عبيد المنازل ولصوص الحيط .. الشكل الجديد للاستعمار الحديث

 


 

 

عندما قرأت في سياسات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والحس بنوايا له في ردّة النظام العالمي، كانت تحدوني شفقتي الشديدة على ما يتعرّض له النظام العالمي الجديد الذي نرى فيه سفينة نوح للعالم وجنونه في التوسع الرقمي المذهل:
كنت عندها قد كتبت عدة مقالات حول تأرجح العزيمة الأمريكية خلال حكم ترامب
(راجع مقالاتي أدناه:
هل أمريكا قوية من جديد؟ أم أضعفها ترامب؟ بقلم سعيد محمد عدنان – لندن – بريطانيا
لما يستنجد التعيس بخائب الرجا بقلم سعيد محمد عدنان – لندن – بريطانيا
تداعيات خروج أمريكا من الملعب 2 أزمة الثقة بقلم سعيد محمد عدنان – لندن – بريطانيا داعيات خروج أمريكا من الملعب 2 جمرة النظام العالمي الخبيثة الأولى – الفصل العنصري بقلم سعيد عدنان)

في قدح شعلة الحرية لهزيمة الظلم والطغيان بكل صوره برزت عبقرية ناجحة بلورت مبادئ العهد التنويري، ومنها استمد العالم الحر من خلالها وشاح الحرية بحكم الاتفاق المبني على التوازن (الراشونيل) في الحوار والتصالح.
وهنا كانت نشأة العالم الحر وموت امبراطوريات الوصاية والعبودية والقهر. واحتفل العالم بذلك وتم خلع المناظير التي كان يهتدي بها وتبقّي على ما نسخه من سياسات ومواثيق وقوانين.
وبناءاً على ذلك اكتفى الواقع بأن الانحراف اللا أخلاقي لا ينبغي أن يكون له وجود فيما بعد، بسحر ذلك التوازن وتأمين تلك الحريات، وتدافعات الحضارات التي تبقت، متناسقةً مع مبادئ التنوير، في التنافس على قيادة العالم، طائعةً لقيود النظام العالمي الجديد الذي بمواثيقه يمثل إدارة العالم.
ولثلثي القرن التنويري، رزح البشر في اجتثاث مشوبات الانصهار ونمو الحويصلات، إلا أنه لم يتناول تطهير عقم البشرية في إصلاح ذاتها من فيروساتها الظالمة والطامعة. هذه هي حمل الأمانة التي كانت تخاطبها الأديان:
هي من صميم فلسفة كتاب "الأمير" للفيلسوف سيء الذكر نيكولو ماكيافيلي، وهي الغاية تبرر الوسيلة.
قوله تعالى في سورة 33 آية 72 "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا"
وفي ماثيو (مر 8: 36): "لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه"
هذه الحكمة هي التي ضلّت بعدمها الأمم.
فبالرغم من التزام الغرب – العالم الحر – بحقوق الحرية وحقوق الإنسان والمساواة في الحقوق والواجبات، إلا أنها تغاضت عن قداسة تلك الحقوق والتي منحها الله للكل، بشر وحيوانات ونباتات، للتمتع بها والالتزام في حدودها لأنه لا يستوي عقلاً التفريط فيها، ويجر ذلك الإنسان للظلم والعذاب لنفسه ولغيره لجشعه وعدم تريثه.
حارب المجتمع الغربي غرماءه بحكم أنه ملتزم بالحرية، وبها فعّل الديمقراطية، ولكنه لم يأبه للأمانة لأنها أدق وأصعب، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "القابض على الحق كالقابض على الجمر"، فالحق دربه صعبٌ وحار، ولا يهادنك أحد بجره إليه.
إن التيه في السياسة ومرسوم الاتفاقات، يسمح للإنسان إيجاد البدائل للوسائل والمعدات التي أُعدمت من ممارسات الماضي للكسب السهل واجتياز الحواجز الصعبة بسرقة حقوق الغير وتطويع البشرية للرق الحديث. فبدلاً من انتشال تلك الحقوق والواجبات من تلويث البشر لها لتعقيم مفعولها، اهتم قادة النظام العالمي بتعقيمها هي من مفعولها كله.
فالسياسة أصبح قضاتها في العالم هم الدول الكبرى، وهي في تنافسٍ لإدارة الحقوق والواجبات في العالم من أجل السلم، ولكن سمومها مكتومة إلى حين، وهي سموم قاتلة فتّاكة ففيها كل شهوات البشر من الرق الحديث والنهب المبرمجان لأسوأ أفعال الشيطان البشري من استئصال وإبادة وتعذيب.
وما دامت السموم مكتومة فالتوازن مغري، كعلف الحيوان في حظيرة الذبح.
فقد كان الطمع والظلم البشري هو الذي تدهور بالمجتمع الإنساني في تحميل الأسفار (لودِينق) كنايةً عن الطمع في التكديس لأكثر من الحاجة، والظلم باستغلال الغير لحمل تلك الأسفار، والذي يمثّل شرع الغاب، ظلم القوي للضعيف والغزو والنهب والاستعمار والرق وعبودية الأرض، ثم الترهيب والإرهاب. فقام المجتمع البشري السياسي في كل مسيرات التأريخ حتى توصّل إلى النظام العالمي السياسي الحالي، والذي ارتسمت منه الأخلاق المرشّحة عبر تلك التجربة.
ومع التطوّر التقني انتزع التطوّر نحو العولمة لسهولة انتقال المعلومة والتي هي عبارة عن الذات البشرية بخيرها وشرها، وأهمل الاختلافات الأخلاقية والعقائدية بالتمنّع من سونامي العولمة، مثلما لم تعالج معه النزعات الطبيعية في أمان العنصر أو العرق (الأمان الفصيلي).
تلك المستجدات هي التي بدأت تحل محل حويصلات النظام العالمي القديم وفيروساته، فحلت محلها بعد أن تمت تنقيتها وتلقيحها بالقدح العلمي والفكري المتطوّر، مما أبعدها من الرجعية وعدم الاستنارة. ولكنها بقيت حويصلات لأن كما ذكرنا لم يتبعها التطور التنويري مكتفياً بالتطوير السياسي والقانوني في ذلك مع تأمين الحريات.
ونسبةً لاختراعات البشر القوى المدمرة لبقاء الإنسان اكتفت القناعة بأن الخيار الأوحد هو السلام وضبطه بحكومة للعالم بالدول التي تملك القوة وقيادة أقواها استراتيجياً، وحظر الالتحاق بذلك النادي الذري.
ولكن انقلب السحر على الساحر، فقد تضخّم النمو السكاني في العالم وشحّت الموارد لتغيُّر المناخ وعدم حمايته بواسطة الإنسان نفسه. صارت تلك آليات دمار جديدة، ولكنها ليست في أيادي نادي إدارة العالم إنما تتناولها أيادي البشرية جمعاء.
ما نراه الآن هو حالة تحفّز من القوى العظمى في سيرك مهارات موازنة الأطباق الدائرة: عملية تراكمية المهارات مع الإمكانيات مع الاستراتيجيات لبناء عصابات أشبه بالمافيا، فقط هي تدين بالقانون المتفق عليه والسياسة ذات الفلسفة الجدلية المتفق عليها أيضاً. أي الاستفادة من فقدان دولة الثروة للقدرة الكاملة لاستثمار ثروتها نتيجة تأخر تأهيلها بسبب ظلمٍ سابق، أو لاصابتها بالفساد أو الفتنة أو الفقر، مما يثير شهية الطامعين من حولها أو بعلاقاتهم معها أو بابتزاز عيوبها، وتجد محاور القوة العالمية وكلاء من هؤلاء لمدهم بالدعم المالي والسياسي لشراكات تصب في ابتزاز هؤلاء، وهو أبسط مظاهر الاستعمار الحديث أو بالأصح، الاستعمار الصالح لعصر غياب الأمانة.
وذلك عصر نجحت فيه العنصرية الحديثة تبلور العنصرية المبنية على ركيزة الثراء المكدس من الاستعمار القديم والذي تغاضى النظام العالمي الجديد من الخوض فيه للتصالح، باعتبار أن المستقبل أهم، ولكن عندما يتم تكديس تلك الثروات المنهوبة للاستعانة بها فقط في معركة البقاء، كثروات احتياطي أو تحوّط (هدج فندز)، البعيدة عن سياسات التنمية الاقتصادية للدولة، والتي يتم استخدامها للمغامرات ذات الأرباح الطائلة، أو كما نسميها عندنا "بالقرش الأبيض لليوم الأسود" تطوّرت بصفتها أكبر ثروة بشرية تجمّعت بالنهب وليس بالبناء، بفضل الاستعمار، ولن يتسنى لها أن تتكرر، وهي ميزة النظام العالمي الجديد. إلا أن التمسك بالاستفادة من تلك الاستراتيجية، بعدم التعصّم من هدر الأمانة، فإنه يعيد لها أن تتكرر، ولكن في شكل الاستعمار الحديث.
رشّحت هذه الاستراتيجية الجديدة فكرة السيطرة الكاملة على البشر نفسهم من خلال سياساتٍ تضبط تاثيرهم السلبي على مواردهم بالسيطرة على عطائهم بالوكالة حتى لا تختفي حجة تلك السيطرة بعلاجهم لذلك التأثير السلبي في مواردهم، وهو الشكل الجديد للاستعمار الحديث.
وهو السبب الذي به انتشرت الحروب وسفك الدماء في كل مناطق العالم سوياً لأول مرة في تأريخ البشرية، واشتبك العالم كله تقريباً في نزاعات دموية أو ضمن سيناريوهات لنزاعات دموية، واكتفت الدول الكبرى بالاستقاء منها بتبنّي مصاصي دمائها، واكتفت استراتيجية الدول الكبرى بتجارة الاستراتيجيات لبعضها بعضاً حسب توافق الاستراتيجيات.
وصرنا لا نرى فرقاً بين الصراع الأمريكي الروسي أو الصيني ودول النفط وجثة إفريقيا التي لا زالت تحفل بكل خيرات دمها ولحمها وفضائها وما ئها، وجمال بشرها وكمالهم.
لهذا فحكومات إفريقيا ودول الاحتياطي المعيشي للعالم، لا تحكمها حكومات ولا دساتير يقودها النظام العالمي الذي طالما عزّت نفسها بفقدان ثرواتها وقهرها بأمل سيادته.
فلا غرابة أن يموت شباب السودان وشباب تونس مسحوقين بحكوماتٍ ما هي إلا كما قال الرئيس الأمريكي أوباما "عبيد منازل" همهم خدمة أسيادهم.

izcorpizcorp@yahoo.co.uk
/////////////////////

 

آراء