نِعمَ القَرينُ وَكُنتِ عِلقَ مَضِنَّةٍ وارى بِنَعـفِ بُلَيـــَّةَ الأَحجــار عمرت مكرمة المساك وفارقت ما مســــهـا صــلـف ولا اقــتار (جرير)
ترددت اصداء ضحكات السيدات والرجال الآتية من المقهى المستلقي في دعة عند اقدام المحيط الهادي، وهو يزحف مداً بعد أن انحسر جزراً، في جنبات الحانة القريبة المطلة على مقهى منتجع "شاطئ الشمس" المترامي عند ضواحي مدينة بنما، فأثارت القهقهات دهشة الرواد، والنادلات، والمنتظرين والمنتظرات لتوقف المطر عن الانهمار. لم تكن السماء ملبدة ولا الشمس محتجبة، لكن الماء يهطل من السماء حبالاً ممتدة، فلا تسمع لوقعها صوتاً حينما تلامس موج المحيط، أو أوراق الشجر، بل يتناهى إلى الاسماع حفيف الاغصان وهي تتمايل يمنة ويسرة، صعوداً ونزولا دون أن تدري لماذا، أو تجد تفسيراً لما يسبب هذه الحركة الدؤوب بين الأشجار الباسقة الملتفة الكثيفة التي تحيط بالمكان وتكاد تبلغ عنان السماء، إذ ليس من ريح تعصف، أو نسيم يهب من مكان قصي يطلب من الأفنان أن تفسح له المجال لينعش المستظلين تحت الشوادر عند حافة المحيط. كانت سيدة المجالس تجلس إلى جمع من النزلاء وموظفي المنتجع الذين تحلقوا حولها بعد وجبة الفطور ذات ضحى وهي تروي لهم بالعربية والانجليزية ويديها وقسمات وجهها وخلجاتها حكايات وروايات، وهم لا يحسنون إلاّ الاسبانية وبعض كلمات إنجليزية يعلقون بها على حكاية من حكاياتها أو طرفة من طُرفها أو ملحة من ملحها، ثم يشتد الضجيج حينما يتحدثون كلهم سوياً، دفعة واحدة، وهي ما انفكت تضحك ملئ شدقيها أو تبتسم ابتسامة عريضة منيرة. لم يكن ذلك حوار طرشان. كانت هي وجميع من معها يدرك ما يقوله الآخر ويعرف ما يرمي اليه، إذ لم تكن اللغة حاجزاً أمام هذا الود المتدفق. تحطمت كل حواجز الكلمات فانطلقت برفق من القلب إلى القلب. كانت عايدة الحاج مثل ذاك المطر تهب وتعطي دونما ضجيج ومن غير ضوضاء، وكانت مثل تلك الغابات المطيرة يتنفس منها قوم كثير. حينما اقترب قرينها مبللاً – هو الذي اختلطت عليه الاسبانية بلهجاتها المحلية المتعددة وامتزاجها في بنما ببعض البرتغالية، بل قل النسخة البرازيلية من البرتغالية، وبمفردات من لغات محلية وردت عبر الحدود، فأضاع صفو اللغة - كان مصغياً لهذا الحوار الباهر، وبرفقته كريمتهما التي تتقن اللغة الاسبانية صرفة كما بخليط من بعض تلك اللهجات على حد سواء. لم يساورهما شك البتة في ان الجميع يفهم ويعي كل ما يدور من حديث ويستمتع بما يقال. لم تطلب منهما المساعدة في إيصال فكرة، أو ترجمة ملاحظة ابدتها احداهن أو أحدهم. كان الحديث يجري جريان النهر الدافق بمودة بالغة وألفة نادرة، كأنما الجمع أهل وأقارب وجيران لم يفترقوا قط سنين عددا. كان هذا ديدنها طيلة حياتها؛ من رأته برهة عرفته وعرفها وعرفتها منذ الولادة، يتصل حبل الود بينهما كحبل السرة. هو ذاك! لم تقف اللغة، والمعتقد، واللون، والوضع الاجتماعي، والجنس، والثروة والثراء، والغنى والاملاق، وحسن وتواضع الحال، بينها وبين الناس كافة. الجميع عندها سواء، ليسوا غرباء، بل هم أخوة وأخوات، أبناء وبنات. في اسمرا، غداة استقلال إرتريا، تجاذبت أطراف الحديث مع نادل مطعم فندق امباسيرا، عشية مغادرتها بعد زيارة قصيرة لبلاد أناس اختلفوا إلى دارها ايام الكفاح المسلح فوجدوا عندها رحباً وسعة. كان النادل العجوز ودوداً وخدوماً. سألته عما يرغب، إن لم يكن التقاعد هو ما يريد. أجابها بأنه يريد الحج إلى الأراضي المقدسة والصلاة في كنيسة المهد، لكنه لا يملك إلى ذلك سبيلاً وتلعثم، لم يرد المضي إلى القول بان المال واوضاع البلاد والعلاقات مع الاحتلال وسياسة السلطة الجديدة تجاه السفر والترحال يقفون حجر عثرة أمامه. كان الحديث بينهما يدور بذات الطريقة، كلمات من مودة قبل اللغة. كان قرينها يرقب ما دار بينهما بعجب واعجاب، ثم قالت للنادل إنها ستتكفل بنفقات حجه راجية أن يذكر اسمها في كنيسة المهد وكنيسة القيامة وجميع كنائس فلسطين، وأن يبذل جهداً للوصول إلى كنيسة البشارة في الناصرة، وأثناء هذه الرحلة الروحانية فليقف على عتبات المسجد الاقصى، يقرئه منها سلاماً. تردد الرجل قليلاً ثم قال إن اذن السفر سيكون من سابع المستحيلات. فطلبت منه الا يقلق، أذ إن لزوجها صلات طيبة مع رجال هذا العهد وسيبذل جهداً لتذليل هذه العقبة. قالت: أترك الامر له، عند زيارته القادمة قريباً سيتولى أمر رحلة الحج من جميع جوانبها. دمعت عينا العجوز وتهللت أساريره وتوهجت قسمات وجهه بنور وضاء. ودعته في تلك الليلة واكدت له بأن الامر قريب، لكنها فوجئت صبيحة اليوم التالي، أثناء وضع حقائبهم في السيارة الصغيرة متوجهين إلى المطار، بالنادل العجوز يأتي لوداعها مرة اخرى. لما أتى زوجها بعد أسابيع قليلة حاملاً معه مستلزمات الرحلة ومؤنتها، عرف من إدارة النزل أنه قد رحل إلى الابدية قبل أيام معدودات، فأسقط في يده. عندما علمت بذلك اغتمت وحزنت وذرفت دمعاً، وهي التي لا تعرف الا الابتسام والضحك أو الصمت الجميل والتأمل عند أقسى الملمات. هل جرت تلك الدموع على رحيل ذلك العجوز الذي لم يبلغ مراده، أم على صلوات لم تتم كان سيتردد فيها اسمها عند موضع البشارة بولادة السيد المسيح، عليه السلام، وفي مهده وقيامته، وعلى سلام لن يصل إلى المسجد الاقصى؛ أم على كل ذلك؟ حتى حينما تغضب - ونادراً ما كان ذلك يحدث - لأمر جلل أو لظلم وقهر تعرضت هي له من أقرب الاقرباء أو أبعد الغرباء أو حاق بأبرياء، كانت تغضب لبرهة ثم تنفجر ضاحكة، وتنسى وتسامح. "غضبك جميل زي بسمتك!" لم تكن تأبه كثيرا للجماد والجمود، بل تطرب لكل ما ينبض ويتفاعل. في مصر لم تأسرها الاهرام وأبو الهول بقدر ما أسرها آثار أحياء "مصر القديمة". كانت ترى هناك امتهاناً لحرمة التاريخ وساكنيه في هضبة الاهرام وقد تخفف السياح من ملابسهم إلى حد لا يطاق، كأنهم على شاطئ البحر أو عند بركة سباحة يلتقطون أشعة الشمس كيفما أتفق. تبعث حركة الناس على سجيتهم وسعيهم وراء معاشهم بين حواري القاهرة القديمة في نفسها النشوة والارتياح. في دير ابي السيفين حيث تناولت ما فتئت تصفها بأنها أطيب وجبة غداء حظيت بها منذ سنين، طعام صيامي نباتي من صنع راهبات صبايا حديثات عهد بسلك الرهبنة مكون من فول وعدس وطعمية وبتنجان وخبز الطابون وبصل. كان للطعام نكهة وطعماً لا يشبهان اي طعام آخر من ذات المكونات ربما تأتي به من مكان آخر أو تصنعه في البيت. وبعد ذلك تواصل رحلتها سيراً على الأقدام إلى الكنيسة المعلقة وإلى البئر التي حطت العائلة المقدسة رحلها عندها لما لجأت إلى مصر من فلسطين، ثم إلى جامع عمرو بن العاص، وفي المساء إلى خان الخليلي والاحياء المجاورة حيث يفيض بها الوجد حين تتجول بين المساجد القديمة أو تنظر اليها، وفي الليل إلى السيدة زينب وإلى الحسين وعشاء عند "الجحش" حيث للفول والمخلل طعم آخر. قالت هنا التاريخ يمشي على قدمين، ينطق بلسان فصيح. ليس جامداً كما في تلك الانحاء التي يجوبها السياح منبهرين، أو مجمداً في المتاحف. هنا نمشي مع التاريخ ونتحدث اليه ويكلمنا. بخٍ .. بخٍ! وهذا ما فعلته في روما وقبرص وتونس والهند وسرنديب وفي كل مكان ذهبت اليه. تركت الاوابد بعد لمحة سريعة، ثم بحثت عن التاريخ الحي فذهبت إلى حيث الناس يعيشون معه ويضيفون اليه، ويزيدونه ألقاً ويستعيدونه نضارة. كان حبها للحياة ينبع من حبها للعطاء، كانت الحياة عندها سخاء. لا تدخل على أحد من غير أن يكون في يدها له أو لأطفالهم شيئاً يفرحهم. لم تكن تتبرم الا حينما يمر عليها يوم أو بعض يوم من غير أن تعطي أحداً، حتى لو كان أملاً. أثناء تدريسها في معهد النور للفتيات الكفيفات كانت تدخل إلى الصف حاملة عِلماً وفي يديها ما يبعث السرور في أفئدة تلميذاتها من حلوى ومخبوزات من صنعها أو من السوق، وفي الشتاء تأتي اليهن بما يبعث الدفء في اجسادهن والفرح في نفوسهن، وتظل تتابع تحصيلهن، تحثهن على المثابرة حتى مرحلة الدراسات العليا، وكذلك الحال في كل مدرسة انتقلت اليها. أشارت مراراً إلى أن رسالة المعلم والمعلمة ليست بذل العلم فحسب، بل بذل العاطفة والروح، عطاء مادّياً وروحياً، يستنهض ملكات التحصيل والادراك والاستيعاب والشغف والابداع عند التلاميذ والتلميذات. ما دخلت يوما إلى المدرسة إلا ومعها إلى جانب الكتاب والكراسة شيئاً "لبناتها". كان يقال لها انها معلمة وليست جمعية خيرية. أنتِ لستِ بيل غيتس أو وارن بفت. فكانت تقول لهم ما هذا إلا شق تمرة زائدة عن حاجتنا. ولم تكن شق تمرة، ولم تكن تمرة، بل كانت سلال تمور وبساتين نخيل دانية القطوف. جاء الجميع إلى منزلها، ليلاً نهاراً، من كل حدب وصوب. الباب المفتوح دخله رسامون، وتشكيليون، ومغنون، وعابرو سبيل، وثوار حقيقيون، وثوار جوالة تحسبهم أتوا الساعة من أحراش غابات لاوس، وثوار مطاردون من أجهزة استخباراتية وأمنية في طول العالم وعرضه، ودبلوماسيون، وسفراء، ووزراء، ورؤساء، وخفراء، وفقراء، ومنتحلو صفة، وطلاب أكانوا مواطنون أو مغتربون جاءوا من اصقاع الدنيا وجنباتها، وشعراء بعضهم يشار اليه بالبنان وآخرون مغمورون وغاوون، وادباء من كل صنف واتجاه، وصحافيون ونقابيون، ومتبطلون ومتعطلون، ومن تقطعت بهم السبل، وغيرهم كثير. كانوا يلتقون عندها صدفة أو على موعد. خليط من الناس، اجناس مختلفة، ولغات عددا، وعقائد متباينة، وثقافات متعددة. بعض الناس لم يكن يحبذ ذلك. قالت لها يوماً ابنة أخ المواطن العربي الاول، الرئيس شكري القوتلي، مُبينة القوتلي، وهي من أوائل السوريات اللاتي ذهبن في مطلع الخمسينيات للدراسة العليا في اميركا فعرفت المجتمعات الهجين ذات الاعراق والمنابت المتعددة، ولما عادت إلى الفيحاء أسست مدرسة بيت العنادل بدمشق، حيث دَرَست سيدة المجالس في طفولتها ثم درّست فيها بعد أن شبت عن الطوق: لا تجمعي الناس من مشارب شتى على مائدة واحدة، استضيفي كل صنف على حدة. لكنها ردت على معلمتها قائلة: إن أجمل لوحات سورية هي لوحات الفسيفساء وأجمل أقمشة دمشق والعالم قاطبة هي الأغباني والبروكار الدمشقي بألوانها الزاهية. استضافت في منزلها عزيز قوم ممن التقت به في الطائرة وقد احمرت عيناه من البكاء لا يعرف أين يتجه في مدينة لم يرها من قبل، ولا يستطيع العودة إلى دياره، فقد اتت نيران الاخوة الاعداء على عدن في مستهل العام 1986. كانت أحياناً تترك المنزل لتفسح لقاصدي منزلها في المكان بأريحية منقطعة النظير. حينما سمعت بدار المايقوما، ملجأ مجهولي الأبوين، سعت إلى مد يد العون دون أن يدري أحد من أين أتى هذا العون، حتى أهل الدار والمشرفون عليه، هي التي لم تطأ قدماها تلك البلاد. أرادت فقط أن يصلهم عن طريق آمن ومأمون وأمين وموثوق. كانت تتلفت يمنة ويسرة قبل أن تجود حتى لا يراها أحد، فإن كان هناك من أحد، أحجمت وانتظرت حتى تتأكد أن لا أحد يراها وهي تعطي هذا أو تلك ما فيه النصيب. كانت من أهل العزم، لا يحول بينها وبين ما تريد حائل، أما المكارم فقد خلقت لها. وما زالت تتدفق جوداً وعطاء، بُعيد رحيلها الموجع، سقيا ماء نمير من بئر متفجرة في بلاد بعيدة تروي قرويين بعد مسغبة الاجيال. وما أظن المتنبي قصد غيرها، وإن قالها في حضرة سيف الدولة:
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
عند رحيلها فُتحت بيوت دعاء، لا مجالس عزاء، في أنحاء متفرقة من العالم وحيث هبت الريح، رفعت فيها الدعوات لها تضرعاً بكل الطقوس والالسن.
صلى الملائكة الذين تخيـروا والصالحـون عليك والابــرار وعليك من صلوات ربك كلما نصب الحجيج ملبدين وغاروا
أما حالنا، يا سيدة المجالس، من بعدك فهو كما روى الدكتور عبد الله الفكي البشير في مقدمته لكتاب الفيلسوف السوداني، محمد جلال هاشم "مفاكرات حول منهج التحليل الثقافي: الثقافة الدولة، الديموقراطية، الاستقلالية، الايدولوجيا، والافروعمومية"، من أبيات لهذا البحاثة الشاعر النبيه:
وقد كانت الاحزان عند اجترارها تولد عزماً في الفؤاد فيصمد فأصبحت الاحزان كأســـاً عتيقة يعـاقرها قلبي مـراراً فيســعد
لا أعرف إن كان وهماً أو اضغاث احلام أو صدى نعيق البوم أو هواجس الحزن والألم والضنى، إذ كأني اسمع وقع أقدام تقترب وخطىً عند المنحنى! رحمك الله واسكنك فسيح جنانه.