تقديم: هذه ترجمة وتلخيص لمقال طويل لبروفيسور بيتر هولت عن " عائلات الأولياء الصالحين والإسلام في السودان" تم نشره ككتيب صغير في عام 1967م ضمن سلسة "أوراق الشرق الأدنى" التي أصدرتها جامعة بريستون. وكان المقال قد قُدم في شكل محاضرة ألقاها الكاتب ضمن برنامج دراسات الشرق الأدنى بجامعة بريستون في يوم 11/10/1966م. عين البروفسور المؤرخ هولت (1918 – 2006م) عقب تخرجه في جامعة أكسفورد أستاذا للتاريخ بالمدارس الثانوية السودانية، ثم عمل مفتشا بين عامي 1941 – 1953م. وأنشأ من بعد ذلك دار الوثائق وترأسها، وعمل محاضرا غير متفرغ في جامعة الخرطوم بين عامي 1952 – 1953م. وعاد بعد ذلك إلى بلاده وعمل في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية بين عامي 1955 – 1982م إلى حين تقاعده. ونشر الرجل في خلال مسيرته الأكاديمية أعمالا أصيلة عديدة عن تاريخ السودان (خاصة في عهد المهدية) ومصر (في عهد المماليك) وسوريا، وشارك في كتابة فصل عن العرب والإسلام في موسوعة كمبردج عن الاسلام. صدر آخر كتاب له في عام 1999م عن مملكة الفونج بعنوان: The Sudan of the Three Niles: The Funj Chronicle 910-1288/1504-1871. تعلم هولت اللغة العربية في غضون سنواته في السودان، وترجم كتابين من الألمانية والفرنسية (انظر نعي بروفيسور هولت في صحيفة الاندبندنت (http://www.independent.co.uk/news/obituaries/professor-p-m-holt-426133.html) ******* ******* ******** ******* لقد كانت عملية أسلمة السودان النيلي (ولا تزال في الواقع) عملية مستمرة. ومنذ فتح العرب لمصر في بداية القرن السابع الميلادي كانت مناطق النوبة وصعيد مصر على صلة بالإسلام. وفي خلال الـ 1300 سنة الأخيرة كانت طلائع أسلمة البلاد قد تقدمت على شاطئ النيل جنوبا على مراحل محددة تاريخيا. وكانت إحدى تلك المراحل قد بدأت في القرن الرابع عشر عندما بدأت مملكة النوبة الشمالية (في المقرة) التي كانت تتخذ من دنقلا القديمة عاصمة لها في الاضمحلال التدريجي وهجر المسيحية، وبدأت في الانقسام إلى إمارات مستعربة. وتبع ذلك عصر ظلامي. ثم أقبل بعده عصر تم فيه توثيق تاريخي واضح في القرن السادس عشر، ظهرت فيه مملكة النوبة الجنوبية (علوة) التي كانت عاصمتها سوبا قرب مدينة الخرطوم الحديثة. وبدأت القبائل العربية في الزحف جنوبا إلى منطقة الجزيرة (بين النيلين الأزرق والأبيض). إلا أن العرب أنفسهم كانوا تحت سيطرة كبار السادة من غير العرب مثل الفونج، وهم قوم سود موطنهم الأساس هو مناطق أعالي النيل الأزرق (رغم أن أصلهم مختلف عليه بين الباحثين). وسرعان ما تم إدخالهم في الإسلام، وسادوا كل المناطق الإسلامية في الجنوب حتى خط 13 درجة شمالا، على الأقل اسميا حتى جاء الغزو التركي – المصري. وأنجز ذلك الحكم في خلال تلك الفترة التي استمرت لثلاثة عقود عملية أسلمة شمال السودان. وهي ذات الفترة التي أسست وأكدت فيها عائلات الأولياء الصالحين الأقدم على وجودها. أين تكمن تلك "القداسة" المنسوبة لتلك العائلات؟ ومن هم أفراد تلك العائلات؟ يعمل هؤلاء في المقام الأول كوكلاء لنقل ونشر العقيدة الإسلامية، وما يتبعها من شرائع (مقدسة) وثقافة إسلامية. وعرف هؤلاء أيضا، في المقام الثاني، بحيازتهم على "بركة" (عُرفت في الموسوعة الإسلامية بأنها: " قوة نافعة ربانية المنشأ تسبب نَّماءً وزيادةً وكثرةً في الخير على المستوى المادي، ورخاء وسعادة على المستوى الروحي". والبركة أمر متوارث، وادعاء الحصول عليها يرتبط دوما بالانتماء إلى "الأشراف"، أي الانتساب للعترة النبوية (الشريفة). لذا تأتي البركة من ذلك المصدر الأرفع. غير أن الادعاءات بنسب ينتمي للأشراف، وحيازة البركة ليست أمورا اعتباطية أو ادعاءات غير مبررة كما تبدو، ولكنها شديدة الارتباط بـ "الوظيفة function". وهي في الحقيقة ضرب من الآليات المؤكدة لافتراض أداء دور معين في المجتمع الإسلامي التقليدي. ويتضح هذا من دراسة أصل نسب الولي السوداني محمد بن سرور، الذي عاش في القرن السابع عشر. كان لذلك الولي أصل جعلي، وتتبع عائلته شجرة نسب اسطورية جعلية معتادة، حيث ينتسب إلى العباس، عم النبي، والذي تسمى به حكام العهد العباسي. ولما أدى محمد بن سرور دور الولي (حيث بدأ بالطريقة الصوفية القادرية، وأقام له مسجدا دفن في فنائه لاحقا، وصار يؤم قبره المريدون) جرت محاولة لتضع على سيرته الباذخة ونسبه المعروف أصلا شريفيا يعود إلى النبي محمد. وخلق ذلك بعض الإشكال، مما دعا البعض لاقتراح حلول بديلة لذلك التعارض. وكان أحد تلك الحلول هو أن نسبه يمتد للرسول عن طريق بعض الإناث في العائلة. وذكر عبد المحمود نور الدائم في نسخة "أزاهير الرياض" المنشورة عام 1963م أن نسب محمد بن سرور للعترة النوبية سببه هو أن الرسول تبناه روحيا في رؤية منامية. لا شك في أن المصدر الرئيس للمعلومات عن عائلات الأولياء الصالحين القدامى في السودان هو طبقات محمد النور ود ضيف الله التي ألفها (أو بالأصح جمعها) في السنوات الأولى للقرن التاسع عشر. تولى كاتب كتاب "الطبقات" القضاء، وكان من عائلة لها صلة بمسجد حلفاية الملوك، تلك القرية التي اتخذها شيوخ العبدلاب سكنا. والعبدلاب هم حكام القبائل العربية الذين شاركوا سلاطين الفونج حكم البلاد. وقدم ود ضيف الله نُبُذات عن نحو ثلاثمائة من الأولياء. وتجد أن تاريخ سير كثير من هؤلاء يمتد إلى أجيال كثيرة. وكانت إحدى تلك العائلات قد بدأ تاريخها في بدايات القرن الخامس عشر (أي قبل تأسيس سلطنة الفونج) برجل يقال له غلام الله بن عايد، وله في "الطبقات" نسب يمتد عبر 11 جيلا إلى منتصف القرن الثامن عشر (أشار هولت هنا إلى دراسته المستفيضة لتلك العائلة والتي أتت تحت عنوان "أبناء جابر وأقربائهم" المنشورة عام 1967م في مجلة Bull. School Oriental and African Studies، وأورد نصوصا منها تفيد أن نسب غلام الله نسب شريف يمتد إلى أبي طالب عم النبي، وأن بعض جدوده عاشوا في زيلع على ساحل الصومال، وأنه كان يتمتع ببركة خاصة، وله قدرة على عمل خوارق ومعجزات. المترجم). وكانت الأجيال الأربعة التالية لتلك العائلة تتكون من بعض الشخصيات الغامضة، إلا أن الحكايات المتعلقة بهم تعكس بعض المشاكل في زواجهم وفي وضعهم الاجتماعي، والتي كثيرا ما تقابل المسلمين في مجتمع كان ما يزال لم يتأسلم إلا جزئيا. وأدت تلك العائلة أدوارا إيجابية في إدخال الإسلام للسودان النيلي لم تظهر مجددا إلا عند الجيل الخامس بعد غلام الله مع "أبناء جاير" الأربعة، الذين لهم تاريخ معروف وسيرة يمكن التحقق منها. فقد درس ثلاثة من هؤلاء الأبناء في الأزهر على يد أحد قضاة المالكية، هو الشيخ محمد البنوفري في النصف الثاني من القرن السادس عشر. وكان واحدا منهم (واسمه إبراهيم البولاد) قد أقام في حوالي عام 1570م مدرسة (خلوة؟) في مناطق الشايقية لتدريس الفقه والشريعة على هدى المذهب المالكي. وبعد وفاته واصل اثنان من إخوته في التدريس بتلك المدرسة، وأعقبهما ابن أخيه أو ابن اخته nephew. وفي تلك الأعوام ازدادت تلك العائلة ثراءً ماديا ورفعة اجتماعية. وكان لأحد أبناء العائلة حرسا شخصيا مكونا من أربعين عبدا يحملون السيوف. وتزوج ابن أخيه أو ابن اخته من إحدى ملكات الشايقية. وكان لتلك الزيجة نتائج لم تكن في الحسبان، إذ كانت تلك الملكة قد طلبت من زوجها نقل مدرسته إلى بيتها. واحتج الطلاب على ذلك بدعوى أن في بيتها خادمات جميلات لا بد أنهن سيختلطن بهم في رواحهن وغدوهن، وهذا من شأنه إفساد دينهم عليهم. وهجر الطلاب مدرسة الشيخ مما أضطره لقفلها. غير أن ذلك لم يمثل نهاية دور تلك العائلة في أسلمة السودان، إذ كان لأبناء جابر شقيقة تدعى فاطمة (بنت جابر البولادي)، ذكر صاحب "الطبقات" أنها كانت تماثل إخوانها في العلم والتدين. ولا شك أنه كان لديها أيضا مثل "بركة" بقية إخوانها. فعلى سبيل المثال كان ملك الشايقية قد توعد أحد أولادها (واسمه محمد صغيرون) وهدده بالقتل، فدعت عليه الشيخة فاطمة فوقع الملك من على ظهر حصانه مغشيا عليه. وورث محمد صغيرون سمعة "أولاد جابر" الاكاديمية، ولا غرو، إذ كان قد درس العلم على يد أعمامه / أخواله، وتلقى العلم في الأزهر على يد البنفوري. وترك الرجل ديار الشايقية وأتجه جنوبا عبر النيل - تحت حماية سلطان الفونج – في العقد الثاني من القرن السابع عشر إلى مملكة الجعليين في منطقة تقع جنوب التقاء نهر أتبرا بنهر النيل. وفي تلك المنطقة أقام له مدرسة (خلوة؟) في الفجيجة الواقعة على شاطئ النيل. وكانت تلك منطقة غابات تمت إزالتها لإقامة القرية. وتواصلت بعد وفاته تلك المدرسة، على الأقل حتى منتصف القرن الثامن عشر. وكانت هنالك أفرع أخرى للعائلة منها نسل أمينة، بنت فاطمة، وأخت صغيرون. وانتقل هؤلاء من مدرسة الفجيجة وأقاموا لهم مدارس في أماكن أخرى، إلا أن مركز نشاطهم كان في شندي، حاضرة الجعليين. وأرتحل أحد أبناء تلك العائلة جنوبا إلى منطقة في النيل الأزرق قرب ود مدني. لقد أدت العائلة التي عرضنا لشيء يسير من تاريخها دورا بارزا في أسلمة السودان النيلي. ولقد عرض كتاب "الطبقات" ببعض الاستفاضة والوضوح لمساهمتهم في التعليم الديني والقضاء الشرعي. وفي ذات الوقت اتضح (مما ذكر في "الطبقات") أنهم كانوا يعيشون على رأس مالهم الثقافي. ولعل الدليل على ذلك هو الغموض الذي يحيط بالأجيال الأربعة التي تلت غلام الله، وعدم وجود ذكر لأي واحد منهم درس في مصر من بعد صغيرون. ولم تحل "البركة" على أي منهم إلا لماما، على شكل قوة سحرية. وكان حفيد غلام الله (وصغيرون) أيضا يعالجون الناس بالرُقْيات والتعاويذ. وجاء في "الطبقات" أيضا أن بلال (أحد حفدة صغيرون) أنه لم ينطق قط بكلمة لعن واحدة ضد أي أحد سبب له ضررا وهو يقف أمام قبر جده صغيرون. إلا أنه أضاف أن كل من سبب له ضررا تدمر بسرعة. وظهر بلال في إحدى الحكايات وهو يقوم باستحضار الأرواح. وأعد عائلة غلام الله ونسله من بعده خير مثال لعائلة كان مصدر شهرتها الأول هو قيامها بعبء تعليم الناس مبادئ الدين، وتولي القضاء. أما عائلات الأولياء الآخرين فقد كانت أهميتهم الأساس تكمن في تقديمهم لقادة طرق صوفية. وأحد تلك العائلات هم اليعقوباب. ومنشئ تلك العائلة هو بانقا محمد الضرير، والذي ينتسب للفونج من ناحية والدته. وقد انتسب الرجل للطريقة القادرية في حوالي منتصف القرن السادس عشر عن طريق صوفي رحالة من بغداد. ويمكن تتبع نسله عبر ستة أجيال إلى بدايات القرن التاسع عشر. وأقام فرع من عائلة اليعقوباب في مناطق الجعليين، نافسوا فيها أحفاد صغيرون. وأدت بعض العائلات الدينية دورين مهمين في آن معا، وهما دور التعليم الديني، ودور زعامة الطرق الصوفية. ويصعب دوما في الواقع التفريق أو الفصل بين الدورين في إسلام السودانيين. ويتضح ذلك في الاستخدام اللغوي. فالكلمة الدارجة للمعلم (سواء أن كان في مجال التعليم أو في مجال الطرق الصوفية) هي كلمة "فكي" (وهي مأخوذة من الكلمة العربية "فقيه" بمعنى العالم بأصَول الشريعة وأحكامها، أو مَنْ يقرأ القرآنَ ويعلِّمه). وجمع كلمة "فكي" هي "فقرا"، وهي قد تعني أيضا دراويش الطرق الصوفية. والكلمة الدارجة للمدرسة الدينية هي "الخلوة"، وعند الصوفيين هي المعتزل (جاء في تفسير الخلوة عند الصوفية أنها فترة "ينفرد بها المريد ليتفرغ لذكر الله تعالى بأية صيغة كانت، أو لتلاوة القرآن الكريم أو محاسبة نفسه أو ليتفكر في خلق السماوات والأرض". المترجم). ومن الأمثلة الأخرى التي تستحق الذكر لعائلة أدت ذلك الدور المزدوج (دور التعليم الديني، ودور زعامة الطرق الصوفية) هي عائلة المجاذيب في الدامر، جنوب مكان التقاء نهر أتبرا بنهر النيل. وكان مؤسس تلك العائلة هو حمد بن المجذوب المتوفى في عام 1776 أو 1777م عن عمر ناهز 85 سنة. وهو رجل دارس للعلوم الدينية، وقد أدى فريضة الحج، وانتسب للطريقتين الشاذلية والقادرية. عمل حمد معلما وفقهيا مفتيا يصدر الفتاوى والأحكام. وأنشأ أفراد عائلته محليا فرعا لطريقة شيخهم سموها "المجدوبية". وترك لنا الرحالة السويسري جون لويس بيركهاردت (الذي زار الدامر عام 1814م) وصفا مدهشا للمدينة وهي تحت إدارة حفيد حمد بن المجذوب. ويلقي وصفه للمدينة الضوء على كثير من الجوانب الخاصة بدور عائلة الأولياء الصالحين: "تعد الدامر قرية كبيرة أو مدينة صغيرة بها نحو 500 بيت. وهي نظيفة ومرتبة بأكثر مما يشاهد في بربر، إذ أن بها مبانٍ حديثة، وتخلو من الأطلال والخرابات. وغالب بيوت المديمة مبنية بطريقة منتظمة، وبها شوارع مستقيمة، وتوجد بها الأشجار الظليلة في أماكن كثيرة. وتسكنها قبيلة عربية هي "المجاذيب"، التي ينسب أفرادها أصلهم للجزيرة العربية. ومعظم هؤلاء من "الفقرا". وليس للسكان شيخ، ولكن لديهم من يطلقون عليه "الفكي الكبير"، هو رئيسهم الفعلي الذي يقضي بينهم ويفصل في كل منازعاتهم. واشتهرت عائلة المجاذيب بوجود العديد من المعالجين الروحيين (في الأصل "محضري الأرواح") وأصحاب المعجزات والكرامات، الذين لا يخفى عليهم شيء، وليس بمقدور أحد مقاومة تعاويذهم. وبالدامر عدة مدارس يقبل عليها الطلاب من مناطق مختلفة شملت دارفور وسنار وكردفان وأجزاء أخرى من السودان، ليتلقوا علوما دينية تؤهلهم للعودة لبلادهم والعمل (فكيا) في مجال التعليم الديني والقضاء والافتاء في بلادهم. وكان يوجد عند علماء الدامر العديد من الكتب المؤلفة في مواضيع فقهية وشرعية جلبها من مصر ومكة طلاب المجاذيب الذين كان يدرسون في الأزهر أو الجامع المكي الكبير لنحو ثلاث أو أربع سنوات. وكان معظمهم يعيش في مصر أو الحجاز على إعانات أو صدقات من محسنين. ويبدو أن شؤون تلك (الدولة التراتيبية / الهرمية الصغيرة) تدار بحكمة بالغة. فقد كان كل جيرانها ينظرون بعين الاحترام لفكيا الدامر، بل كان يهابهم ويحترمهم حتى أفراد البشاريين المَخُوفٌي الجانب (في الأصل الغُدَّارٌ treacherous. المترجم)، فلم يتعرض منهم أحد قط لسكان الدامر بسوء في حلهم وترحالهم إلى سواكن. وكانوا يخشون من أن يقوم فكيا الدامر بوقف المطر عن مناطقهم مما سيفضي لنفوق بهائمهم. ... وتوجد بالدامر وعلى الطريق المؤدية إليها العديد من الآبار العامة". وعلى الرغم من أن الوظيفة الرئيسة لعائلات الأولياء الصالحين كانت هي نقل ونشر الدين والثقافة الإسلامية، إلا أنهم كانوا (كما أبانت القطعة التي اقتطفناها من كتاب بيركهاردت) يمارسون أدورا سياسية واقتصادية في المجتمع السوداني. وكانت هيمنة سلطنة الفونج، التي ازدهت عائلات الأولياء الصالحين في غضون سنواتها، بالغة الهشاشة. ولم تكن سيطرتها، فيما عدا مركزها في منطقة سنار وجنوب النيل الأزرق، إلا سيطرة متراخية يعوزها الثبات. وكانت الخلافات والنزاعات الداخلية بين أفراد السلالة الحاكمة في سنار قد أضعفت السلطنة. ولا تعرف طبيعة تلك الخلافات والنزاعات. وفي عام 1762م أزاح وزير قوي آخر سلطان فعلي، وعين نفسه سلطانا جديدا على الفونج. ولكن بعد وفاته صارت وصاية الهمج على السلطنة فريسة للنزاعات الدموية. وعندما غزت قوات محمد علي باشا السودان، كانت سلطنة الفونج قد تفتت إلى عدة ممالك قبلية متنافرة. وعلى نقيض ذلك الضعف والتفتت الذي حاق بسلطات السلالة الحاكمة في سنار، اكتسبت عائلات الأولياء الصالحين قوة وهيبة متزايدة، للحد الذي جعلهم هم الركن الداعم والسند الحقيقي للمجتمع السوداني. فقد صار للفكيا (باعتبارهم رجال الدين وحماته) أدوارا غير منكورة في الشفاعة والوسطاء (بين الفرقاء). ومن خير الأمثلة على تلك الشفاعة والوساطة التي قام بها الشيخ الصوفي الأكبر إدريس ود الأرباب عند هزيمة وقتل عدلان الأول سلطان الفونج للشيخ العبدلابي عجيب (المانجلك) الذي تمرد عليه. وكان ابن الشيخ عجيب قد فر بعد تلك المَقْتَلَة إلى دنقلا. غير أن الشيخ إدريس تدخل في النزاع وتَشَفَّعَ له عند السلطان عدلان فعفا عنه وأعاده لمنصبه. وكان الفكي في بعض الأماكن والأزمنة التي تضعف فيها قبضة الحكام السياسيون يتولى السلطة الفعلية بنفسه. فعلى سبيل المثال نصب حسن ود حسونة، وهو حفيد مهاجر مغربي، نفسه زعيما للرُحل في أطراف سلطنة الفونج الشرقية. وكانت له حاشية مكونة من عدد من العبيد المسلحين، وآخرين يقومون على شؤون داره. وكان بذلك يحاكي ما تحت سلطان الفونج من خدم وحشم. وتوفي الرجل في 1664 أو 1665م بعد أن ارتدت طلقة نارية من مسدس كان يحمله إلى جسده. ولعل ذلك كان أول حادث مسجل لامتلاك سلاح ناري في السودان. وكان النفوذ السياسي لحسن ود حسونة نفوذا شخصيا محضا، إذ أنه انقضى بموته. وهنالك ما يكفي من الأدلة على أن عائلات الأولياء الصالحين في المناطق النيلية كانت تقوي من وضعها، ربما على حساب سلالة الفونج، عن طريق حيازة الأراضي التي كان يمنحها لهم سلاطين الفونج. وكانت تلك الحيازات تُمنح لهم بعقود رسمية نظامية (وقد نشر صادق نور بعضها عام 1956م في العدد الرابع من مجلة كوش Kush في ورقة بعنوان "حيازة الأراضي في غضون عهد الفونج". المترجم). ولم توضع تلك الحيازات ك "وقف"، إذ أن مفهوم الأوقاف لم يكن معروفا في السودان قبل الحكم التركي – المصري، ولكنها أعطيت ك "هدايا مجانية" أو على سبيل الصدقة. لقد كانت عائلة المجاذيب هي أكثر عائلة أصابت نجاحا كبيرا في الحصول على سلطة سياسية. فقد أقامت لها – كما رأينا من كتابات الرحالة بيركهاردت - في نهايات القرن الثامن عشر مقاطعة ثيوقراطية في الدامر. وكانت الدامر من ناحية نظرية جزءً من مملكة الجعليين التي كانت تقع تحت سيطرة العبدلاب (المكون العربي من سلطنة الفونج، من نسل عجيب المانجلك). غير أن حاكم الدامر كان بلا شك – وكما ذكر بيركهاردت – هو الفكي الكبير. وكان بيركهاردت قد ألمح أيضا للدور الاقتصادي لعائلة المجاذيب. فقد عملوا على إبقاء الطرق التجارية مفتوحة، خاصة تلك المؤدية إلى ميناء سواكن على البحر الأحمر، وكان ذلك يعتمد على "بركة" يعتقدها الناس فيهم. وألقت إشارة بيركهاردت للنشاط التجاري الذي يمارسه فكيا المجاذيب بأنفسهم بعض الضوء على واحدة أو اثنين من الروايات التي وردت في كتاب "الطبقات". فقد ورد فيه أنه كان يُطلق على حمودة بن التنقار(وهو أحد أبناء أخت صغيرون) على سبيل التحبب "جياب العجوة من الريف". (ورد في كتاب الطبقات عن حمودة ما نصه: " حمــــــــودة بن التنقار المشهور بجياب العجوة من الريف، وأمه بنت سرحان وأمها فاطمة بنت جابر، وتفقه على خاله الفقيه محمد بن سرحان، وسبب إتيان العجوة أن خاله محمد بن سرحان مرض قيل له: "شفاك في العجوة"، وكانت مفقودة في البلد، فجابها حمودة رضي الله عنه من الريف وكانت سبب شفائه، وشرح على خليل حاشية مفيدة فيها سورة (؟) خاله وأولاد جابر. المترجم). وهناك أيضا رواية في "الطبقات" عن أنه كانت لأحد أحفاد صغيرون، واسمه أبو الحسن (المتوفى في عام 1720 أو 1721م) علاقة صداقة وود مع فكيين من نوري ببلاد الشايقية. وكانا يأتيانه كل عام بهدايا من ثمار الشمالية مثل التمر والدوم، ويهديهما هو بعض الأقمشة المنسوجة والثيران لحرث الأرض. وفي كل من الحكايتين يتبين لنا أنه كانت هنالك تجارة منتظمة تتم بين الشمال والجنوب عبر النيل، تحت إشراف رجال دين من ذوي الهيبة والمكانة العالية. ومثل تفتت سلطنة الفونج، وقيام حكم مستقل للهمج في أواخر القرن الثامن عشر إرهاصات بدء مرحلة تميزت بتغييرات عميقة وزعزعة شديدة في استقرار السودان. ومثل غزو محمد علي باشا في عامي 1820 و1821م بداية جديدة لإدارة مركزية وقوية كان السودانيون قد عرفوها من قبل. وبدأ الأوربيون (بطريق غير مباشر) في البدء بالتأثير على "تلك الشعوب البعيدة". وأفضى فتح مسار النيل الأبيض وبحر الغزال في تحريك حدود المناطق الإسلامية جنوبا بعد ثلاثة قرون من الاستقرار، وهو الأمر الذي أدى إلى نتائج لا تزال آثارها باقية إلى اليوم. وبالإضافة إلى تلك التغيرات السياسية، حدثت أيضا تغيرات في الحياة الدينية بالسودان كانت تعكس التحركات الإسلامية في خارج السودان. فقد شهد القرن الثامن عشر حركة إحياء للصوفية، خاصة في الأقاليم العربية التي ضمتها اليها الإمبراطورية العثمانية. وتوسع نشاط كثير من الطرق، مثل الطريقة النقشبندية التي أسسها عبد الغني النابلسي في دمشق. وانتشرت أيضا الطريقة الخلوتية على يد شيخ آخر من دمشق هو مصطفى البكري الصدقي. وظهرت في الحجاز طريقة صوفية جديدة هي السمانية، نسبة إلى مؤسسها الشيخ محمد بن الكريم السمان.