صقر الجو نزل طار الرخم والرُخ …. معنى كلمة (البنينة) من منظور اللغة المروية

 


 

 

 

 

البنينة

(من كتابي: مملكة مروي سياحة تاريخية ولغوية بين حلقات الذكر والإنداية)
في أجواء الجرتق الاحتفالية، وأثناء القيام بالطقوس، يبرز طقس تؤديه امرأة ذات صوت جميل، وهو عبارة عن أنشودة تمتدح فيها العريس وأهله؛ وأحيانا تمتدح العروس ايضاً، والهندسة اللحنية للإنشاد قائمة على تجزئة القصيدة لوحدات مستقلة تؤديها المنشدة، ويفصل بين كل وحدة وأخرى الجملة اللحنية (بنينه هييه؛ بنا بِين يا بينا؛ يا بنينه هييه)، يرددها كورس مكون من عدة فتيات أو ربما جميع الحاضرات، لأن الوجود الرجالي في طقس الجرتق محدود أو يفترض فيه أن يكون محدوداً. والمغزى من تقليص عدد الذكور يتضمن إشارة رمزية لتقليص عدد المنافسين للملك، فالعريس وهو الملك في هذا الطقس؛ يجب أن يكون بلا منافس، أو يصحبه وزيره فقط.
والجملة اللحنية (بنينه هييه؛ بنا بِين يا بينا؛ يا بنينه هييه)، والتي تبدو وكأنها مجرد كلمات منغمة، أو ترنيمة لا معنى لها، هي من الكلمة المروية بَ-ني-نينو، ba-nei-neno، وهي كالتالي:
ba: شيء له علاقة بالرجل aspect of man:
nei: حُسُن الأخلاق، الطيبة، ومن مرادفاتها: الأمانة، العدل، الفضيلة (goodness)
neno: يُظهر، يُبين، يبرزto manifest, to show, to reveal:
والمعنى العام إظهار أو إبراز ما يتمتع به الرجل من مكارم الأخلاق والسجايا الحسنة. وهي المعاني التي تدور عليها قصائد البنينة إلى وقتنا الحاضر، مما يعني أن التغني بمكارم العريس وخلع الصفات الحسنة عليه؛ وعلى أسرته من فروسية وشهامة وكرم وغيرها ليس أمراً جديداً بل تقليداً متبعاً منذ أزمان بعيدة. كل ما في الأمر أنها كانت تُقال باللغة المروية، والآن تقال بالعربية، ولنا أن تستنج أن لحنها الحالي هو اللحن المروي ذاته الذي كان يُردد.
ولتأكيد المعاني التي تدور حولها قصيدة (البنينة) المروية يمكن تقديم بعض النماذج، أولها من منطقة الشايقية وهنا بعض الأبيات المجتزأة من أنشودة طويلة:
ابواتك أسود زي ناس على الكرار
ليِّن جدولُن والصيف يسوقو بذار
أهل الديس الموقدي فيهو النار
قُداحتن للغاشي ليل ونهار ( ).
والمعنى أن آبائك أيها العريس أسود يشبهون أصحاب الأمام علي، رضي الله عنه، وان جداول الماء عندهم لينة طول العام كناية عن جريان الماء فيها باستمرار؛ وان مواسم الزراعة لديهم متصلة، وسواقيهم تعمل حتى في الفترة الصيفية رغم عدم حاجتهم لهذا الإنتاج الصيفي، فيظهر هذا العمل والإنتاج وكأنه تبذير. وهم أصحاب الديس أي الشجر الكثيف، والذي هو حطب لنار الضيافة والكرم، ولإعداد اقداح الطعام ليلاً ونهاراً لكل عابر سبيل.
وعلى منوال هذا اللحن نفسه تجد في ديار الجعليين بنينة أخري، تبرُز فيها ترنيمة (بنينه هييه) كفاصل بين الوحدات المكونة للقصيدة:
بَنِيَنة هييه بَنَا بِينَ يا بينا
نحمد ربنا الشفنا جديد دخرينا
يا بنينة هييه بنا بِين يا بينا
جديدك يا عشاي فرحنا
شاهد الله الكريم في بيتك اتريحنا
واخوالك يدخلوا أم حديدن زحمة
تور الخلوة أبوك عثمان سريع النهمة
يا بنينة هييه بنا بِين يا بينا
عروستك يا عشاي عاجبانا
اُماتك عُفافاً ما انطرن في خيانة
وابواتك يشدو الفي الشباح زعلانة
ركابين بليلة العيش نجض في الدانة
يا بنينة هييه بنا بِين يا بينا
بقطع واجر في غناي
للدابي العشاري الراسفن لوايا
ان شاء الله الولد يبقانا شاية وتاية
يا ود المساجد والعِلم والراية
يا بنينة هييه بنا بِين يا بينا
أمك يا عشاي خاتية الكلام والنبه
ود بيتاً نقل فوق الصرامة اتربى
قرن الجنزبيل خالك لَدِغْةَ القَبَّة
معروف بالكرم جدك قبيل من تبه
بنينة هييه بنا بِين يا بينا
ابواتي التلوب الما بيفقدوا الدانة
والمجنون يطيبوه يرقعوا الخربانة
واكدر اليخاصمكن يضوق الهانة
احمد ربي انا الفي طينتهم خلقانة.
يا بنينة هييه بنا بين يا بينا
هذه البنينة تحتشد باللمحات الوثنية والمسيحية والإشارات الصوفية، التي تشربت جميعها بقيم إسلامية عربية. ويظهر هذا جلياً في مدح الخال والأخوال بتأثير من النظام الأمومي السائد وقتها، ولابد من وقفة خاصة عند عبارة (تور الخلوة أبوك)، فهي عبارة قصيرة لكنها مثقلة بالتاريخ، فقد لخصت آلاف السنين في ثلاث كلمات، جمعت مفاهيم وثنية ومسيحية وإسلامية في آن معاً.

تور
تمثل كلمة (تور) المفهوم الوثني، وعبادة الثور موجودة في العهد النبتي، وتذكر سامية انه بعد وفاة تفناختي والذي حكم مصر السفلى حوالي سبع سنوات؛ خلفه ابنه بخوروس، و(هذا الأخير لا يعرف عن اعماله سوى ما ذكره في نقش مؤرخ للسنة السادسة من عهده؛ يذكر انه قام بدفن الثور المقدس الذي توفي في هذه السنة في مدينة منف. في نفس الغرفة التي دفن فيها هذا الثور تم العثور على نقش آخر مؤرخ للسنة الثانية من عهد شبكا، يبين هذا النقش ان شبكا قام في تلك السنة بقفل مقبرة لثور مقدس) ( ). وشبكا حكم في الفترة حوالي 716-702 ق.م.
عدا عن عبادة الثور فالثور نفسه كان من ألقاب الملوك في نبتا ومروي، وعند تولي الملك الجديد العرش ومن ضمن برتوكولات التتويج يجب أن تُطلق عليه خمسة القاب، تقول سامية: (ان الملوك النبتيون تبنوا الألقاب الفرعونية الخمسة وهي: حورس ويليه اسم يعرف ب (اسم حورس)، واللقب الثاني هو السيدتين متبوعا باسم السيدتين، واللقب الثالث هو حورس الذهبي، ثم الرابع ملك مصر العليا والسفلى ويليه ما يعرف باسم العرش، والخامس ابن رع ويليه اسم الملك الحقيقي) ( )، فقد اتخذ الملك شبتاكا الذي حكم في الفترة من 702-690 قبل الميلاد تقريبا، لقب كا-نخت-م-واست، أي الثور القوي الذي توج في طيبة( ). باعتباره الاسم الذي يتلو أسم حورس، وكذلك فعل الملك انلاماني أحد ملوك الاسرة الثانية النبتية، والذي حكم في الفترة من 623-593، حين أتخذ ايضاً لقب كا –نخت (الثور القوي) باعتباره إسماً تالياً لاسم حورس ( )، كذلك كان من ضمن القاب الملك اماني نتي يركي تالياً لاسم حورس اللقب: كا-نخت-خع-م-واست أي الثور القوي الذي اطل على طيبة ( ).
ومن الأمثلة الأخرى على استمرار حلقات التواصل التاريخي وربط مفهوم القوة بالثور، ما أنشدته بنونة بنت المك نمر وهي ترثي اخاها عمارة وتتأسف على موته بالحُمى في فراشه:
من قومة الجهل ما خوفوك بي أُخ
ولد بقر الجواميس الرقادن لــُخ
صقر الجو نزل طار الرخم والرُخ
قرنك يكسر الهامة ويمرق المُــخ

الخلوة
تشير الخلوة لمفاهيم إسلامية يقول يوسف فضل: (وبعد ان طغت الصيغة الصوفية على الثقافة الإسلامية في السودان صارت الخلوة أكثر الأسماء استعمالاً ودلالة على معهد التعليم، بل أن الخلوة كانت بمثابة مركز الاشعاع الروحي والثقافي والاجتماعي في كل قرية) ( ).
ويحكي ود ضيف الله عن سبب تسمية الشيخ حمد ود الترابي بحمد النحلان أنه بعد أن اعتكف للمرة الأولى في (الخلوة) لمدة اثنين وثلاثين شهراً، (دخل الخلوة ثانياً فمكث فيها ثلاثين شهراً ثم خرج يابساً من اللحم والدم وجلده ملتصق على عظمه وسموه الناس حينئذ النحلان، فخرج من الدنيا وقال: فتحت باب الله وسديت باب المخلوقين) ( ).

أبوك
يُعطي لفظ (أبوك) لمسة من الديانة المسيحية التي يجري فيها إطلاق لقب الأب على الشخصية الدينية المهمة، وهي مستمدة في الأصل من عقيدة التثليث (الأب والأبن والروح القدس)، وفي ترجمة عمرو بن متى للحبر (شحلوفا) قال: (هذا الأب كان شيخاً مفروق اللحية، حكيماً عالماً ماهراً من اهل كشكر، مقدماً في اهل زمانه عارفاً بالأمور) ( ). ودائما ما تشير الأدبيات المسيحية للأحبار ب (الآباء)، ففي كتاب ماري بن سليمان وهو يصف اختيار يوحنا بن نرسي جاثليقاً مع وجود منافس آخر: (وكتب اسميهما في بنادق وعُمل السهر ومع الفراغ من الرازين حضر الآباء ورؤوس المؤمنين فخرج اسم يوحنا وأُسيم الاحد الثالث من قداس البيعة سنة احدى وسبعين ومائتين للعرب) ( )، والسهر والرازين طقوس مسيحية، وأُسيم تعني تعيينه في منصبه.
وقد طور النظام الصوفي كلمة (الأب) لتتحول إلى أبوة روحية فيها ولاء للشيخ ولطريقته؛ وتجعل من جميع الحيران والمريدين أبناء للشيخ وهم أخوة يُنسبون للطريقة؛ بغض النظر عن اعراقهم والوانهم؛ فترتفع بذلك عن مقام الولاء القبلي القائم على رابطة الدم، وفي ترجمته للشيخ دفع الله بن الشيخ محمد أبو ادريس؛ يورد ود ضيف الله في مدح العارفين له: (قال الشيخ ادريس بن الارباب: دفع الله نحن ابواته الثلاثة ورثنا، ورث كرمي، وزهد أبيه أبو ادريس، وكرم وعلم عبد الله العركي) ( ).

عبارات أخرى
الشاية لفظ غير معروف الأصل لكن التاية عربية، جاء في شرح الواحدي لديوان المتنبي:
وهـجـان عــلـــى هـــجـــان تـــأييك عديد الحبوب في الأقواز
ومعنى البيت رب رجال خالصي النسب على نوق كريمة قصدوك في كثرة عدد حبوب الرمل يعني من جيشه واوليائه، والقوز من الرمل المستدير شبه الرابية. وتأيا فلان بالمكان تئية إذا اقام، وفي القاموس المحيط للفيروزابادي: والتَّوِيُّ، كغَنِيٍّ: المُقيمُ
وجاء في الأمالي لأبو على القالي:
والتاية: أن تجمع بين رؤوس ثلاث شجيرات أو شجرتين فتلقى عليها ثوباً فتستظلّ به
ويُفسرها الطيب تفسيراً قريباً من هذه المعاني: (التاية تعني الظل الذي يأوي اليه الزراع في الحقل والعادة في الفلاة.... والرجل التاية الذي يستظل به ويُمدح الرجل بأنه شاية وتاية والصيغة ضرب من الوتد والاتباع كما تعبر العرب) ( ).
وسريع النهمة تعني أنه سريع الاستجابة لطلب من يطلب عونه ومساعدته نسبة لقربه من الله. أما (عشاي) فهي ليست العشاء باللفظ العربي المعروف، بل نوبية بلسان المقرة حسب قول على عثمان وتعني (الأهل)، ومنها أشاي إن ايركي (Ashai-in-errki) بلد الاهل، والمقصد أنه يمثل أهلها وعشيرتها.
ونجد في قصيدة بنونة أيضاً:
مادايرا لك الميــتة ام رماداً شـــح
ياريت ياعشاي بدمــيك تتوشـــح
وقت الخيل يقولبن والسيف يسوى التح
والميت مسـولب والعجـاج يكـــتح
ونجد في هذه الأبيات إشارة إلى واحدة من عادات النساء القديمة؛ وهي إهالة الرماد على الرأس عند موت قريب أو عزيز، والظن أن هذه عادة مروية لكن لا توجد أدلة في متناول اليد يمكن إبرازها في هذا المقام.
والتلوب جمع تلب، والتلب هو الأسد، أما الدانة فأقرب معنى لها وجدناه هو من النوبية المحسية (داناد)، وهي مغارف تصنع من القرع ( )، وقد وردت مرتين في هذه البنينة، وردت لمدح آباء العريس؛ وأنهم يولمون بصفة دائمة بليلة العيش الناضجة أي الذرة المطبوخة؛ ويقومون بتوزيعها في هذه المغارف أو الأواني من القرع، وفي الوحدة الأخيرة من الأنشودة وردت كلمة الدانة أيضاً وفيها تفتخر المنشدة بآبائها وأنهم أسود همتهم عالية ولا يلقون بالاً للدانة أو ما فيها من طعام، فهم من الزهاد؛ وانهم بفضل بركتهم وقربهم من الله يعالجون المجنون فيعود سليماً معافى، ثم تُختم الأنشودة بتوعد من يكون خصماً لهؤلاء الآباء والأجداد أو عدواً لهم بأنه لن ينال سوى الذل والمهانة.
وتكتمل زينة لوحة البنينة بإطار ترسمه على حوافها اصوات الزغاريد المرحة التي تنطلق من حين لآخر، وقد ضجت بلحن فرح كامن في ثنايا الدهور؛ فتطوي الأزمنة ذهابا وإياباً، في طرب يؤلف ما بين التناسق والفوضى، وما بين اللحن والنشاز، ويرتد صداها نغماً على صفحة السيف وعلى الهلال فوق الجبين، أما الدلكة والتي عُجنت بكامل المحبة؛ فتُضَمَّخ كل زغرودة تنطلق بشذى يفوح في الأرجاء منتشياً، وتدعوها للمرور في جزل عبر ثقب خرزة الجرتق؛ وأن تلامس السوط وتداعب جدلة الحرير الحمراء، فإذا بنا أمام عريس يتقمص هيئة الملك المروي، يصحبه وزيره وتمدحه منشدته، جالساً بين الجدات والخالات والعمات وبنات الفريق كما كان منذ آلاف السنين، وهو يهتف بصوت مشوب بالفرح والحماس؛ محيياً المنشدة وفريقها من الكورس( )، ومخاطباً المزغردات في أداء كورالي، ومتجاوباً مع المزغردة (سولو) ( )، مردداً كلمة مروية هي بَ-شَر، بَ-شَر؛ في هتاف مُشْبَعٍ بالتفاؤل والامل، وبالخصب الموعود والمال والبنون؛ فتنطلق بَ- شَر في الفضاء وحفيف اجنحتها يرفرف مُوَزِّعاً فيضاً من الأمنيات الطيبات بالسعادة والهناء للجميع.


nakhla@hotmail.com

 

آراء