عرض لكتاب “أول قطار سكة حديد في السودان: بعثة إغاثة غردون وحملة دنقلا” .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
عرض لكتاب "أول قطار سكة حديد في السودان: بعثة إغاثة غردون وحملة دنقلا"
Sudan's First Railway- The Gordon Relief Expedition and the Dongla Campaign
لمؤلفه ديريك ويلسبي Derek Welsby
بقلم: هنري جنستون Henry Gunston
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
*******************************************
تقديم: نشر هذا العرض لكتاب "أول قطار سكة حديد في السودان: بعثة إغاثة غردون وحملة دنقلا" في المجلة البريطانية "دراسات السودان" الصادرة في عام 2012م. وبحسب موقع "المتحف البريطاني" الاليكتروني يعمل مؤلف هذا الكتاب "ديريك ويلسبي" كمساعد لأمين المتحف البريطاني في قسم آثار مصر والسودان. ظل الرجل وافر النشاط في العمل الميداني في مجال الآثار النوبية السودانية منذ عام 1982م، وهو الآن السكرتير (الفخري) لجمعية بحوث آثار السودان، ورئيس الجمعية الدولية للدراسات النوبية، وجمعيات أخرى كثيرة في عدد من الدول، ويلعب دورا هاما في التعريف بآثار النوبة القديمة في أرجاء العالم. نشر العديد من الكتب والمقالات وتقارير الحفريات الأثرية في مختلف أرجاء السودان مثل الشمالية وسوبا، وكان من آخر أعماله برنامج إنقاذ الآثار التي تأثرت بقيام سد مروي. المترجم.
هذا كتاب بديع يجمع بين تاريخ "أول قطار في السودان" مع وصف دقيق لنتائج مسح للآثار الكثيرة الموجودة على امتداد خط السكة حديد، والتي قام بها فريق المؤلف منذ عام 2008م.
اقترح الخديوي سعيد باشا في عام 1860م ربط السودان بمصر عن طريق خط حديدي، بيد أن ذلك لم يتحقق إلا في نهايات عهد إسماعيل باشا في يوم 15 فبراير 1875م حيث وضعت أولي القضبان في "وادي حلفا".كان من المقرر في البدء أن يتجه خط سير السكة حديد جنوبا موازيا للنيل على وجه التقريب، وأن يصل لكرمة على بعد نحو 200 ميلا إلى الجنوب، ولكن لم يتم إنجاز بعض ذلك إلا في عام 1897م. كان المهندسان الاستشاريان المشرفان على المشروع هما المصري شاهين باشا والبريطاني جون فاولر. تمت الموافقة على مقترح من ذلك المهندس البريطاني ليكون عرض القضيب 3 أقدام و6 بوصات، وكان ذلك مختلفا عن العرض المعياري الذي كان معمولا به في مصر وبريطانيا (وهو 4 أقدام و8.5 بوصات). كان السر وراء اختيار ذلك العرض الضيق نسبيا هو أمل المهندس البريطاني في أن يمتد ذلك الخط الحديدي حتى يصل لشبكة خطوط سكة حديد جنوب أفريقيا، والتي كان لها نفس عرض القضيب. وفي هذا الصدد نذكر أن ممن خطط لإنشاء خط سكة حديد في يوغندا قد قرر في بدايات تسعينات القرن التاسع عشر أن يكون عرض القضيب مقاسا بالنظام المتري وليس العرض المستخدم في جنوب أفريقيا (3 أقدام و6 بوصات) وذلك لتوفر قاطرات ودراجات حديدية rolling stock هندية تستخدم ذات النظام المتري في القضبان.
كان تقدم العمل في بناء الخط الحديدي بطيئا، فمع نهاية عام 1877م (أي بعد ثلاثة سنوات من بدء العمل) لم يتعد تقدم بناء الخط قرية "صرص" والتي كان لا تبعد أكثر من 33.3 ميلا فقط من وادي حلفا، ولم يكن الخط المنجز يعمل بصورة جيدة. تم تحويل إدارة الخط الحديدي في عام 1877م إلى حاكم عام السودان (الجنرال غردون)، بيد أنه لم يبد أي اهتمام به (لو أنه فعل فربما كان مصيره سيكون مختلفا!؟ المترجم). جاء في تقرير للجنة حكومية نظرت في أمر ذلك الخط الحديدي في يونيو من عام 1883م أنها تأسف "لإهدار أموال ضخمة في مشروع بناء ذلك الخط الحديدي، وهو أمر ميئوس منه". عادت فكرة إكمال الخط الحديدي مرة أخرى عند التخطيط لبعثة إغاثة غردون في أبريل من عام 1884م. استؤنف العمل مرة أخرى في بناء الخط الحديدي، فقامت الشركة الملكية للمهندسين (البريطانية) باستئناف العمل في الخط، وأوصلته إلى "عكاشة" على بعد 87.5 ميلا في عام 1885م رغم صعوبات العمل والمناوشات العسكرية التي كانت تقوم بها قوات المهدي. قيل أن جنود المهدي كانوا يهتفون وهم يهاجمون الخط مرددين شعارات مفادها أن "الخط الحديدي انتهى" و"التلغراف انتهى" و"أنتم انتهيتم". توقفت عمليات الهجوم العسكري على بناة الخط الحديدي لشهور عديدة، ثم بدأت "حملة دنقلا" في عام 1896م، ووصل الخط الحديدي إلى كوشا (على بعد 108 ميلا)، قبل أن يكتمل الخط في المحطة الأخيرة التي خطط لوصولها منذ البداية، وهي مدينة كرمة (على بعد 201 ميلا) في الرابع من مايو 1897م.
تم التفكير لاحقا في بناء خط حديدي من وادي حلفا إلى الخرطوم جنوبا عبر الصحراء، وبذا انتفت الحاجة لذلك الخط بين وادي حلفا وكرمة فتم إغلاقه في ديسمبر من عام 1904م.
رغم أن ذلك الخط قد تم هجره منذ زمن طويل، فإنه من العجيب أن يعلم القارئ أن بعثة استكشاف أثرية اكتشفت وجود قطع أثرية عديدة لها ارتباط ما بذلك الخط الحديدي، وبالنشاط العسكري الذي كان دائرا فيها.
سجل الكتاب في 16 صفحة الخطوط العامة لتاريخ المشروع، والعجلات الحديدية التي استخدمت في بنائه، ودورها في حملة دنقلا. كانت هناك أيضا 60 صفحة تبين – بصورة عامة- ما بقي من سكة حديد تلك الأيام، من الخطوط الحديدية نفسها، إلى ما كان موجودا في المحطات والمعسكرات الحربية، ووضحت 70 صفحة أخرى القطع الأثرية المكتشفة ببعض التوسع، إضافة إلى قائمة موسعة من الرسومات التوضيحات لهذه القطع. استخدمت كذلك خرائط "قوقل إيرث" لتأكيد مواقع تلك الاكتشافات الأثرية. الرسومات التوضيحية لهذه القطع.
لابد هنا من ذكر نقطتين ثانويتين: أولهما أن الكاتب أشار إلى ورقة (المؤرخ) ريتشارد هيل الصادرة في عام 1945م والمعنونة: "سكك حديد السودان، 1875م: مقدمة"، ولكن لم يضع تلك الورقة في قائمة المراجع. ربما كان من الواجب عليه أيضا الإشارة إلى المؤلف الكلاسيكي "مواصلات السودان" لذات المؤرخ. وثانيهما أن الصورة رقم 12 في الكتاب هي لعربة كتشنر التي كان يستعملها أثناء وجوده في السودان (والمحفوظة الآن في حوض لبناء السفن في جاثيم Chatham Historic Dockyard). يلاحظ أن هذه العربة مصممة على أن تسير فوق قضيب عرضه هو العرض المعياري الذي كان معمولا به في مصر وبريطانيا (4 أقدام و8.5 بوصات)، فهل كان تصميمها قد غير حتى يمكنها السير فوق قضبان سكة حديد السودان ذات العرض البالغ 3 أقدام و6 بوصات؟ (حوض بناء السفن في جاثيم هو متحف بحري قديم في "كنت" في جنوب شرق إنجلترا. المترجم).
إن هذا الكتاب سفر بديع، مدروس جيدا، لا أتردد البتة في تزكيته لمؤرخي سكك حديد السودان، وكافة المهتمين بآثار السكة حديد، وبالنشاط العسكري في السودان في أواخر القرن التاسع عشر.
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]
////////////////