عبود بتاع الفحم ! … بقلم: … د . احمد خير / واشنطن

 


 

د. أحمد خير
13 June, 2010

 

 

التوتر الذى تشهده الساحة السياسية السودانية فى هذه الآونة ،  ليس هو مجرد وليد ناعمة أظافره ، بل هو نتاج كم متراكم من الأحداث . إنشغل أبناء السودان ببعضها ، أما البعض الآخر فهو كما رياح الهبوب التى تغشى السودان فى كل عام ،  تترك مخلفاتها من ورائها لتتراكم إلى أن أصبحت تلالاً تصعب علينا إزالتها !  وهذا هو مكمن القلق ! المتطلع إلى مايدور من أحداث فى غرب البلاد وجنوبها وشرقها لابد وان يتساءل : من الذى بذر الفتنة فى تلك المناطق ؟! وكيف فات على أبناء السودان أن بعض من أجزائه ظل يئن بدون أن يلتفت إليه أحد إلى أن إستفحل الداء ، ولم يتبقى إلا المشرط كى تتم عمليات البتر!

لن أوجه إصبع إتهام لأحد ، فالجرح أكبر من كيل الإتهامات ، ولا الغرض هنا هو الغوص فى عمق أو أس تلك المشكلات ، بل هدفى هو دعوة كل من له باع فى حل النزاعات أن يتقدم الصفوف ليتناول مشكلات السودان بعمق تحليلى  قائم على أسس علمية  يوصلنا إلى براح المعرفة لنتمكن من تشخيص الحالة السودانية .  البحث العلمى الذى أدعو له لايجب أن يفهم على  أنه مجرد تناول لجزيئات منكفئة على عوامل داخلية فحسب ، بل انها دعوة لإختبار علاقاتنا بدول الجوار التى تعاملنا معها بأمن وأمان ، وبدون حرفية العارفين بالجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا .  لقد آن الأوان للنظر إلى مانحن عليه من تخلف وضياع ، فى وطن كان فى إمكانه أن يكون من أغنى دول العالم بما يمتلكه من خامات على ظهر الأرض وفى باطنها ! لقد ركنا ولزمن ليس بالقصير إلى  مقولات لم تقدم ولم تؤخر من أننا شعب مضياف كريم ،  شعب حساس وناس حاره ، وكل فرد فيه أخو أخوان ومقنع الكاشفات !   

السودان الذى تحده مجموعة من دول  فقيرة فى غالبيتها ،  ظلت تتوافد إليه منها هجرات من إثنيات مختلفة ، البعض منها ظل على الأرض السودانية متمسكا بهويته ، بينما البعض الآخر تداخل  مع السكان الأصليين . وكما عادة الهجرات التى هى بدافع إقتصادى ، يستقر المهاجرون بالقرب من الحدود ، ثم يبدأون فى الزحف إلى الداخل وذلك حسب ماتمليه الحاجة . تلك الهجرات  لابد وأن تكون قد خلفت من ورائها مشكلات  لم يعطها أبناء السودان الإهتمام المطلوب إلى أن إستفحلت وصارت عبئاً ثقيلاً على الوطن والمواطن . 

المشكلات التى تواجه السودان ليست فقط منحصرة فى ما ولدته الهجرات من دول الجوار ، بل هناك مشكلات إثنية داخلية فرضت واقعا أدى إلى حروب طويلة  إستنزفت الكثير من الجهد والعرق .

إلى وقتنا هذا لم تجد تلك المشكلات الناتجة عن الهجرات المستمرة من دول الجوار، ولاتلك  الناتجة عن الخلافات العرقية فى الداخل الإنتباه اللازم من الباحثين والمنشغلين بأمر السياسة والإقتصاد والتوازن الإجتماعى . كل ما توصل إليه العقل الجمعى السودانى لمواجهة مثل تلك القضايا كان وبكل أسف خيار البندقية !

أن أسباب العجز ليست فى عدم معرفتنا بالتاريخ والجغرافيا ، ولاحتى فى عدم المعرفة بطرق البحث العلمى ، ولكن فى شعورنا بحساسية تجاه تلك القضايا برمتها ! فالعلاقة بين مصر والسودان مثلا لم توضع تحت المجهر لمعرفة دقائق مكوناتها ، كذا لم تحفز الهمم للتدقيق فى جذورها التاريخية وبدون مواربة أو حرج .

دعونا نخرج من ذلك التفكير القائم على إتهامات متبادلة لاتقدم ولاتؤخر . إتهامات  من أن مصر قد دخلت إلى السودان منذ القدم بغرض جلب الذهب وريش النعام والعبيد . ومن قبل إتفاقية البقط التى بموجبها أن يقدم السودان لمصر عدد من العبيد فى كل عام !  وأن مصر قد دخلت غازية مع الجيش التركى ثم مع الجيش الإنجليزى ! كل ذلك يعرفه من مر مرورا ً عابرا فى تاريخ العلاقة بين مصر والسودان !

ليتنا نفيق ونخرج من دائرة المظلومين المغلوبين على أمرهم ، ونشكل واقع يؤطر لقيم أخرى  تجعلنا نبدل ذلك المنظار القديم  ، الذى تعودنا معه أن نتعامل مع الدول معاملة أفراد الأسرة الواحدة  . هكذا بعفوية وبدون دراسات قائمة على أسس علمية ! علينا أن ننظر للدول من حولنا بأن لكل دولة مصالحها الخاصة ، مهما كانت علاقتنا بتلك الدول بلا أستثناء . لايجب أن نكون بتلك الحساسية التى معها نتقيد بأساليب الإتيكيت القائم على المجاملات والأساليب التى تحسن من الصورة ، والتى تبتعد كثيراً عن الواقعية التى تظهر الحق والباطل بدون محسنات . 

مصر تتعامل مع الشأن السودانى ومنذ فترة ليست بالقصيرة بأن تقرير المصير سيؤدى إلى إنفصال الجنوب عن الشمال ! لا لشئ  إلا لأنها قرأت الواقع بدون حساسية وبدون مواربة . فالواقع السودانى يقول بأن معظم أهل الشمال بما فى ذلك السلطة القائمة تتعامل مع الموقف على أن الإنفصال آت لامحالة ، لأن المثقفين فى الجنوب وفى الشمال يعملون بجد لترسيخ تلك الفكرة ! ونتيجة لذلك التردي فى التفكير الغير قائم على أسس علمية ، ما كان من مصر إلا وأن إختارت مايشكل الخيار الأفضل لمصالحها ، ألا وهو التعامل مع حكومة الجنوب بحكم ماسيكون ! فنجد المؤسسات المصرية من تعليمية " جامعة الأسكندرية "  وإعلامية " دورات تدريبية  لإعلاميين من الجنوب " وإقتصادية " مشاريع إقتصادية "  وسياسية "  التعامل المباشرة مع حكومة الجنوب وتبنى بعض قضاياه " .  ذلك فى محاولة منها لوضع لبنة تحمى مصالحها فى حالة ماتم الإنفصال !

لالوم على مصر فيما تقوم به إذا نظرنا إلى الموضوع بنظرة مجردة قائمة على المصالح ! ويبقى السؤال: أين كانت الحكومات السودانية منذ عصر الرئيس محمد أنورالسادات الذى أقام  الجسور بين جنوب السودان والمؤسسات التعليمية المصرية التى فيما بعد تخرج فيها الآلاف فى شتى المجالات ؟! أين أصحاب الرأى والقلم فى البحث والتنقيب عن مايحسن علاقات السودان بمصر على أسس بعيدة عن العاطفة التى لاقدمت ولا أخرت . دعونا ولو لمرة واحدة  نعمل على ترسيخ علاقات واضحة تقوم على المصالح التى تخدم طرفى المعادلة .

 للدلالة على عدم فهم كل من السودانى والمصرى للآخر، أسوق بعض مما يعد فى خانة الطرائف . مثال عل ذلك أنه فى الخمسينيات من القرن الماضى كانت شهرة رجل الأعمال المصرى  إبراهيم عبود باشا تملأ الآفاق ، حيث كان الرجل يحتكر صناعة السكر فى مصر . تزامن فى ذلك الوقت " 17 نوفمبر 1958 " أن قام فى السودان إنقلاب عسكرى بقيادة إبراهيم عبود .علم أحد الإخوة فى مصر بخبر الإنقلاب العسكرى فى السودان فتساءل : هو قائد الإنقلاب فى السودان ، هو نفسه إبراهيم عبود باشا بتاع السكر ؟! يرد عليه أحدهم : لا .. ده عبود بتاع الفحم !

أيضا ، يذكر أن  المرحوم عبد الماجد أبوحسبو ، وزير الإستعلامات فى عهد الديمقراطية ، الذى فى زمنه  إزدهر الإعلام فى السودان ، انه عندما كان يدرس فى مصر، كان يمر بضائقة مالية . كان هناك من الجيران رجل  يملك عربة كارو ، تفضل الرجل مشكوراً وتطوع  بأن يقل الطالب أبو حسبو  من الحى إلى المدرسة .  فى ذات يوم طلب أحدهم من العربجى القيام بنقل بعض البضائع ، وماكان رد الرجل إلا أن قال: أروح فى الأول أرمى شوال الفحم ده وأرجعلك !

السودانى إرتبط فى ذهن المواطن المصرى العادى على أنه البربرى ، البدنجانه " الأسود "  وتسميات كثر، الغرض منها ليس التقليل من شأن السودانى كما يفهم من ذلك ولكن كلها دعابة فى دعابة . ولاننسى مايقوله السودانى العادى أيضا عند إشارته إلى المصرى بأنه " حلبى "

 صور سلبية نجدها هنا وهناك ، ولكن إلى متى ستظل العلاقة بين مصر والسودان قائمة على  روح العداء المستتر الغير قائم على دراسات علمية تسبر غور تلك العلاقة لنصل بها إلى علاقات مشتركة قائمة على المصالح الحقيقية التى تخدم البلدين ؟! مجرد سـؤال !                     

 

Ahmed Kheir [aikheir@yahoo.com]

 

آراء