عرض لكتاب “الانتفاضات المدنية في السودان الحديث: ’ربيع الخرطوم، في 1964 و1985م” .. عرض: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

Civil Uprisings in Modern Sudan: the “Khartoum Springs” of 1964 and 1985: A Book Review
John O. Voll جون فول
مقدمة: هذه ترجمة مختصرة لعرض لكتاب الدكتورة ويلو جي بيرديج W. J. Berridge المعنون: "الانتفاضات المدنية في السودان الحديث: ’ربيع الخرطوم، في 1964 و1985م"، الصادر في عام 2015م عن دار بلومزبيري للنشر ببريطانيا، قام بكتابته ونشره البروفيسور جون فول في مجلة الشرق الأوسط (The Middle East Journal) في عددها السادس والتسعين، الصادر في خريف عام 2015م.
ومؤلفة الكتاب هي الدكتورة البريطانية ويلو جي بيرديج، التي تعمل محاضرة بجامعة نورثهامتون البريطانية، وسبق لها الدراسة والعمل من قبل في قسم التاريخ بجامعة درم البريطانية، حيث نشرت عددا من المقالات المحكمة عن أجهزة الأمن والشرطة والسجون في السودان، ومقالا عن الثورة المصرية على نظام حسني مبارك، بالإضافة إلى هذا الكتاب. وكان عنوان أطروحة الكاتبة من جامعة درم هو: "تحت ظل النظام: تناقضات العمل الشرطي في السودان بين عامي 1924 و1989م "Under the Shadow of the Regime: The Contradictions of Policing in Sudan, c.1924-1989.وأعدت الكاتبة مؤخرا دراسة مطولة (monograph) عن دكتور حسن الترابي ستنشر قريبا.
أما كاتب هذا العرض فهو البروفيسور الأميريكي جون فول، الذي يعمل أستاذا للتاريخ الإسلامي في جامعة جورج تاون بواشنطن ونائبا لمدير معهد الأمير الوليد بن طلال للتفاهم المسيحي – الإسلامي. بالجامعة نفسها. نال بروفسير جون فول درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد في عام 1969م (وكانت رسالته عن الطريقة الختمية)، وظل يدرس التاريخ الإسلامي لقرابة الخمسين عاما في جامعتي نيو هامشير وجورج تاون، وعاش ردحا من الزمان في بيروت والقاهرة والخرطوم. وللرجل كتب ومقالات كثيرة تناولت مواضيع مختلفة شملت الإسلام والديمقراطية وتاريخ الدول الإسلامية (ومنها السودان).
المترجم
_____ _______ ________
يعد من النادر أن يظفر النشطاء من المعارضين المدنيين بنظام عسكري ديكتاتوري (أوتوقراطي)، وأن يطيحوا به. وأوضحت تجارب الحركات الشعبوية في أيام "الربيع العربي" عام 2011م صعوبات إزاحة الديكتاتوريات العسكرية عن سدة الحكم. غير أنه، وبحسب ما سجله ويلو جي بيرديج، فإن جماهير الشعب السوداني "تمكنت من تغيير حكومتين عسكريتين، وأقامت مكانهما نظامين ديمقراطيين لبيراليين في زمن كانت فيها الأوتوقراطية هي السائدة" (صفحة 215 من كتاب "لانتفاضات المدنية في السودان الحديث: ’ربيع الخرطوم، في 1964 و1985م").
وكان السودان، منذ نيله الاستقلال، قد حكم حكما مدنيا برلمانيا (بين 1956- 1958م، و1964 – 1969، و1985 – 1989م)، وحكم حكما عسكريا استبداديا لثلاث مرات. ووصفت بيرديج في كتابها الكيفية التي نظمت بها الانتفاضتان، وكيف أن النظام العسكري الراهن هو نسخة مكررة من السياسات العسكرية القديمة ولكن بقوة/ بقوى جديدة (مضافة). وتصلح التجربة السودانية التي وصفها هذا الكتاب في أن تكون دراسة حالة case study بالغة الأهمية لأنظمة الاستبداد (Authoritarianism)، والثورة الشعبية، ولها أوثق الصلات بفهم ديناميكيات السياسة في القرن الحادي والعشرين، وبالنصف الثاني من القرن العشرين أيضا.
وقامت المؤلفة بالبحث في ما قام بنشره الأكاديميون والمهتمون بشؤون الشرق الأوسط وأفريقيا عن ثورة أكتوبر 1964م، فلم تعثر على شيء، فتولت أمر تحليل تلك الثورة (لا شك أن تنقيب مؤلفة الكتاب كان مقتصرا على ما كتب عن تلك الثورة باللغات الأوربية، فهنالك بعض الكتب والمقالات التي كتبها عن تلك الثورة الأساتذة محمد أحمد شاموق وعبد الله علي إبراهيم وعبد المنعم خليفة خوجلي وعبد الله جلاب وغيرهم باللغة العربية، والإنجليزية أيضا. وهنالك مخطوطة كتاب بالإنجليزية عن “يوميات ثورة أكتوبر" بقلم أستاذ القانون الأمريكي وشاهد العيان عليها، الدكتور كليف تومسون، ترجمت ونشرت منجمة في صحيفة "الأحداث" ونشرت فيها بعد ذلك في "كتاب في جريدة". المترجم). وكانت إحدى الأسئلة المهمة التي طرحتها المؤلفة هو: هل كانت الإطاحة بنظام إبراهيم عبود العسكري أمرا مدبرا ومخططا له، أم كان أمرا عفويا تلقائيا؟ وخلصت الكاتبة إلى أنه على الرغم من وجود "جماعات" كانت تقوم بمعارضة منظمة لنظام عبود، إلا أن أحداثا عفوية هي من بذرت بذورسقوط ذلك النظام (صفحة 14 من الكتاب). وبنت الكاتبة ذلك الاستنتاج على مصادر متعددة، منها ما عددته من مذكرات ومقابلات شخصية أجرتها مع من شهدوا أحداث تلك الثورة، ومع من شاركوا فيها فعليا. وتعتقد بيرديج أيضا أن معارضي عبود لم يكونوا قد خططوا أو توقعوا سقوطه الوشيك. ويؤكد هذا الاعتقاد ما ذكره أكاديمي (أجنبي) آخر قدم للسودان قبل شهور قليلة من قيام الثورة، وتحدث مع عدد ممن شاركوا في الثورة وقادوها من أمثال بابكر عوض الله، ذلك القاضي اليساري الذي وصفته المؤلفة في صفحة 40 بأنه "أحد أبطال الثورة"، وبابكر كرار، أحد كبار الإسلاميين الذين شاركوا في ثورة أكتوبر. (ذكر البروفيسور فول في الهامش أنه قابل بابكر كرار في يوم 2/3/1964م، وبابكر عوض الله في 25/7/1963م. المترجم).
وذكرت المؤلفة في الفصل الثاني من كتابها أن كثيرا من الجماعات والمنظمات وقادتها الذين شاركوا في ثورة أكتوبر 1964م قد شاركوا أيضا في انتفاضة 1985م. ورغم أن جعفر نميري (الذي استولى على السلطة بإنقلاب عسكري في مايو 1969م) بنى نظاما أمنيا قويا، إلا أن بيرديج (في صفحة 63 من الكتاب) كانت ترى أن الرجل قد "أسقط نفسه بيده بسياساته القمعية، حتى ضد عدد من حلفائه. غير أن سهولة تكيف (resilience) الأحزاب السياسية السودانية، وكفاح الطلاب والمهنيين والعمال جعل من الصعوبة الانتقال لديكتاتورية عسكرية".
وقامت بيرديج بدراسة عناصر السياسة السودانية الرئيسة في ثلاثة فصول من الكتاب. ودرست المؤلفة في الأول منها الأحزاب والمنظمات السياسية، وخصصت جزءً كبيرا من عرضها لتاريخ نشأة الحزب الشيوعي السوداني، وتاريخ الأحزاب والمنظمات الإسلامية (بأسمائها المختلفة عبر السنوات). وتعتقد المؤلفة أن تلك الأحزاب والجماعات كانت تضم وتعكس آراء كثير من "صفوة" / "نخبة" المتعلمين، بينما تتكون معظم جماهير "الأحزاب التقليدية" من طائفتين تاريخيتين اسلاميتين، تمثلان غالبية جماهير السكان، وحزبيهما هما صاحبتا الأغلبية في أيام الديمقراطية اللبيرالية.
أما في الفصل التالي (الفصل الرابع) فقد درست المؤلفة فيه ما سمي بـ "القوى الحديثة"، والتي تشمل النقابات والاتحادات العمالية والجمعيات المهنية واتحادات الطلاب (صفحة 95). غير أن المؤلفة حذرت من الفصل التام بين هذه "القوى الحديثة" و"الأحزاب التقليدية" (صفحة 95) بسبب العلاقة الوثيقة بين الاثنين. أما العامل الثالث (والذي درسته المؤلفة في الفصل الخامس) فقد كان يختص بالجانب العسكري. فقد درست بيرديج المؤسسة العسكرية السودانية من منظور سياسي، وقالت بأنها مؤسسة منقسمة على نفسها داخليا، بشكل يعكس الانقسامات الحادثة في أوساط النخبة السياسية، وفي مجتمع متعلميه أيضا.
وفي ثورتي 1964 و1985م أتفق بعد سقوط النظامين العسكريين على تكوين حكومتين مدنيتين في فترتين انتقاليتين قصيرتين، تميزتا بتهميش الأحزاب "التقليدية" صاحبة القوة الشعبية الأكبر بالبلاد لدور "القوى الحديثة" والأحزاب الإيديلوجية. وفصل الكاتب في الفصلين السادس والسابع تحليل الدينمايكات التي سادت في تلك الفترتين الإنتقاليتين.
أما في الفصل الأخير فقد تنبأت المؤلفة بأنه ليس من المحتمل أن يسقط النظام العسكري الحالي (الذي أتى للسلطة بإنقلاب في 1989م) بثورة مدنية أخرى. فقد ثبط هذا النظام أو أضعف من كل اللاعبين الأساسيين في ثورتي 1964م و1985م، وليس هنالك من بوادر احتجاجات شعبية واسعة النطاق، رغم أن المؤلفة لاحظت أن البلاد تمر بظروف شبيهة بتلك التي سبقت الثورة (العفوية) التي أطاحت بنظام عبود.
وخلصت بيرديج أن الثيمة / الفكرة الرئيسة في تحليلها للتغير السياسي في السودان هو غباوة/ خطل (folly) "تعريف أي انتفاضة ضد النظام الحاكم في العالم الإسلامي بأنها عمل حركات إما "علمانية" أو "ديمقراطية" من جهة، أو "دينية" "ضد الديمقراطية" مدفوعة من الإسلام السياسي، من جهة أخرى" (صفحة 216 في الكتاب). وهنالك العديد من النشطاء الذين يعدون من "القوى الحديثة" يعرفون بأنهم أعضاء في تنظيمات مختلفة تنتسب للإسلام الإسلامي. فالثنائيات المفاهيمية بالسودان (بل في العالم الإسلامي بأسره) لـ "الحديث" في مقابل "التقليدي"، و"العلماني" مقابل "الديني" ثنائيات مضللة، وخاطئة، وغير دقيقة.


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء