عن التغيير الذي لا يتغير!!
عبدالله مكاوي
27 July, 2023
27 July, 2023
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
بمجرد ان اعلنت قوي الحرية والتغيير المركزية، المتهمة بالقرب من الدعم السريع، عن اجتماع بالقاهرة، لتناول مستجدات ما بعد الحرب بين طرفي المكون العسكري. سارعت مكونات الحرية والتغيير المسمي بالكتلة الديمقراطية، لعقد اجتماع موسع بين مكوناتها وتحالفاتها لتناول ذات القضاية، ولكن من زاوية دعم حليفها الجيش. ولسان حال الحرية والتغيير النسخة المزيفة (الكتلة الديمقراطية)، كما لكم مخرجات نحن كذلك نستبقكم باعلان مخرجات، ومضاف لها تبكيت وتعريض ومزايدات (وما فيش حد احسن من حد).
وكان المنتظر من كلا الجناحين وغيرهما من المكونات السياسية والمدنية والاكاديمية، التداعي لبناء حلف عريض، يضغط من اجل ايقاف الحرب، وترتيب الاوضاع لما بعد الحرب. اي بما يخدم قضية معالجة آثار الحرب، ووضع اسس للتحول الديمقراطي والدولة المدنية ولو علي المدي الطويل، او اقلاه ما يضمن عدم انزلاق البلاد الي ما لا يحمد عقباه.
والحال كذلك، كان المأمول ان تعي هذه القوي الدرس، بعد اهوال الحرب وخسائرها، وما تنذر به من عواقب وخيمة علي مستقبل البلاد واهلها. اي باختصار ان تتغير هذه القوي وتفارق مربع الانشداد لذات المواقف والطروحات والشعارات المفارقة. والتي اسهمت ولو بقدر طفيف في الوصول لجحيم الحرب. لان النصيب الاكبر كما هو معلوم، يتحمله الكيزان كمؤسسين لارضية الحرب ومستفيدين من تسعيِّرها وعدم ايقافها. ومليشيا الدعم السريع التي اتخذتها وسيلة للاستيلاء علي السلطة واستباحة موارد البلاد واستحياء اهلها. والجيش بانصرافه عن دوره وتسليمه لمليشيات الدعم السريع، والانشغال بكنز المال والانشطة الاستثمارية، وقبل ذلك خضوعه لقادته الانقلابيين، اي السيطرة علي السلطة كمظلة لاحتكار الدولة.
وعموما من مجريات الاحداث والوقائع وإرجاع البصر الي الوراء، يبدو ان الثابت الوحيد لكل المنخرطين في الشأن العام، سواء احزاب سياسية او عساكر (منظمين او غير منظمين) او مكونات مدنية، انها لا تتغير رغم حديثها المكرور عن التغيير! وفي حال صدف وحدث لها تغيير، فهو غالبا نحو المزيد من تدهور مطلوبات التغيير. وهذا باعتبار تلك مطلوبات تتمثل في الدفع نحو المزيد من التحرر والتنظيم والمؤسسية والديمقراطية والاقتراب من هموم الجماهير وتقديم المصلحة العامة وتحمل المسؤولية..الخ. ومجمل هذا التقصير يصلح لدمغها بغير القابلة للتغيير!!
وعدم القابلية للتغيير او ممانعته، غالبا ما ترتد الي عدة اسباب منها:
اولا، بقاء ذات القيادات علي راس هذه المكونات دون تغيير، ومع مرور الوقت تتلاشي المسافة بين القيادة والمُكوِّن، لدرجة يصبح القائد هو المعبر عن المُكوِّن، وتاليا الدوران في ذات افكار وتطلعات القائد، او تحولها للمركز الذي تدور حوله كافة الانشطة. والحال كذلك، يصبح ليس هنالك مجال للانفلات من حكم العادة والانزياح نحو المبادرات الخاصة (محتكرة سلفا)، ومن ثمَّ الانفتاح علي تغييرات (بدائل وآليات واساليب عمل) واسعة هو في حكم المستحيل، طالما هنالك سقف تحدده امكانات وتطلعات القائد، والتي مهما اتسعت فهي ضيقة (لا يمكن ان تعادل امكانات فرد الآلاف مهما اوتي من قدرات، ولو حدث فهو استثناء في التاريخ، ناهيك ان غياب التنافس العادل يقمع المواهب ويثبط الابتكارات ويمهد للتكلس) لتتحول التغييرات الي مجرد ترقيعات ومظاهر زائفة، تفرضها بعض الضغوط الخارجية والتململات الداخلية. اما اذا صدف وحدث تغيير جذري، فهو ليس اكثر من انشقاق ينتج نسخة مشابهة لذات التنظيم، وبذات النوعية من القيادات، وبذات العجز عن احداث التغييرات المطلوبة. والمفارقة كلما كان التنظيم/المكون اكثر صلابة في ممانعة التغيير، كلما تعددت النسخ المنتجة منه، ولتنتهج ذات النهج الذي نسخت عنه. وغالبا هذا العجز عن احداث التغييرات علي المستوي الداخلي، لا يمنع التطور والمواكبة والفاعلية ويؤسس للاستبداد (عدم الرغبة ناهيك عن القدرة علي تغيير القيادة) فحسب، ولكنه بالاحري يجعل المكون/التنظيم اكثر عجزا عن احداث تغييرات في المجتمع والدولة، وهو الدور المنوط به. لدرجة ان مقولة فاقد الشئ لا يعطيه، اصبحت دارجة علي لسان كل من يتعرض لاعطاب الاحزاب وغيرها من المكونات المدنية المتصدية للشأن العام.
وثانيا، التمسك بالادبيات والمنطلقات المُؤَسِسَة، والتي من شدة تكرارها، وبغض النظر عن ملاءمتها للمستجدات، تتحول الي ثوابت غير مساءلة! اي مقولات ومخططات وتطلعات تتم عبادتها، خصوصا عندما تصل مرحلة منح الكيان هويته وكينونته، ليصبح المساس بها مساس بالكيان او لثم شرفه بلغة ذكورية.
اما المشكلة فتبرز عندما ياتي كل كيان بكينونته الي الفضاء العام، فعندها يحدث التصادم والاصح الصراع العدمي بين الكينونات (الهويات) التي لا تقبل انصاف الحلول، او يرتضي قادتها اي مركز سوي صدارة القوم! وعندها فقط يتضح مدي زيف الشعارات والاطروحات الحداثية التي تتظاهر بها، وتدعي الحرص علي اتباعها. وبكلام آخر الصراع في اصله صراع تخلف (حيازة انانية/طفولية كحق مستحق)، يتلبس صور (حزبية، عسكرية، عرقية) وازياء (ايدويولوجية) مختلفة، ولكنه يتمحور حول امتيازات السلطة وفرض ارادة التسلط علي الجميع. والحال كذلك، ليس بمستغرب ان يصل الصراع الي هذه المرحلة من الهمجية والانحطاط كوحوش في غابة او ما قبل التاريخ. اي بين قوي انقلابية ظلامية مسلحة لا تضع اعتبار للمواطنين وخياراتهم والبنية التحتية للدولة وقوانين الحرب. بمعني، الاستهتار بالمسؤولية الوطنية والتفريط من النخبة السياسية مبكرا (الفشل في مجرد ترسيخ علمانية الدولة)، سمح للكيان الاسلاموي العدمي بالتواجد والتمدد، رغم غربته عن المجتمع وغرابته علي الدولة، حتي قوي عوده واستولي علي السلطة بالانقلاب. ليعمل بعدها علي تغيير قوانيين اللعبة بحيث يقطع الطريق علي حدوث اي تغيير حقيقي يطال احوال المجتمع وبنية الدولة (ترقية الحياة والتصدي لمهام التقدم). وهذا التغيير في قوانين اللعبة احدث فراغ في المنافسة علي السلطة، بعد ان شوه طبيعتها، لتتحول الي غاية وجودية يرتبط بقاءها ببقاء الدولة. لتبرز مكونات علي ذات شاكلة الاسلامويين، والمقصود مليشيات الدعم السريع، لتنافسهم علي السلطة بذات ادواتهم واساليبهم، اي بامتلاك دولة موازية لدولتهم (الشئ الذي جعل الحرب الدائرة الآن، وكانها بين دولتين وليس كيانين داخل نفس الدولة). وهو ما يبرر القول ان الدعم السريع ما هو إلا سريرة الاسلامويين المعلنة، اي الوجه الاكثر استباحة وقباحة وتخلف للاسلامويين.
وثالثا، المجتمع المحافظ بطبعه ميال للاستقرار والتعايش مع كافة الظروف، ولذا يخشي التغيير مهما كان مردوده. وهنا تصبح العلاقة عكسية، اي بدل ان تنجز التنظيمات والكيانات المعنية بالشان العام، المقاربات الكفيلة بتغيير المجتمع، او الاخذ بيده نحو آفاق ارحب للحياة. نجد ان المجتمع القي بظلاله المحافظة (ممانعته) علي تلك الكيانات. وبتعبير آخر، لم تتخلص الكيانات من طبائع المجتمع التي تحتاج للاصلاح، حتي تصبح هي نفسها قادرة علي الاصلاح! وهو نفسه ما ينطبق علي السلطة المسؤولة والدولة الحديثة، اللتان تحتاجان لمعايير وضوابط ومواصفات معينة، بالتاكيد لم تتوافر لديها. وهو ما جعل الدوران في دائرة ذات الاخطاء، هو الفضاء الوحيد الذي تتحرك فيه. والسؤال الذي يفرض نفسه والحال كذلك، باي حق تتقدم المجتمع وتتحدث باسمه وتتطلع للتحكُّم فيه؟ وحتي لا يزايد احد بالتضحيات، ننبه الي ان المسألة لا تتعلق بالتضحيات وبذل المجهودات، بقدر ما تتعلق بالاهلية والتصورات. بدليل انه من ناحية التضحيات، حتي للاسلامويين تضحياتهم التي بذلوه لخدمة مشروعهم الاجرامي، وحرب الجنوب خير شاهد! بل حتي الدعم السريع بمشروعه النهبوي التخريبي، وتجرده من الاخلاقيات، فهو يقدم تضحيات بدماء مرتزقته وجنوده!
وهذا بدوره يقودنا لحقيقة انه ليس هنالك تغيير حقيقي من دون مساءلات لكل المسلمات. وبما في ذلك مسلمة الثورة التي تُعامل بحساسية زائدة كالطفلة البريئة! ليُطرح سؤال هل الثورة هي فعلا الطريق الاوحد للتغيير، وذلك في كل الاحوال والظروف؟ الا يمكن ان تقود الثورات لاوضاع اسوأ لما قبل الثورات؟ ونموذج ثورات الربيع العربي خير شاهد؟! وصحيح قد يقال ان هنالك اسباب لفشل هذه الثورات، وان اعداءها يتربصون بها، والقائمون علي امرها لم يضطلعوا بسؤولياتها! ولكن لذلك تحديدا تصبح مساءلة الثورة واجبة، طلما اسباب فشلها متعددة، وفرص نجاحها تكاد تلامس العدم! او هي من الهشاشة بمكان، بحيث ان فرص نجاحها تتطلب توافر عوامل عديدة ومتضامنة ومتزامنة بما يشبه الصدف!
اما السؤال الاكثر احراج وهو ما يخص سوداننا التعيس، وهو هل الثورة تملك امكانية النجاح في ظل وجود جيشين يتطلعان للسلطة، وحركات مسلحة تتكاثر كالفطريات، تبحث بدورها عن نصيبها في السلطة والثروة، واحزاب منهكة واقتصاد متهالك، ودولة تم افراغها من محتواها علي يد الاسلامويين؟ ولو تركنا كل هذا جانبا، اليست الثورة بطريقة او اخري، مسؤولة عن هذه الحرب الكارثية، ولو من باب اطلاق الطموحات من عقالها، سواء لقائد الدعم السريع او قائد الجيش المغمور، او تهديدها مباشرة لمصالح الاسلامويين ومن يقف خلف الدعم السريع في الخارج؟
وبالطبع لا يعني ذلك الاستسلام لاستبداد وفساد الاسلامويين وتمدد نفوذ وسطوة الدعم السريع، بقدر ما يعني تقدير قوة الخصوم وخطورتهم، ومن ثمَّ اختيار افضل السبل للحد من سيطرتهم، كمقدمة لتاسيس البديل. وهو ما يعني ان مشروع الهبوط الناعم الذي كنا نعتبره سُبة (ولطالما سببته مع السابين) هو محاولة اكثر عقلانية وعملية للتغيير المنشود، ولكن العلة ليست في مشروع الهبوط الناعم او خلافه، بقدر ما هي في الايمان بالتغيير الحقيقي ودفع استحقاقته، داخل الكيانات اولا، ومن بعدها الاندياح في الفضاء العام.
وعليه، يبدو ان ما نحتاجه كثير او مجهود مضاعف، يبدأ بالضغط لتغيير من يتصدي لشأن التغيير، حتي يستوفي كل شروط التغيير الحقيقي. وغالبا ذلك يمر بازاحة كل قادة الطبقة السياسية والعسكرية الراهنة، والمطالبة بتقديم قادة علي قدر المسؤولية والتحدي، ومشاريع وبرامج تتجاوب مع المتطلبات المجتمعية، والتزام كل مؤسسة بدورها وكل مسؤول بحدود سلطاته. ولكن كل ذلك يظل مطالب مؤجلة، طالما هنالك حرب دائرة تقضي علي الاخضر واليابس. وهو ما يعني ان مطلب ايقاف الحرب هو المطلب العاجل. وذلك لانه دون ايقافها لا يمكن عمل اي شئ او المطالبة باي شئ.
ولكن بعيدا الرغبات الحالمة، لا يمكن ايقاف الحرب دون ان يكون هنالك مصلحة للاطراف المتحاربة في ايقافها. اي ان نقبل العودة للمربع الاول او نقطة الصفر، ولكن بالاستفادة من تجربة الحرب. والمقصود بذلك، قبول الجيش وداعميه الاسلامويين والدعم السريع وداعميه الخارجيين في ترتيبات ما بعد الحرب.
وهنا ياتي دور الاستفادة من الحرب ومسيرة ما قبلها، اي الشغل علي الذات، والاستفادة من الاخطاء السابقة، بالعودة لمنصة التغيير الحقيقي. اي كل جهة مؤمنة بعملية التغيير، يجب ان تكون قدوة لعملية التغيير. ومن بعدها ان تملك رؤية واستعداد لبناء تحالف عريض لانجاز مشروع التغيير. ومؤكد ان اول خطوة تؤكد ان هنالك جدية للمضي قدما في مشروع التغيير، هي الانطلاق من نقطة تحديد التحديات (تركة الحرب والاستبداد والفساد) وافضل سبل التعامل معها (ليس بالضرورة الثورة) مع بذل اقصي درجة من الجهد (الارادة الحقيقية).
واخيرا
حفظ النفس مقدم علي ما تريد او يُراد بهذه النفس. ودمتم في رعاية الله.
//////////////////////////////
بسم الله الرحمن الرحيم
بمجرد ان اعلنت قوي الحرية والتغيير المركزية، المتهمة بالقرب من الدعم السريع، عن اجتماع بالقاهرة، لتناول مستجدات ما بعد الحرب بين طرفي المكون العسكري. سارعت مكونات الحرية والتغيير المسمي بالكتلة الديمقراطية، لعقد اجتماع موسع بين مكوناتها وتحالفاتها لتناول ذات القضاية، ولكن من زاوية دعم حليفها الجيش. ولسان حال الحرية والتغيير النسخة المزيفة (الكتلة الديمقراطية)، كما لكم مخرجات نحن كذلك نستبقكم باعلان مخرجات، ومضاف لها تبكيت وتعريض ومزايدات (وما فيش حد احسن من حد).
وكان المنتظر من كلا الجناحين وغيرهما من المكونات السياسية والمدنية والاكاديمية، التداعي لبناء حلف عريض، يضغط من اجل ايقاف الحرب، وترتيب الاوضاع لما بعد الحرب. اي بما يخدم قضية معالجة آثار الحرب، ووضع اسس للتحول الديمقراطي والدولة المدنية ولو علي المدي الطويل، او اقلاه ما يضمن عدم انزلاق البلاد الي ما لا يحمد عقباه.
والحال كذلك، كان المأمول ان تعي هذه القوي الدرس، بعد اهوال الحرب وخسائرها، وما تنذر به من عواقب وخيمة علي مستقبل البلاد واهلها. اي باختصار ان تتغير هذه القوي وتفارق مربع الانشداد لذات المواقف والطروحات والشعارات المفارقة. والتي اسهمت ولو بقدر طفيف في الوصول لجحيم الحرب. لان النصيب الاكبر كما هو معلوم، يتحمله الكيزان كمؤسسين لارضية الحرب ومستفيدين من تسعيِّرها وعدم ايقافها. ومليشيا الدعم السريع التي اتخذتها وسيلة للاستيلاء علي السلطة واستباحة موارد البلاد واستحياء اهلها. والجيش بانصرافه عن دوره وتسليمه لمليشيات الدعم السريع، والانشغال بكنز المال والانشطة الاستثمارية، وقبل ذلك خضوعه لقادته الانقلابيين، اي السيطرة علي السلطة كمظلة لاحتكار الدولة.
وعموما من مجريات الاحداث والوقائع وإرجاع البصر الي الوراء، يبدو ان الثابت الوحيد لكل المنخرطين في الشأن العام، سواء احزاب سياسية او عساكر (منظمين او غير منظمين) او مكونات مدنية، انها لا تتغير رغم حديثها المكرور عن التغيير! وفي حال صدف وحدث لها تغيير، فهو غالبا نحو المزيد من تدهور مطلوبات التغيير. وهذا باعتبار تلك مطلوبات تتمثل في الدفع نحو المزيد من التحرر والتنظيم والمؤسسية والديمقراطية والاقتراب من هموم الجماهير وتقديم المصلحة العامة وتحمل المسؤولية..الخ. ومجمل هذا التقصير يصلح لدمغها بغير القابلة للتغيير!!
وعدم القابلية للتغيير او ممانعته، غالبا ما ترتد الي عدة اسباب منها:
اولا، بقاء ذات القيادات علي راس هذه المكونات دون تغيير، ومع مرور الوقت تتلاشي المسافة بين القيادة والمُكوِّن، لدرجة يصبح القائد هو المعبر عن المُكوِّن، وتاليا الدوران في ذات افكار وتطلعات القائد، او تحولها للمركز الذي تدور حوله كافة الانشطة. والحال كذلك، يصبح ليس هنالك مجال للانفلات من حكم العادة والانزياح نحو المبادرات الخاصة (محتكرة سلفا)، ومن ثمَّ الانفتاح علي تغييرات (بدائل وآليات واساليب عمل) واسعة هو في حكم المستحيل، طالما هنالك سقف تحدده امكانات وتطلعات القائد، والتي مهما اتسعت فهي ضيقة (لا يمكن ان تعادل امكانات فرد الآلاف مهما اوتي من قدرات، ولو حدث فهو استثناء في التاريخ، ناهيك ان غياب التنافس العادل يقمع المواهب ويثبط الابتكارات ويمهد للتكلس) لتتحول التغييرات الي مجرد ترقيعات ومظاهر زائفة، تفرضها بعض الضغوط الخارجية والتململات الداخلية. اما اذا صدف وحدث تغيير جذري، فهو ليس اكثر من انشقاق ينتج نسخة مشابهة لذات التنظيم، وبذات النوعية من القيادات، وبذات العجز عن احداث التغييرات المطلوبة. والمفارقة كلما كان التنظيم/المكون اكثر صلابة في ممانعة التغيير، كلما تعددت النسخ المنتجة منه، ولتنتهج ذات النهج الذي نسخت عنه. وغالبا هذا العجز عن احداث التغييرات علي المستوي الداخلي، لا يمنع التطور والمواكبة والفاعلية ويؤسس للاستبداد (عدم الرغبة ناهيك عن القدرة علي تغيير القيادة) فحسب، ولكنه بالاحري يجعل المكون/التنظيم اكثر عجزا عن احداث تغييرات في المجتمع والدولة، وهو الدور المنوط به. لدرجة ان مقولة فاقد الشئ لا يعطيه، اصبحت دارجة علي لسان كل من يتعرض لاعطاب الاحزاب وغيرها من المكونات المدنية المتصدية للشأن العام.
وثانيا، التمسك بالادبيات والمنطلقات المُؤَسِسَة، والتي من شدة تكرارها، وبغض النظر عن ملاءمتها للمستجدات، تتحول الي ثوابت غير مساءلة! اي مقولات ومخططات وتطلعات تتم عبادتها، خصوصا عندما تصل مرحلة منح الكيان هويته وكينونته، ليصبح المساس بها مساس بالكيان او لثم شرفه بلغة ذكورية.
اما المشكلة فتبرز عندما ياتي كل كيان بكينونته الي الفضاء العام، فعندها يحدث التصادم والاصح الصراع العدمي بين الكينونات (الهويات) التي لا تقبل انصاف الحلول، او يرتضي قادتها اي مركز سوي صدارة القوم! وعندها فقط يتضح مدي زيف الشعارات والاطروحات الحداثية التي تتظاهر بها، وتدعي الحرص علي اتباعها. وبكلام آخر الصراع في اصله صراع تخلف (حيازة انانية/طفولية كحق مستحق)، يتلبس صور (حزبية، عسكرية، عرقية) وازياء (ايدويولوجية) مختلفة، ولكنه يتمحور حول امتيازات السلطة وفرض ارادة التسلط علي الجميع. والحال كذلك، ليس بمستغرب ان يصل الصراع الي هذه المرحلة من الهمجية والانحطاط كوحوش في غابة او ما قبل التاريخ. اي بين قوي انقلابية ظلامية مسلحة لا تضع اعتبار للمواطنين وخياراتهم والبنية التحتية للدولة وقوانين الحرب. بمعني، الاستهتار بالمسؤولية الوطنية والتفريط من النخبة السياسية مبكرا (الفشل في مجرد ترسيخ علمانية الدولة)، سمح للكيان الاسلاموي العدمي بالتواجد والتمدد، رغم غربته عن المجتمع وغرابته علي الدولة، حتي قوي عوده واستولي علي السلطة بالانقلاب. ليعمل بعدها علي تغيير قوانيين اللعبة بحيث يقطع الطريق علي حدوث اي تغيير حقيقي يطال احوال المجتمع وبنية الدولة (ترقية الحياة والتصدي لمهام التقدم). وهذا التغيير في قوانين اللعبة احدث فراغ في المنافسة علي السلطة، بعد ان شوه طبيعتها، لتتحول الي غاية وجودية يرتبط بقاءها ببقاء الدولة. لتبرز مكونات علي ذات شاكلة الاسلامويين، والمقصود مليشيات الدعم السريع، لتنافسهم علي السلطة بذات ادواتهم واساليبهم، اي بامتلاك دولة موازية لدولتهم (الشئ الذي جعل الحرب الدائرة الآن، وكانها بين دولتين وليس كيانين داخل نفس الدولة). وهو ما يبرر القول ان الدعم السريع ما هو إلا سريرة الاسلامويين المعلنة، اي الوجه الاكثر استباحة وقباحة وتخلف للاسلامويين.
وثالثا، المجتمع المحافظ بطبعه ميال للاستقرار والتعايش مع كافة الظروف، ولذا يخشي التغيير مهما كان مردوده. وهنا تصبح العلاقة عكسية، اي بدل ان تنجز التنظيمات والكيانات المعنية بالشان العام، المقاربات الكفيلة بتغيير المجتمع، او الاخذ بيده نحو آفاق ارحب للحياة. نجد ان المجتمع القي بظلاله المحافظة (ممانعته) علي تلك الكيانات. وبتعبير آخر، لم تتخلص الكيانات من طبائع المجتمع التي تحتاج للاصلاح، حتي تصبح هي نفسها قادرة علي الاصلاح! وهو نفسه ما ينطبق علي السلطة المسؤولة والدولة الحديثة، اللتان تحتاجان لمعايير وضوابط ومواصفات معينة، بالتاكيد لم تتوافر لديها. وهو ما جعل الدوران في دائرة ذات الاخطاء، هو الفضاء الوحيد الذي تتحرك فيه. والسؤال الذي يفرض نفسه والحال كذلك، باي حق تتقدم المجتمع وتتحدث باسمه وتتطلع للتحكُّم فيه؟ وحتي لا يزايد احد بالتضحيات، ننبه الي ان المسألة لا تتعلق بالتضحيات وبذل المجهودات، بقدر ما تتعلق بالاهلية والتصورات. بدليل انه من ناحية التضحيات، حتي للاسلامويين تضحياتهم التي بذلوه لخدمة مشروعهم الاجرامي، وحرب الجنوب خير شاهد! بل حتي الدعم السريع بمشروعه النهبوي التخريبي، وتجرده من الاخلاقيات، فهو يقدم تضحيات بدماء مرتزقته وجنوده!
وهذا بدوره يقودنا لحقيقة انه ليس هنالك تغيير حقيقي من دون مساءلات لكل المسلمات. وبما في ذلك مسلمة الثورة التي تُعامل بحساسية زائدة كالطفلة البريئة! ليُطرح سؤال هل الثورة هي فعلا الطريق الاوحد للتغيير، وذلك في كل الاحوال والظروف؟ الا يمكن ان تقود الثورات لاوضاع اسوأ لما قبل الثورات؟ ونموذج ثورات الربيع العربي خير شاهد؟! وصحيح قد يقال ان هنالك اسباب لفشل هذه الثورات، وان اعداءها يتربصون بها، والقائمون علي امرها لم يضطلعوا بسؤولياتها! ولكن لذلك تحديدا تصبح مساءلة الثورة واجبة، طلما اسباب فشلها متعددة، وفرص نجاحها تكاد تلامس العدم! او هي من الهشاشة بمكان، بحيث ان فرص نجاحها تتطلب توافر عوامل عديدة ومتضامنة ومتزامنة بما يشبه الصدف!
اما السؤال الاكثر احراج وهو ما يخص سوداننا التعيس، وهو هل الثورة تملك امكانية النجاح في ظل وجود جيشين يتطلعان للسلطة، وحركات مسلحة تتكاثر كالفطريات، تبحث بدورها عن نصيبها في السلطة والثروة، واحزاب منهكة واقتصاد متهالك، ودولة تم افراغها من محتواها علي يد الاسلامويين؟ ولو تركنا كل هذا جانبا، اليست الثورة بطريقة او اخري، مسؤولة عن هذه الحرب الكارثية، ولو من باب اطلاق الطموحات من عقالها، سواء لقائد الدعم السريع او قائد الجيش المغمور، او تهديدها مباشرة لمصالح الاسلامويين ومن يقف خلف الدعم السريع في الخارج؟
وبالطبع لا يعني ذلك الاستسلام لاستبداد وفساد الاسلامويين وتمدد نفوذ وسطوة الدعم السريع، بقدر ما يعني تقدير قوة الخصوم وخطورتهم، ومن ثمَّ اختيار افضل السبل للحد من سيطرتهم، كمقدمة لتاسيس البديل. وهو ما يعني ان مشروع الهبوط الناعم الذي كنا نعتبره سُبة (ولطالما سببته مع السابين) هو محاولة اكثر عقلانية وعملية للتغيير المنشود، ولكن العلة ليست في مشروع الهبوط الناعم او خلافه، بقدر ما هي في الايمان بالتغيير الحقيقي ودفع استحقاقته، داخل الكيانات اولا، ومن بعدها الاندياح في الفضاء العام.
وعليه، يبدو ان ما نحتاجه كثير او مجهود مضاعف، يبدأ بالضغط لتغيير من يتصدي لشأن التغيير، حتي يستوفي كل شروط التغيير الحقيقي. وغالبا ذلك يمر بازاحة كل قادة الطبقة السياسية والعسكرية الراهنة، والمطالبة بتقديم قادة علي قدر المسؤولية والتحدي، ومشاريع وبرامج تتجاوب مع المتطلبات المجتمعية، والتزام كل مؤسسة بدورها وكل مسؤول بحدود سلطاته. ولكن كل ذلك يظل مطالب مؤجلة، طالما هنالك حرب دائرة تقضي علي الاخضر واليابس. وهو ما يعني ان مطلب ايقاف الحرب هو المطلب العاجل. وذلك لانه دون ايقافها لا يمكن عمل اي شئ او المطالبة باي شئ.
ولكن بعيدا الرغبات الحالمة، لا يمكن ايقاف الحرب دون ان يكون هنالك مصلحة للاطراف المتحاربة في ايقافها. اي ان نقبل العودة للمربع الاول او نقطة الصفر، ولكن بالاستفادة من تجربة الحرب. والمقصود بذلك، قبول الجيش وداعميه الاسلامويين والدعم السريع وداعميه الخارجيين في ترتيبات ما بعد الحرب.
وهنا ياتي دور الاستفادة من الحرب ومسيرة ما قبلها، اي الشغل علي الذات، والاستفادة من الاخطاء السابقة، بالعودة لمنصة التغيير الحقيقي. اي كل جهة مؤمنة بعملية التغيير، يجب ان تكون قدوة لعملية التغيير. ومن بعدها ان تملك رؤية واستعداد لبناء تحالف عريض لانجاز مشروع التغيير. ومؤكد ان اول خطوة تؤكد ان هنالك جدية للمضي قدما في مشروع التغيير، هي الانطلاق من نقطة تحديد التحديات (تركة الحرب والاستبداد والفساد) وافضل سبل التعامل معها (ليس بالضرورة الثورة) مع بذل اقصي درجة من الجهد (الارادة الحقيقية).
واخيرا
حفظ النفس مقدم علي ما تريد او يُراد بهذه النفس. ودمتم في رعاية الله.
//////////////////////////////