طارِقُ الهَـد: عَن تاريْخِ الطِّبِ “الكوْلوْنيالي” في السُّودان
(1)
تردّدتُ طويلاً قبل جلوسي إلى حاسوبي، لأكتب عن كتابٍ مُترجَمٍ ، ماصادفتُ مثله مؤخّراً ، يتناول تجربة لطبيب بريطانيّ في سودان الحكم الثنائي، خطّها بقلمه ، فيها الكثير من التاريخ، مثلما فيها الكثير عن خدمات الصحة والتطبيب في السودان، منذ أوائل القرن العشرين إلى سنواته الوسيطة. ذلك الكتاب هو الذي ترجمه الدكتور طارق عبدالكريم الهد بعنوان "القدم الرحّالة: حكاية طبيب"، من تأليف "الكساندر كروشانك"(1900-1991) والذي صدر في لندن بعيد وفاته بقليل.
لقد ظلتْ المصطلحات شاغلاً، أزعجني زماناً وإلى الآن . إن الحديث عن التجربة "الاستعمارية " في تقديري، يتطلب قدرا من التدقيق اللغوي والدلالات والمعاني المستهدف تبيانها. لعلّي أفضل الكلمة الانجليزية "كولونيالية" ، لا التعريب الذي ساد واشتهر وهو كلمة "إستعمار"، وأنه لا تثريب إن اعتمدنا كلمة "الكولونيالية" مثل كثير من المصطلحات التي اعتمدناها مستعربة، نقلاً عن لغات غير العربية . هي كلمة أكثر حيادية في تقديري، من كلمة "إستعمار" التي تكاد تكون - بعد أن صارت دلالاتها اللغوية غاية في السلبية - مرادفا لكلمة "إستغلال" . في استعمالاتنا السياسية والشعبية، ننادي بـ "سقوط الاستعمار"، وإعمار الأرض يحمل بالطبع وبالمنطق ، دلالات إيجابية، يعززها المعنى القرآني في الآية الكريمة: " ".
(2)
لتكن تلك حذلقة لغوية قد لا تروق لك ، لكني أردت أن أتناول بالعرض المقتضب الكتاب الذي ألفه الطبيب السكتلندي الراحل ""ألكساندر كروشانك"، بعنوان :"القدم الرّحالة : حكاية طبيب"، وترجمه الدكتور الأديب والإستشاري المقيم بدولة قطر، طارق عبدالكريم الهد، وصدرت ترجمة ذلك الكتاب عن مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي في أم درمان، ديسمبر من عام 2019م. قدّم للكتاب البروف أحمد أبوشوك، بحديثٍ ضافٍ ، فأثنى وأطنب ونوّه بأن يجد الكتاب المترجم مكانه ضمن المناهج الأكاديمية في كليات الطب، تعريفا بتلك التجربة الفريدة التي رصدتْ بتفصيل باهر تطور الطب والخدمات الصحية في فترة العشرينات وحتى الأربعينات في السوان. تلك في تقديري هي الفترة التي شهدتْ مبادرات وبدايات الحقبة التأسيسية للصّحة العامة والتطبيب في السودان، والتي تمت بمبادرات على أيدي الإدارة الكولونيالية تحت راية الحكم الثنائي .
(3)
صدر ذلك الكتاب في بريطانيا في عام 1991م، بُعيد وفاة مؤلفه الطبيب الاسكتلندي "أالكساندر كروشانك" بأشهر قليلة، عن عمرناهز التسعين عاما بعام. قدم للترجمة البروف أحمد أبوشوك، وهو أستاذ للتاريخ ومُعلّم، دقيق العبارة رصينها .
أكثر ما شدّني إلى ذلك الكتاب ، هو قدرات مؤلفه في السّـرد الوافي والمفصل، لكافة مراحل تجربته، منذ النشأة في "آبردين" في اسكتلندا، ودراسة الطبّ في جامعتها ، ثم اكتساب الخبرات العملية الأولى في مراكزها الطبية والصحية ، ومن بعد اتخاذ قرار الارتحال إلى أفريقيا، إلى السودان الانكليزي المصري، كما كان يعرف أوانذاك. لا يطالعالقاريء كتابا في التاريخ الأكاديمي فحسب، بل سرداً روائياً شائقاً، عن تجربةِ طبيبٍ يؤسّس للطبابة في أرض لم تعرف الطب ولا الخدمان الصحيّة بتعريفاتها العصرية. في غابات جنوب السودان ، يسجل نجاحات خارقة، فيراه القوم كأنه يحقق معجزات . يرونه ساحراً لا حدود لقدراته. ولقد تجد في التفاصيل التي يحكي لك عنها ما يدهشك، ولكن ما يدهش هو حرص "الكساندر كروشانك" على عادة يستخفَّ بها أكثر الناس، بدعوى انشغالاتهم، بما هو أهمّ في ملاحقة الواجب، وتفاصيل مطلوبات المهنة. تلك هي عادة الاحتفاظ بمفكرة يسجل الرجل فيها يومياته، ليس فقط الوقائع والإحداثيات، بل أسماء من صادف وما زار من مناطق، في مسيرته الطويلة التي تجاوزت أكثر من ربع قرن في سودان ما قبل الإستقلال. تحفظ سرديادته تلك، أسماء أصدقائه ومعاونيه ومرافقيه ، فلا يخلط بين أحمد ومحمد، ولا تلتبس عليه أسماء الأمكنة في جنوب كردفان أو في الاستوائية . بل يكاد يذكر لك إسم ووصف صبي من قبيلة "الدينكا" في جنوب السودان، الذي أعياه مرض الاستسقاء فأشرف على الموت فشفي على يد الطبيب "كروشانك". يدهشك في وصف الترحّل بالجمال والخيول والأبقار،في أصقاع السودان، ثم السّفر بعربات "الفورد" والطائرات الصغيرة في فيافي الجنوب وفي صحارى وتلال بورتسودان. .
(4)
برغم ما أحاط بتجربة ذلك الطبيب الثرّة، من متاعبٍ ومعاناة، فقد تميّز "الكساندر كروشانك" بامتلاك قدراتٍ عالية على تجاوز تلك الصعاب، باستصحاب ملكات التحمّل والقدرات على الصّبر، وقبول التحديات واجتراح المبادرات. ولعلّ قيامه بالعمل في كردفان وجنوب دارفور ، يعدّ من التجارب البِكْر وغير مسبوقة في أرض السودان ، أفرد لها فصلا ممتعا عن العيادة الطبية المتنقلة والمحمولة على ظهور الثيران في أرض قبيلة المسيرية .
توقّفتُ عند تلك التجربة مرّات ومرّات، فقد أعادت إلى ذاكرتي تجارب مماثلة ، لرجل من أبكار المعلمين، هو الراحل حسن نجيلة ، الذي سجّلها لنا لممارسته التعليم الأوليّ المتنقّل مع البدو في أطراف كردفان ودارفور. حوى كتابه الشهير "ذكرياتي في البادية" الذي صدر في خمسينات القرن العشرين قصصاً باهرة عن ما لمس ورأى من جوانب إيجابية في دعم التجربة من طر ف إداريين بريطانيين، وأيضا من نواحي سلبية لبعض المفتشين البريطانيين في تعاملهم مع سكان البلاد. مُعلّم واحد يتنقّل مع البدو خلال مختلف مواسمهم، فيشكل بشخصه مؤسسة تعليمية لمحو أمية أطفال البدو وصبيتهم.
على ذات النحو، ظلّ الطبيب "الكساندر كروشانك" يتنقل مع البدو من بقعة لأخرى، يرافقهم على ظهور ثيران حمّلها يمعيناته للتطبيب والمعالجة. يدرب الطبيب معاونيه ومرافقيه من المحليين، فيجعل من بعضهم ممرضين ومساعدين له، فيكون بذلك مركزاً طبياً محمولا على ظهور الثيران والخيول. . بالفعل ليسَ لنا إلّا أن نمتدح جهدَ بعض رجال الإدارة الكولونيالية من بريطانيين أو سواهم، لامتلاكهم النظر الثاقب فجنحوا لمساعدة سكان البلاد في أهم جانبين إنسانيين تحتاجهما البلاد: التعليم والصّحة .
(5)
بدأتْ الإدارة الكولونيالية، فور تولي أمر البلاد وفق اتفاقية الحكم الثنائي عام 1899م، في التخطيط لإنشاء مؤسسات تعليمية ، ثم مراكز للعناية بالصحة، إذ القضاء على الأمية والمرض حظيا بأولوية قصوى لمساعدة سكان البلاد في تحسين أحوالهم وتهيئتهم بالتدرّج لإدارة بلادهم. رافق ذلك الجهد مبادرات حاسمة في المجالات الاقتصاد ، خاصة في النقل والزراعة وضبط إدارة البلاد.
في تلك العقود الأولى من سنوات القرن العشرين، عرف السودان إنشاء مؤسسات تعليمية، من أهمها كلية "غوردون" ، ثمّ كلية لتدريس العلوم الطبية ، هي مدرسة "كيتشنر". لتجربة "كروشانك" الغنية في طب المناطق الحارة، والتي كسبها بعمله الميداني الطويل في مجتلف بقاع السودان، فقد استعانت به مدرسة "كيتشنر الطبية" ليدرّس طلبتها ، وهو الأقدر على إفادتهم بتجربته الثرة ، ربما بأكثر مما تفيدهم مراجعهم الأكاديمية.
(6)
ولي ملاحظتان رأيت عرضهما على أخي الدكتور طارق، وإنْ كان المعنيّ بهما هو مؤلف الكتاب البديع الطبيب "الكساندر كروشانك".
أولى الملاحظتين تتصل بتجاهل المؤلف لأي تجارب لأهل البلاد في الطبابة التقليدية ، إذ لم تكن العلل والأمراض تهلكهم دون أن يكون لهم معالجون يمارسون طبابة تقليدية ، قد تكون لها نسبة ما من النجاعة.
تتصل الملاحظة الثانية ، بما حكى الدكتور "كروشانك" عن امتلاكه كاميرا للتصوير الثابت وربما السينمائي . ليت أخي طارق أثرى ترجمته للكتاب ببعض الصودر والرسومات التي تعزز تقريب تلك التجربة الثرة لبصر القاريء . ليت أصدقاءنا النشطاء في رصد بدايات التصوير السينمائي ، السعي للحصول على ذلك الجهد الذي بذله الدكتور "كروشانك" في تصوير ما رأى بعينيه وقام بتوثيقه بآلة التصوير، فيكتمل عمله الرائع الذي نقله لنا بقلمه، والذي أفلح أخي طارق في نقله لنا إلى العربية بلغته الرصينة في ترجمته لسفر الرجل.
(7)
في إشارتي لتلك الترجمة الدقيقة والرصينة، التي أنجزها الدكتور طارق الهَـد، في إتاحة كتاب الدكتور "كروشانك" للقراء في السودان ، من أطباء وسواهم، ولمن شغلوا بتاريخ البلاد، فإنه قدم خدمة جليلة في جانبي التاريخ الأكاديمي وأيضا في جانب الطب والصحة. . وإني إذ أشيد بتلك اللغة الأدبية الناصعة في ترجمة سفر الطبيب "كروشانك"، فتلك لا تتأتى إلا لأديبٍ ملكَ ناصية لغته العربية، مثلما امتلك ناصية تخصّصه العميق في الطب. ليس ذلك وحده ما يلفت النظر، ويستحق عليه صديقي طارق المدح والتقريظ، بل للرّجل سهم في جانب التأريخ العام لتطور مهنة الطب وتحوّلاتها في السودان .
فإنْ أنجزتْ الإدارة الكولونيالية في العقود الستة التي أدارت فيها أحوال البلاد، مشروعات اقتصادية حققتْ للسودان اكتفاءا ذاتياً في مجال التعليم والزراعة والنقل والصحة وتحديث الإدارة ، وبناء هياكل دولة حديثة، فإنها تبقى منجزات ايجابية غيرَ منكورة. لقد هيأتْ تلك الجهود للبلاد اعتماداتٍ مالية مُجزية، مثلما هيّأتْ عناصر مِن أهل البلاد ، تدير مشروعاته ومؤسّساته ، تمهيداً لمنحِ البلاد أستقلالاً طالت أشواق بنيه له، خاصّة والسودان- برغم اتفاقية الحكم الثنائي- لم يكن مصنّفاً ضمن "المستعمرات" البريطانية ، بل كان له وضعه الخاص عند وزارة الخارجية البريطانية، وليس وزارة المستعمرات". لذلك ما قد يتصل بتساؤل البعض عن عدم مشاركة السودان ضمن منظومة دول "الكمونولث". . ّ
إن تطلع السودانيين نحو الاستقلال ، هو مثل تطلع بقية شعوب العالم في نيل الحرية والاستقلال، وفق المواثيق التي ارتضاها المجتمع الدولي بعد الحرب العالمية الثانية (1938م-1945م)، ليديروا شئون بلادهم تحقيقاً للإرادة الوطنية، لا أن تتحكم في مصائرهم قوى أجنبية. لعل المؤرخون يلحظون أن فترة الإدارة الكولونيالية في السودان ، كانت هي الأقل من بين معظم البلدان الأفريقية جنوب الصحراء ، إذ قلت عن ستين عاما. . !
(8)
وعوداً على بدء ، فإنّ في عرضي لكتاب الدكتور "كروشانك" الذي ترجمه النطّاسي الأديب طارق الهَـد، أعانني لإمعان النظر في ظاهرة "الكولونيالية" وفي اتصالها بمصطلحات أخرى، وحاجتنا للنظر بعمقٍ أكثر حول دلالاتها ومعانيها ، ومفاحصة ايجابياتها وسلبياتها، مثل "الاستعمار" والاستشراق" و"الإستقلال و "الإستغلال" .
ولي هنا أن أضمَّ صوتي لصوت صديقي الدكتور أبوشوك، في دعوته ليلتفت الأكاديميون والأطباء حتى يجد مثل هذا السفر الذي ترجمه الهد ، مكاناً في مناهج كليات الطب عندنا في السودان، خاصّة في مجال أمراض المناطق الحارة ، بغرض تواصل المعرفة وتطويرها وإثرائها. .
الخرطوم – 17 مارس 2021