب السودان جراء النزاع الدموي بين رفاق الأمس "مقاتلي الحرية" الذين تحول إلى "صراع سلطة" يتأكد أن النزاع في طريقه لأن يأخذ طبيعة "الصراع المتطاول الأمد" على رمال ناعمة متحركة بفعل تضاد أجندة الفرقاء المحليين, وتباين حسابات الوسطاء الإقليميين, وتقاطع مصالح اللاعبين الدوليين, وهو ما يعني أن الأزمة التي بدأت بتنافس داخلي محموم للسيطرة على السلطة في الدولة الوليدة آخذ في التعقيد والتشابك والتضخم كشأن كرة الثلح المتدحرجة بفعل تأثير دخول عناصر خارجية عليه, وهو ما يقود إلى سيناريوهات مفتوحة على مستقبل الجنوب ليس أقلهادخوله ثلاجة"تطبيع الأزمة" مع نزاع لا تلوح بوادر لإمكانية حسمه عسكرياً أو تفاوضياًفي الأمد المنظور.
ليس في الوصول إل هذه الخلاصة تعجلاً في التحليل بما يدرجه في باب التكهنات أو التنبؤات, ولكن القراءة الموضوعية لمواقف وسلوك الأطراف المختلفة, محلياً وإقليمياً ودولياً, في هذا الصراع المحتدم الذي لم يكن نشوبه مفاجئاً بأي حال تشير إلى غلبة هذا الاحتمال.
ذلك أن أحدث دول العالم برزت إلى الوجود تحمل كل جيناتالعقل السياسي لمعطوبللبلد الأم الذي لا تزال تمزقه الحروب الأهلية حتى بعد مرور بعد ست عقود من استقلاله, ولم يفلح تقسيم السودان إلا في إعادة إنتاج الأزمة ذاتها في البلدين معاً, فالرهان على أن الانفصال يحمل الترياق لكليهما أثبت العكس فقد ولد دولتين فاشلتين بإمتياز لا تزالان غارقتين في الحروب الأهلية.
وقد أثبتت النخبة السياسية في دولة جنوب السودان أنها ليست سوى الوجه الآخر للعملة ذاتها للنخبة الشمالية التي أورثت السودان نظاماً سياسياً عاجزاً على مدار سنوات الحكم الوطني, مع كل دعاوى الاختلافات التي كان يروج لها بحسبانها سبباً في الصراع بين الشمال والجنوب, وها هي تحذو حذو النعل بالنعل تعيد إنتاج سيرة بلد لم يعرف الاستقرار بعد عقود ست من استقلاله.
وعلى نحو مثير يكرر التاريخ نفسه, وكما تفطّن إلى ذلك كارل ماركس, كانت المرة الأولى مأساوية وبلد مثل السودان لم ينقصه شئ ليكون أكثر من مجرد دولة لا يأتي اسمها إلا مقروناً بالحروب الأهلية, والفقر, والمجاعات والفشل السياسي, وها هو يكرر نفسه مهزلة حقيقية في دولة الجنوب التي لم تصمد أكثر من ثلاثين شهراً حتى تبددت كل أهازيج الحرية, وحماسة الميلاد, وأحلام التحرر, وآمال الغد المشرق على يد نخبة رفاق النضال الذين كانت شعاراتهم تعانق تحدي تأسيس سودان جديد موحد على قواعد جديدة, فإذا هم يعجزون حتى عن تقديم نموذج مصغر في رقعة كان يُنظر إليها بحسبانها كتلة واحدة متناغمة متجانسة توفرت لها كل الأسباب الموضوعية للنجاح.
وما يُرشّح النزاع في جنوب السودان للتحول إلى "صراع ممتد" و "حروب أهلية متطاولة" أنه يتغذى على المعطيات نفسها التي جعلت استدامة النزاعات أمراً مألوفاً في هذا الجزء من العالم, وبصورة أخص في السودان الكبير الذي عرف أطول حروب القارة الإفريقية, صحيح أن الصراع في ظاهره سياسي حول السيطرة على القرار في الحركة الشعبية الحاكمة حرّكه اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابي الرئاسي المقرر دستورياً في العام القادم, وجاء تحرك الرئيس سلفا استباقاً لتهيئة المسرح لضمان إعادة ترشيحه بالتخلص من منافسيه الأقوياء المحتملين لا سيما ريك مشار,وتم ذلك بإقصائه من منصب نائب الرئيس, ولكن فرض سيطرة سلفا على السلطة التنفيذية لم يكن كافياً, وفجّر الصراع المسلح بصورة مباشرة محاولته إكمال بسط نفوذه على قيادة الحركة الشعبية معقل مناوئيه الأخير, وعجّل بالصدام أن اجتماع مجلس التحرير, أعلى جهاز في الحركة بعد مؤتمرها العام, أوشك ان يحقق له ما أراد مما دعا خصومه للإنسحاب, وأراد الرئيس سلفا الإجهاز على أي نفوذ لهم داخل الجيش الشعبي  حيث كانت محاولة تجريد الحرس الرئاسي على أساسي قبلي باستهدافه للعسكريين من قبيلة النوير القشة التي قصمت ظهر البعير, وحاول تغطيتها برواية المحاولة الإنقلابية الفاشلة.
ومع أن فتح الرئيس سلفا لجبهة واسعة من الخصومات مع قادة الحركة الشعبية التاريخيينمن خلفيات عرقية مختلفة شملت شخصيات تنحدر من الدينكا, والنوير والشلك وغيرها هو الذي منح مظهراً سياسياً للصراع من خلال تحالف الضرورة المرحلي الذي جمع بينها في معارضتهم لسلفا على ما كان ما كانت من سباق خصومات معروفة بين مشار وأغلب حلفائه الجدد. إلا أن الصراع المسلح المحتدم الذي سرعان ما تنّزل إلى القواعد كان كفيلاً بإضفاء البعد العرقي على الصراعمدفوعاً بحمولة تاريخية للتنافس والثأرات بين الدينكا والنوير, القبيلتين الأكبر والأقوى نفوذاً في الجنوب, فضلاً عن أن القتال على الأرض يجري فعلياً على حدود التماس العرقي وليس السياسي.
إرهصات انزلاق الصراع السياسي إلى ساحة القتال كانت تلوح في الأفق منذ أشهر عديدة, وهو ما يثير تساؤلاً حول مهمة ودور بعثة حفظ السلام الدولية الموجودة منذ ميلاد الدولة الجديدة بقوام يضم سبعة آلاف من الجنود, وبعثة سياسية فإذا لم تكن تتحسب لحلحلة النزاع الذي بدأت نذره منذ عزل مشار وطائفة من كبار قادة الحركة الشعبية من الحكم, فماذا كانت تفعل أصلاً, خاصة أن هذا النوع من الصراعات معروف ومتوقع حدوثه في الدول الخارجة من حروب أهلية لتّوها, وهو ما كان يتطلب دوراً وقائياً فعالاً يمنع وقوع الحرب ابتداءاً وليس التدخلالعاجز بعد وقوعها نحو ما فعل مجلس الأمن الدولي بمضاعفة قوة حفظ السلام في مهمة لن يًكتب لها النجاح بعدما دارت عجلة  الحرب على مستوى القواعد القبلية للطرفين المتنازعين.
وهو ما يطرح تساؤلاً آخر لماذا لم يتحرك المجتمع الدولي مبكراً لتجنب حدوث ما كان واضحاً أنه سيكون السيناريو الأكثر ترجيحاً, خاصة الولايات المتحدة التي لعبت الدور الرئيسي في إنهاء النزاع الشمالي الجنوبي وضمان حصول جنوب السودان على استقلاله, وبدا لافتاً الإدارة الأمريكية سارعت إلى النأي بنفسها عن الدخول في متاهة الصراع الجنوبي – الجنوبي, واكتفت بضمان سلامة رعاياها في الجنوب حتى أجلتهم تماماً بما في ذلك بعثتها الدبلوماسية في إشارة واضحة إلى أنها تتوقع إزدياد المخاطر الأمنية, وتراجع فرص التسوية السلمية السريعة, وعدم جدوى الاتصالات الدبلوماسية في ظل المعطيات الراهنة.
وبدا لافتاً أن دولة جنوب السودان التي كانت تتمتع بأصدقاء عديدين في الساحة الدولية لا سيما الدول الغربية أصبحت فجأة وحيدة وتُركت لتكافح مصيرها بلا سند ولا ظهير دولي.
ومن الواضح أن المجتمع الدولي آثر ان يترك الملف برمته لدول "إيقاد" التي تولت الوساطة في محاولة للاستفادة من تجربتها السابقة في التوسط لإنهاء الحرب الاهلية السودانية, غير أن الظروف والملابسات المتغيرة تجعل مهمتها هذه المرة محفوفة بعوامل الفشل, ليس فقط بسبب دخول النزاع بين الأطراف الجنوبية إلى مرحلة اللاعودة عن طريق إصرار الفريقين على تحقيق مكاسب لن يتنازل أياً من الطرفين عن تسجيلها سواء بالحرب أو التفاوض, بل أيضاً بسبب أن الصراع لم يعد داخلياً فحسب, فالأجندة المتعارضة والمصالح المتباينة لدول الجوار التي تشكل عصب منظمة "إيقاد", تسببت في إرباك الوساطة حيث تحاول كل دولة التحرك بمفردها في الملف في الوقت الذي تعلن فيه كل واحدة منها أنها لا تملك مبادرة منفردة خارج "إيقاد", ولذلك استفاد طرفا النزاع من ذلك الفراغ في محاولة تحسين الوضع العسكري لكل منهما على الأرض, وذهبت إدراج الرياح تعهداتهما بالوقف الفوري لإطلاق النار.
بالطبع لم ينتظر الرئيس اليوغندي يوري موسيفني الفرصة تفلت من بين يديه حين سارع إلى إتخاذ موقف حاسمك مؤيد للرئيس سلفا منذ بداية الأزمة, وأردف ذلك بتدخل عسكري مباشر في النزاع, متجاوزاً تحركات "إيقاد" وهي عضو فيها, ولم تحفل حتى بعدم ضمها للمبعوثين الثلاثة الذين سمتهم لإدارة الوساطة وهم الجنرال الكيني لازارس سمبيّو وسيط السلام السوداني المعروف, ووزير الخارجية الإثيوبي الأسبق سيوم مسفن, والفريق مصطفى الدابي الذي اختارته الخرطوم متأخرة لتمثيلها.
أتى التحرك اليوغندي السريع المبادر إلى توسيع دائرة نفوذها في جارتها الشمالية دولة جنوب لسودان ليثير قلق الحكومة السودانية التي تحتفظ بعلاقات متوترة مع كمبالا التي تحتضن تحالف الجبهة الثورية الذي يقود المعارضة المسلحة ضد الخرطوم. وجاء استيقاظ الحكومة السودانية على وقع هذه التطورات المتسارعة متأخراً, فقد كانت آخر الأطراف من دول الجوار تحركاً بإتجاه جوبا مع أن كل المعطيات الجيوسياسية والاقتصادية التي  تشير إلى أن السودان هو المتضرر الأكبر من استمرار الحرب وانزلاق الوضع في الجنوب إلى الفوضى.
ومع أن الخرطوم أظهرت تأييداً ناعماً للرئيس سلفا منذ بداية النزاع إلا أنها حاولت في الوقت نفسها ألا تبدو منحازة في الصراع إلى جانب طرف ضد الآخر, خشية أن تجد نفسها متورطة في النزاع الداخلي بما يزيد علاقتها الملتبسة أصلاً مع الجنوب تعقيداً, ولكنها قررت أخيراً أن تنهي ترددها ودخول لحلبة بصورة واضحة عبر زيارة الرئيس عمر البشير إلى جوبا والتي جاءت متأخرة بالفعل بعدما سبقه إلى هناك ثلاثة من روساء دول الجوار, وحاولت الخرطوم الاستفادة من غطاء "إيقاد" المتخذ موقفاً منحازاً لشرعية الرئيس سلفا كير.
مع أنها ليست في وارد التورط عسكرياً في نزاع تدرك أنه لن يًحسم في ميادين القتال, وهو ما دعاها للمسارعة لنفي خبر ذاع عن نيتها التباحث مع حكومة جنوب السودان لنشر قوات مشتركة لحماية حقول النفط, وهي مهمة صعبة عملياً إن لم تكن مستحيلة, خاصة وأن الخرطوم تدرك أن حمايتها لحقول النفط إبان الحرب مع الحركة الشعبية كان اللاعب الاساسي فيها تحالفها مع مليشيات النوير التي يقع جزء مهم من حقول النفط في أراضيها, ولأن الحكومة السودانية لم يكن بوسعها الوقوف متفرجة مع التدخل اليوغندي المكشوف, فقد عمدت إلى إظهار دور أكثر دعماً للرئيس سلفا بمنطق "نحن مع الحكومة حتى تسقط وضد المتمردين حتى يصلوا إلى السلطة".
وفي سياق هذا الانسحاب الدولي, والتنافس الإقليمي على التدخل في جنوب السودان, وعدم فاعلية وساطة "إيقاد" تتجه الأنظار إلى الصين والدور الذي يمكن أن تلعبه مباشرة أو بالضغط على دو أكثر فاعلية للمجتمع الدولي, فبكين لا تزال تدفع منذ تقسيم السودان ثمناً باهظاً للأضرار التي لحقت باستثماراتها الكبيرة في الصناعة النفطية في دولتي السودان, فما أن انتهى الصراع بين الخرطوم وجوبا الذي عطل تدفق النفط, حتى نشب الصراع الداخلي الجنوبي الذي جعل النفط أيضاً أداة أساسية في الصراع, ولهذا بدأت الصين لأول مرة تدخلاً على مستوى عال بوزير خارجيتها الذي اجتمع بطرفي النزاع في أطيس أبابا لتحريك عجلة المفاوضات التي لا تزال تراوح مكانها, فهل ستبقى الصين قادرة على الاستمرار في سياسة التأثير الناعم هذه وأحد أهم استثماراتها الاستراتيجية النفطية في إفريقيا تتعرض لمخاطر جدية باتت مستدامة في وقت تقف دول كبرى بوسعها أن تفعل شيئاً متفرجة عليها أملاً في أجندة خفية تطمع في التضييق على نفوذ بكين المتنامي في القارة السمراء؟. ذلك ما ستكشف عنه تبعات وتداعيات الصراع الدامي في جنوب السودان.


tigani60@hotmail.com

 

آراء