khalidtigani@gmail.com
مع كامل التقدير للمؤتمر الاقتصادي الثاني الذي دعت لانعقاده الحكومة مطلع الأسبوع المقبل وللقائمين عليه. نبادر إلى القول بكل أسف أنه لن يقدم حلاً للمأزق المالي الذي يواجه السلطة التنفيذية, كما أنه لن يسعف في علاج الأزمة الشاملة التي يعاني منها الاقتصاد الوطني, ليس لأي سبب يقدح في كفاءة المشاركين فيه أو في قدراتهم على اجتراح حلول, بل ببساطة لأنه مكلف بالبحث في أجندة لا علاقة لها بجوهر الأزمة, ولذلك لن يتمكن من مخاطبة جذور المشكلة والأسباب الحقيقية التي قادت إلى هذا الوضع, وبالتالي سينأى عن وصف الروشتة الصحيحة لمعالجة المرض.
ليست المشكلة على الإطلاق هي أن السلطات الحاكمة لا تعرف على وجه التحديد ما هي الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذا التدهور المريع للأداء المالي والاقتصادي للحكومة, وليس صحيحاً أنها تجهل الطرق الصحيحة الآمنة للخروج من هذا المأزق ولذلك تبحث عن السبل الكفيلة بذلك حتى تنتظر أن يخرج لها الخبراء والمختصون المشاركون في المؤتمر بحل سحري لم تكن تعرفه أو ليس بوسعها تنفيذه, أو يجترحون لها معجزة غيبية لمعالجة الوضع المأزوم على نحو غير مسبوق.
بين يدي الطبقة الحاكمة العشرات إن لم نبالغ ونزعم أنها المئات من النصائح والوصفات الناجعة التي خرجت بها ما لا يُحصى من المؤتمرات والملتقيات التي عقدت على مدار السنوات الماضية, ومثلها ما سطرته مقالات الخبراء والمختصين مما نشرته الصحافة السودانية, ويمكن القول أن هناك حالة تخمة من كثرة الحلول الممكنة المطروحةالتي لم تغادر من متردم, وهي نصائح عصارة خبرات ثرة بذلها حريصون على مصالح البلاد العليا, ومن بينهم غلاة المؤيدين للحكم ممن لا يمكن اتهامهم بأنهم يفعلون ذلك من موقع المعارضة لإحراج السلطة أو زعزعة قبضتها.
وما هو أغرب من ذلك كله ومع تجاهل السلطات لكل تلك البدائل هو ما يزعمه المسؤولين الحكوميون من تحدي أجوف لمن يأتي ببديل للسياسات الحكومية المجربة بلا هدى على رؤوس يتامي الشعب السوداني, يُسقطون بذلك أحد أهم مسلمات علم الاقتصاد الذي تتركز قيمته الحقيقية على طرحالبدائل, والأمر لا يتعلق بعدم معرفة الذين يرمون بقفاز التحدي بهذه الحقيقية البديهية وهي أول ما يتعلمه طلاب الاقتصاد المبتدئون, بل من بينهم خبراء مرموقون ومع ذلك يمارسون هذا الجدل العقيم ل"حاجة في نفس يعقوب", ولئن ذهب الفرنسيون بمثلهم "فتش عن المرأة" للإجابة عن كل ما غمُض معرفة ما ورائه, لنقل "فتش عن المصالح" في تفسير ما حارت فيه الألباب عن تجافي السلطات الحاكمة عن كل ما هو منطقي لإصلاح حال البلاد والعباد, والولع بتتبع كل ما من شانه أن يقود من مأزق إلى آخر.
وحتى لا يظن أحد أننا نلقي الاتهامات جزافاً, فقد حملت أنباء الصحف في الأيام الفائتة إفادات مثيرة لمسؤولين من عجب أنهم من بين أهم مهندسي "البرنامج الثلاثي الإسعافي للإصلاح الاقتصادي" وهو البرنامج الذي يمثل المرتكز الأساسي لسياسات الحكومة في المجال الاقتصادي, فماذا قالوا, صبراً على اقتباس الإفادات المطولة لأنها ببساطة تكشف عن السبب الحقيقي للورطة المالية للحكومة التي لم تتردد في تحميل أعبائها للمواطنين.
ففي ورشة العمل التي نظمتهاالدائرة الاقتصادية بأمانة المرأة بالمؤتمر الوطني الأسبوع الماضي حول "ضمانات نجاح البرنامج الثلاثي" وهو عنوان موفق لأن المداولات كشفت عن الجهة المتسببة في عدم توفير ضمانات التنفيذ الناجع وهي للمفارقة الحكومة نفسها صاحبة هذا البرنامج.
قال الدكتور صابر محمد حسن رئيس القطاع الاقتصادي في المؤتمر الوطني في مداخلته إن الحكومة قد تأخرت في تنفيذ ما يليها من خطوات الإصلاح على الرغم من أن البرنامج المحدد بثلاث سنوات يشارف عامه الأخير, وأضاف أن الحكومة لا تزال في بداية تطبيق ما يليها من التزامات إصلاحية مع أنها بدأت في تنفيذه قبل عامين ولكنها لم تستطع المواصلة في تنفيذ تعهداتها, وقال إن الخطأ الذي ارتكبته الحكومة هو أن "نفسها قصير تُعد برنامجاً جيداً لكن ما ان تبدأ في التنفيذ الفعلي حتى تتوقف عن المواصلة", وزاد "الغريب أننا نبدأ التنفيذ بالإجراءات القاسية والصعبة, وفي المرتين السابقتين بدأنا بتعديل سعر الصرف وتخفيض دعم الوقود, ولكن بعدها توقفنا ولم نستمر في الإصلاح رغم أن الإجراءات الأخرى المطلوبة ليس لها آثار سالبة على المواطنين كما في رفع الدعم عن الوقود".
وقال رئيس القطاع الاقتصادي ل"الحزب الحاكم" إن الإجراءات التي نفذتها الحكومة هي تقشفية على المواطنين, اما الإجراءات الأخرى المطلوب الاستمرار فيها فهي تقشفية على الحكومة, وبرر الدكتور صابر عدم تنفيذ ما يليها من إجراءات تقشفية بأن "فيها صعوبة خاصة في الظروف الراهنة لأن لدولة تواجه تحديات وعدم استقرار في بعض المناطق". وأقر بأن عدم الإلتزام بالإجراءات المنهجية أدت إلى تعثر البرنامج وتأخر تنفيذه, وأفرز هذا الوضع الاقتصادي المتردي بعد فترة تنامي واستقرار خلال سنوات العقد الأول من هذا القرن لافتاً إلى عدم الاستفادة خلال تلك الفترة في تأهيل البنيات التحتية وتطوير القطاع الحقيقي.
وأضيف هنا ما سمعته شخصياً من الدكتور صابر محمد حسن في العام 2009 وكان حينها محافظاً لبنك السودان المركزي, ففي لقاء عُقد في وزارة الطاقة والتعدين للاحتفال بمرور عشر سنوات على بدء تصدير النفط, قلتُ للمجتمعين إن أفضل ما يمكن أن يقدمه هذا الاحتفال للمواطنين هو الإجابة على السؤال الذي يحير الجميع أين ذهبت أموال النفط؟, وانبرى لي مسؤول في الوزارة محتجاًعلى السؤال واعتبره من باب هرطقة الصحافيين المشككين بطبعهم في إنجازات الحكومة, غير أن ما أدهشني حقاً أن من تولى الدفاع عن مشروعية سؤالي مقراً بصحته كان الدكتور صابر مستشهداً بقوله إنه اقترح على أصحاب القرار عند بدء عمليات التصدير أنيتم تأسيس صندوق خاص لعائدات تصدير النفط ويُنفق منها على المشروعات التنموية حصرياً على غرار ما فعلت ماليزيا عند دخولها نادي مصدري النفطفي سبعينيات القرن الماضي, وبالتالي يمكن بوضوح معرفة أين وكيف يتم الصرف على تلك الموارد المالية الضخمة, وأضاف أنه عندما لم يجد الاستجابة اقترح أن تقسم العائدات مناصفة بين الصندوق وبين موارد موازنة وزارة المالية, ولم يجد هذا المقترح أيضاً آذاناً صاغية.
وكانت النتيجة استخدام العائدات النفطية بالكامل بغير حسابات اقتصادية. وفي بلد منهكة بالحروب الأهلية والاضطرابات الأمنية وفشل وزارة المالية في الولاية على المال العام, ومع انتشار الفسادوشراء الولاءات السياسية يمكن من بين ثنايا هذه المعطيات معرفة أين ذهبت أموال النفط التي بلغت عشرات المليارات من الدولارات.
ونعود مرة آخرى للإفادات فقد أقر الدكتور حسن أحمد طه, أمين الأمانة الاقتصادية بالمؤتمر الوطني ووزير الدولة بالمالية سابقاً, في الورشة المشار إليها أعلاه بأن أزمة الاقتصاد الوطني تعود إلى اختلالات هيكيلية, إضافة إلى صدمات اقتصادية ثلاث لخصها باقتسام موارد النفط مع الجنوب إبان الفترة الانتقالية, وتوابع الأزمة المالية العالمية, وانفصال الجنوب وفقدان غالب العائدات النفطية, مشيراً إلى تضاعف الإنفاق الحكومي تسع مرات لذلك تزايد عجز الموازنة عاماً بعد عام على الرغم من الإيرادات تضاعفت سبع مرات في الفترة ذاتها, ونتج عن ذلك تزايد المديونية الخارجية والداخلية, وعدم القدرة على سداد الإلتزامات الحكومية.
وأضاف المسؤول الاقتصادي في "الحزب الحاكم" أن تبعات الانفصال والقطيعة مع مع الجنوب, وتدهور الوضع الأمني في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق ترتب عليها إزدياد الإنفاق العسكري والأمني على حساب التنمية والخدمات الاجتماعية, وفشل تحقيق الأهداف المرجوة في زيادة الى حساب التنمية والخدمات الاجتماعية, وفشل تحقيق الأهداف المرجوة في زيادة الإنتاج والإنتاجية في القطاعات الحقيقية.
ونكتفي بهذه الاقتباسات المطولة التي تتضمن اعترافات "مثيرة" تكشف بوضوح عن الطرف المتسبب في المأزق الراهن والمسؤول الحقيقي عما آلت إليه أوضاع البلاد الاقتصادية المتردية, وهي على أية حال إقرارات لافتة ليس لأن فيها جديداً لا يعرفه حتى عامة الناس, بل لأن من شهد بها هم أهل الشأن أنفسهم مما يكفينا مؤونة التكرار الممل لما ظللنا نردده على مدار أعوام من التحذير من عواقب المسلك الغريب الذي تنتهجه الطبقة الحاكمة في إدارة شؤون البلاد.
ليس فيما حدث من تدهور مريع للوضع المالي للحكومة وتدني غير مسبوق لأداء الاقتصاد الوطني مفاجأة من أي نوع, من الممكن إدارة السياسة ببعض الفهلوة وبشئ من القبضة الحديدية, بيد أن التهريج آخر ما يصلح أن يدار به الاقتصاد فالمقدمات الخاطئة لا يمكن أن تقود إلا إلى نتائج كارثية, ولا يمكن التلاعب بالمعطيات الموضوعية والمنطقية للعملية الاقتصادية ثم ينتظر أحدهم أن تُمطر السماء ذهباً, ولذلك مثلما حققت فورة النفط نمواً مؤقتاً, كان طبيعياً أن يؤدي العجز في التوظيف الصحيح للموارد المتاحة إلى هذا الفشل الذريع بهذه السرعة.
ولعل أكثر ما يصيب الناس بالدهشة إذا كان السادة مديرو الملف الاقتصادي في المؤتمر الوطني يدركون ويعرفون جيداً تشخيص المرض وقد وضعوا أصبعهم على الجرثومة المسببة له, وهو باعترافهم بوضوح أن الحكومة لا تطبق للغرابة البرنامج الذي تبنته, لنقل تجاوزاً للواقع "من أجل الإصلاح الاقتصادي", وأنها تتنتقي منه ما يناسبها من إجراءات تقشفية حازمة تقع تبعتها وكلفتها على المواطنين المعوزين قبل المقتدرين, وعلى القطاع الخاص في أنشطته المختلفة, وعلى المنتجين في القطاعات المختلفة, ثم تتجافي بلا أدنى وازع من مسؤولية عن الوفاء بما يليها من إجراءات تقشفية تستلزم التخلي عن المصالح والامتيازات والمكاسب الخاصة على حساب المصالح العامة, ليس ذلك فحسب بل تتجاهل عن سابق عمد وإصرار مسلمة أن الإصلاح يبدأ ويتنزل من أعلى الهرم إلى قاعدته.
وما سقناه من إفادات أعلاه لمسؤولين رفيعين في "الحزب الحاكم", اللهم إلا إذا كان إسماً على غير مسمى, يغني عن ما ينتظر أن يخرج به المؤتمر الاقتصادي الثاني المزمع اللهم إلا إذا كان الغرض منه مهرجان للزينة وأن يُحشر الناس ضحى من سياق الحشد الكبير للمدعوين, والذي لا يمكن عقلاً آلية مناسبة لتداول جاد, فقط لتقول السلطة أنها تبسط الشورى والمشاركة في اتخاذ القرار, وما هو في الحقيقة في ضوء معرفة ما يحدث فعلاً إلا أن يكون استمراراً لسياسة الهروب إلى الأمام من مواجهة الاستحقاقات الصعبة لدفع فاتورة الإصلاح.
المطلوب أن تكف السلطات الحاكمة عن "التذاكي" حتى لا تثير السخرية عليها, فالتدهور الكبير الذي انزلقت إليه الأوضاع الاقتصادية والمالية إلى هذه الدرجة لم يحدث من فراغ أو حدث بعمل فاعل مجهول, كما أنه لم يكن قدراً مقدوراً لا فكاك منه, بل هو كسب يد الطبقة الحاكمة التي ظلت مسيطرة على السلطة طوال ربع القرن الماضي, وهم الأشخاص أنفسهم, ولا يمكنهم إلقاءاللوم على أي طرف آخر ليتحمل المسؤولية نيابة عنهم فيما آلت إليه الأمور, والاكتفاء بتحميل المواطنين المنكوبين ثمن أخطائهم وعجزهم عن إدارة السلطة بالرشد المطلوب.لا نحتاج إلى مؤتمر اقتصادي ليعيد اكتشاف العجلة, المطلوب ببساطة فقط أن تواجه الحقيقة العارية أن الداء يكمن في قلب الحزب الحاكم وحكومته, ولا يمكن البحث له عن شفاء في أي مكان آخر.