عصر الغناء الشعبي وزمن كمال ترباس

 


 

 


abusamira85@gmail.com
قد يكبر سؤال بدايات عصر الغناء الشعبي في السودان الذي يسبق زمن كمال ترباس، ويبقى ملتبسا بسوء التأريخ والأرشفة، وتتناثر الأسماء التي التقطت أصواتها لاحقا بأجهزة تسجيل هاوية لا محترفة.
عصر الأغنية الشعبية ضارب في القدم، ولا يسع المجال في الخوض في تفاصيله، لكن يمكن تعريف الأغنية الشعبية بالأغنية مجهولة المؤلف والملحن، والقابلة للتعديل والإضافة على كلماتها بختلاف الزمان والمكان وأسماء المغنى لهم.
على أن المهم التأكيد على أن المقصود بالغناء الشعبي تلك الأغاني الجماعية التي تتناقلها الأجيال كأغاني السيرة والأعراس من جهة، وعدم الخلط بين الغناء الشعبي، وشاعر الشعب من جهة أخرى. ذلك أن الغناء الشعبي هو تلك الأغاني الاسطورية التي تتناقلها الأجبال وتضيف ما يلائم عصرها، بينما شاعر الشعب هو الذي يعبر عن أفكاره تعبيرا ذاتيا.
وفي العصر الحديث يعتبر محمد أحمد عوض ملك الأغنية الشعبية، لأنه أول من أطلق عليها هذا الاسم، ثم أسهم في تأسيس بالاشتراك مع فنانين آخرين
أبرزهم: بادي محمد الطيب،عوض الكريم عبد الله صديق الكحلاوي، في تأسيس اتحاد فن الغناء الشعبي في العام 1964، ثم جاءت دار فلاح في العام 1968 لتصقل مواهب كثيرة كان أبرزها كمال ترباس.
واقع الحال إذا توقفت ذاكرة غنائية عند رمز لا تتعداه تتيبس وتنكسر، لكن إلى أن يتفق أهل السودان على من هم الفنان الشعبي، سيظل كمال إبراهيم سليمان الشهير بكمال ترباس هو أحد الأصوات الحلوة الجميلة التي ملأت حياتنا غناء وطربا.


وقبل الانتقال من عصر الغناء الشعبي إلى زمن كمال ترباس، يتعين علينا العودة إلى الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) لكي نوضح أن الموسيقى السودانية تذخر بأنواع من الإيقاع أهمها: التُم تُم ونموذجه أغنية محمد أحمد عوض عشرة بلدي، المامبو السوداني لسيد خليفة، الكراتش الذي أدخله كمال ترباس (طبيعة الدنيا)، والبايو للنور الجيلاني في أغنية يا مسافر جوبا.
ولا غرو في ذلك فكمال ترباس هو غرس طبيعي لعبقرية المكان، فقد ولد في حي القلعة قلب أمدرمان النابض، ثم التحق في بداية صباها بمهنة النجارة، ومنها حصل على لقب (ترباس) لمهارة أبداها في هذا المجال، لكن يهمنا هنا أن النجارة صنعة لا يجيدها إلا أصحاب القدرات الفنية العالية.
ولعبقرية المكان موعد آخر مع ترباس فقد قادته ظروف الأسرة إلى العيش في مدينة كسلا الوريفة الشاربة من الطيبة ديمة، وفيها عرف الشاب كمال ترباس بذاك الفنان الأنيق صاحب الحضور القوي الذي يطرب ليالي المدينة بغناء مختلف ولونية جديدة تجعله متميزا على الآخرين، ومنذ ذاك الزمان يمكن القول إن ملامح زمن كمال ترباس قد بدأت في الظهور.
وعبر مسيرته الفنية الممتدة لأكثر من أربعين عاما، يجدد كمال ترباس في أعماله ويتطور في ألحانه دون حذلقة أو ثرثرة، ولعله في سباق محموم مع نفسه وفنه، لتأكيد وترسيخ أنه صوت يحتل في غابة الأغنية السودانية مكانة رحبة ملأها بباقات الأغاني ورقيق الألحان. ولا يشغل نفسه في إبداعه هذا بكل الأصوات الوحشية التي تعشعش في الأماكن المظلمة من هذه الغابة.
وحين ترى كمال ترباس متحدثا، تلاحظ أنه لا يفتش في الماضي ولا يتعلق الأمر عنده بعزة النفس، لكنه  حين يجيب عن أسئلة الجمهور، تراه يتحدث بتلقائية وبصيرة ترنو للمستقبل لجهة ترسيخ أن الفن هو العمل الذي يصل إلي الجمهور مباشرة وينفعل به ويفهمه ويحفظه.
عندما يقدم كمال ترباس أغنية جديدة رسالته واضحة وليس في ذهنه ضبابية من أي نوع، إذ أن التجويد للعمل الفني عنده يبدأ بالانتقاء الجيد للنص وهنا يكمن سر ترباس إذ لا يرهن نفسه لشاعر بعينه رغم أنه تعامل مع شعراء أفذاذ في كتابة الأغنية مثل السر أحمد قدور والتيجاني حاج موسي، إلا النص هو الأساس في اختيار ترباس لأغنياته الجديدة، ولذا تراه يختار أغنياته من فضاء الشعر المفتوح هنا يكمنا سر تنوع وتعدد أعماله الفنية، فهو الفنان الذي يقدم لنا عملا فائق العذوبة (طبيعة الدنيا ذي الموج) لشاعر لقي وجه ربه فقيرا  معدما مثل الراحل عوض جبريل، وهو أيضا الفنان الذي يقدم لنا نصا كتبه شارع رزقه الله بالمليارات مثل أشرف سيد الحسين في أغنية (زول بريدك زيي مافي).
ولعل النموذجين يأتيان علي سبيل المثال لا الحصر لتعزيز أن النص هو الأساس في اختيار ترباس لكلمات أغنياته الجديدة والمعني واضح، إذ أن الفنان في أعماق ترباس ينحاز بموضوعية للنص الذي يصبح إضافة كمية وكيفية لمسيرته الفنية ويبدو واضحا أن ترباس رسم طريقه كفنان يقدم أعمالا ترسخ الدور الكبير للفنان في الحياة، وهذا الدور تزداد أهميته عند ترباس حين يقر بأن الجمهور السوداني (مثقف) ويعجب بـ (الجيد) من الغناء حيث أن (الغناء الخالي من المضمون) حسب تعبير ترباس لا يصل إلي الجمهور إطلاقا.
والمهم في هذا الطرح أن زمن كمال ترباس يظهر بوضوح، إذ أن ترباس بوعي شديد يشير إلي أن الفنان هو الذي يطرب الجمهور بتقديم الجديد والمفيد، وأهمية هذه الإفادة أن الفنان كفنان ليس مطلوبا منه أن يصبح زعيما سياسيا أو مناضلا أمميا يتغني للكادحين الذي ينتظرون القطار الذي لم يأت بعد.
وثمة قضية أخرى مهمة من زمن كمال ترباس تتمثل في حرصه على المظهر العام للفنان، فهو في الغالب يرتدي الزي الشعبي لأهل السودان الجلابية وفوقها العباءة بأناقة لا تخطئها العين ويكملها بالعمامة ذات الأمتار الستة التي تخطت شهرتها الحدود، ولي تجربة شخصية في أبوظبي قبل سنوات خلت حين كنت أرغب في شعراء عمة من التوتال الإنجليزي، فإذا البائع الهندي يقول لي (صديق أنت رأس كبير عايز عمة زي عمة ترباس).

 

آراء