عرض لكتاب نوح سلمون: “من أجل حب النبي: أثنوجرافيا الدولة الإسلامية السودانية” .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 


 

 

Noah Salmon, For Love of the Prophet: An Ethnography of Sudan’s Islamic State

ويلو بيريدج Willow J. Berridge
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: هذه ترجمة لعرض كتاب "من أجل حب النبي: أثنوجرافيا الدولة الإسلامية السودانية" للدكتور نوح سلمون، نُشر في العدد رقم 123من الدورية الأمريكية الأكاديمية "The American Historical Review" عام 2018م.
ويعمل مؤلف الكتاب (الحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة شيكاغو) أستاذا مساعدا في كلية كارلتون، ومديرا لمركز دراسات الشرق الأوسط بها. وهو متخصص في أنثروبولوجيا الدين، وفي شؤون الشرق الأوسط، وله عدد من الأبحاث منها ما هو متعلق بإنشاء دولة علمانية في جنوب السودان للفكاك من الدولة الإسلامية.
أما كاتبة العرض فهي الدكتورة ويلو بيريدج المحاضرة بقسم التاريخ في جامعة نيوكاسل البريطانية. وكانت قد درست وعملت من قبل في قسم التاريخ بجامعتي درم ونورثهامتون، حيث نشرت عددا من المقالات المحكمة عن أجهزة الأمن والشرطة والسجون في السودان، وكتابين صدرا حديثا هما "حسن الترابي: السياسة الإسلامية والديمقراطية في السودان" و"الثورات المدنية في السودان الحديث في عامي 1964م و1985م"، ولديها تحت الطبع كتاب جديد بعنوان Islamism in the Modern World: A Historical Approach. . وكانت أطروحتها المقدمة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة درم هي بعنوان: "تحت ظل النظام: تناقضات حفظ النظام في السودان بين عامي 1924 و1989م".
المترجم
**** **** **** ****
يقدم كتاب نوح سلمون "من أجل حب النبي: أثنوجرافيا الدولة الإسلامية السودانية" عددا من المساهمات المهمة لأدبيات الحياة السياسية والدينية في السودان، وللأدبيات العالمية التي تتناول الموجة الإسلامية الحالية.
أحسب أن أقوى نقاط الكتاب هي أنه يقوم على قاعدة بحثية صلبة امتدت من عام 2003م إلى 2015م، وبخاصة بين عامي 2003 – 2007م، وينشر معلومات مستقاة من مقابلات عديدة أجراها الكاتب، ومن كتب عربية ألفها عدد من دعاة التجديد الإسلامي في السودان. وكاتب هذا المؤلف يختلف عن كثيرين ممن كتبوا عن الحركة الإسلامية / الإسلاموية في السودان وغيره، فهو قد أفلح في توسيع منظور كتاب بنقله آراء ونظرة بعض الإسلاميين من غير قادة العمل الإسلامي (والقادة الكبار أيضا) لما يجري حولهم في أرجاء العالم.
وحرص الكاتب على دحض النقطة التي كثيرا ما رددها كتاب " الإسلامية / الإسلاموية" عن تأثير الأفكار الغربية على الإسلاميين، وأكد أن لـ "السياسة الدارجة vernacular politics" لإسلاميي السودان لها ديناميكيتها المستقلة الخاصة (صفحة 175 من الكتاب). ولهذا السبب لم يتعرض الكاتب لتأثير الأيديولوجيات الغربية مثل الماركسية على الظاهرة الإسلامية / الإسلاموية إلا خَطْفًا.
وقدم المؤلف في الفصل الأول عرضا تأريخيا لـ "المشروع الحضاري" في السودان، وتتبع نشأته، ورد أصوله إلى تطلعات سادة البلاد من المستعمرين البريطانيين لـ "تحديث / عصرنة الإسلام" في السودان. ومن المدهش أن اللورد كرومر (القنصل البريطاني في مصر بين عامي 1883 و1907م) كان قد بذل جهودا حثيثة لجعل المؤسسة التعليمية في السودان تلتزم بالصيغة الإصلاحية لمفهوم الاجتهاد، التي الصيغة التي نافح عنها صديقه محمد عبده. وكان من رأي الكاتب أن البريطانيين في سنوات الاستعمار الثنائي (بين 1899 – 1956م) كانوا منذ السنوات الأولى لا يتعاملون (في إدارة البلاد) بمنطق علماني خالص، بل كانوا يؤمنون بأن تقوية ودعم المؤسسة الدينية التقليدية (والتقدمية في ذات الوقت) سوف تعمل على تمدين البلاد وإضعاف الطرق الصوفية، التي يلومونها على قيام الثورة المهدية في السودان. غير أني أرى أن الكاتب لم ينتبه في حجته تلك إلى جوانب بالغة الأهمية في التاريخ الاستعماري. فعلى الرغم من اعتراف الكاتب بأن البريطانيين قد استبدلوا سياستهم تلك لاحقا، وشرعوا في دعم الطرق الصوفية عوضا عن دعم "العلماء"، إلا أن الكاتب أهدر فرصة مناقشة بحث عبد الله علي إبراهيم عن تهميش القضاة الشرعيين في النظام القضائي الاستعماري، وأثر ذلك على الإسلاميين مثل حسن الترابي (انظر كتاب عبد الله علي إبراهيم Manichaean Delirium: Decolonizing the Judiciary and Islamic Renewal in Sudan الصادر في عام 2008م). وبالإضافة لذلك، أجد أنه من الغريب أن المؤلف لم يلق بالا إلى أهمية التعليم / التدريب الاستعماري للعلماء على المدى الطويل، خاصة إن التعليم الذي قدمه ذلك الاستعمار لغالب الإسلاميين في مؤسساته التعليمية مثل كلية غردون التذكارية وما تبعها من مؤسسات، كان تعليما علماني الصبغة في غالبه.
أما في الفصلين الثاني والثالث فقد أفلح الكاتب بوضوح وفعالية شديدين في تحدي فكرة معارضة متبادلة بين الصوفية والإسلامية / الاسلاموية. وأبان الكاتب بصورة مقنعة بأن نظام الإنقاذ (1989م – الآن) كان يهدف لدمج الصوفية (في نظامها) دون أن يطمسها، وأن يحشد أفرادها كوسيلة من وسائل دفع "المشروع الحضاري" عبر مؤسسات مثل "المجلس القومي للذكر والذاكرين" وغيره. وفي ذات الوقت أوضح الكاتب أن الصوفية قد تؤدي واحدا من دورين: إما في صالح ثورة الإنقاذ، أو ضدها، وقد تؤدي الدورين في آن معا. وهنا تبرز إلى الواجهة قيمة بحث نوح سلمون الميداني العميق. فقد أبان بوضوح شديد كيف أن مختلف شيوخ الصوفية وأتباعهم / مريديهم قد استجابوا لجهود النظام الرامية لتعميم المعارف الدينية بتأكيد صحة ممارساتهم (الباطنية / السرية esoteric) الخاصة.
ودلف المؤلف في الفصل الرابع من كتابه لمنطقة جديدة حلل فيها الدور الذي أدته الموسيقى والمذياع في تعضيد جهود النظام الهادفة لنشر مٌثلها وشعاراتها الإسلامية، مما يعد طرقا لأبواب أبعد من المؤسسات التقليدية التي كانت تخدم النظام مثل الجامعات وقوات الدفاع الشعبي التي تجد لها ذكرا في كتب الكثيرين الذين طرقوا مثل تلك الموضوعات (مثل كتاب آن موسلي ليش المعنون The Sudan: Contested Identities، 1998، وكتاب عبد الله جلاب الموسوم The First Islamist State، 2008م). وتناول الكاتب في هذا الفصل أيضا واحدا من موضوعات الكتاب الرئيسة هي الضبابية الحادثة (عند محاولة التفريق) بين العلمانية والدينية، وقد تناول المؤلف هذا الجانب ببحثه في كيفية أن محطات المذياع الحكومية ظلت تطرق موضوعات "رومانسية" شائعة في الفن (العلماني / الدنيوي) الذي كان سائدا قبل الانقلاب الإسلاموي، لجذب المستمعين إلى برامجها الدينية (صفحتي 149 و150 من الكتاب).
وكانت أكثر الموضوعات التي وردت في الفصل الخامس من الكتاب أهميةً هي تركيز وتأكيد الإسلاميين على السيادة الإلهية (divine sovereignty)، وهو أمر يجعل من العسير على نظام الإنقاذ – ربما على نحو يخالف المتوقع – إقامة نظام شديد الهيمنة والسيطرة الكاملة، إذ أنه يسهل عملية التصدي لتلك الهيمنة والسلطة للأفراد الذين أتيحت لهم الاطلاع على مختلف ضروب المعارف الإسلامية. غير أن نظام الإنقاذ ظل مهيمنا على السلطة لـ 28 سنة مستجيبا لتلك الخطابات الدينية المتعددة، ومطوعا ومكيفا لأفكارها حول مفهوم "الدولة الإسلامية" حسبما يراه (مناسبا له).
يمكن انتقاد المؤلف في أنه يفترض - كأمر مفروغ منه - في سائر ما أتى به في الكتاب أن الدولة (الإسلامية/ الإسلاموية) السودانية هي كانت هي أول من نقل عملية التغيير الديني في البلاد. غير أنه من المعروف أن الإسلاميين كانوا يعملون (بنشاط) في المجتمع السوداني، عن طريق منظماتهم الخيرية وغيرها من قبل انقلاب 1989م. وكان يمكن للمؤلف أن يأتي بصورة أكثر تعمقا وتفصيلا على ذكر دور المنظمات غير الحكومية العالمية في تصميم ودعم الصحوة الإسلامية بالسودان في تسعينيات القرن الماضي (انظر مثلا كتاب اليكس دي فال وعبد السلام Islamism and its Enemies in the Horn of Africa، 2004م). ورغم كل ذلك، فهذا كتاب ممتاز، مثير للتفكير النظري، وحاذق النقد لكثير من الأعمال الاكاديمية المنشورة عن الإسلامية / الإسلاموية، ويقدم بصورة ثابتة ومتسقة أفكارا جديدة ومواقفا مبتكرة.


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء