بمثلما يُعرَّف الإنسان عادة بأنه حيوانٌ ناطقٌ ، لتميزه بخاصية التواصل عن طريق اللغة ، أو بالأحرى لاعتقاده أنه هو الكائن الحي الوحيد الذي يمتاز بهذه الميزة ، فإنه يُعرَّف أيضاً بأنه حيوانٌ ضاحك ، وذلك نظراً لشيوع هذه الصفة أيضاً في جميع أعراقه وأجناسه المنتشره في شتى بقاع المعمورة. وعالَمُ الضحك والإضحاك مرتبطٌ بالضرورة بدنيا الفُكاهة والمُلَح والطرائف والسُخرية والمفارقات وهلم جرَّا ، وهي لعمري متلازمات لم يخلُ عنها مجتمع ما من المجتمعات الإنسانية قديماً وحديثاً فيما نظن. هنالك بالتأكيد ، بعض المُحدِّدات والكوابح والسياقات الثقافية الاجتماعية والطبقية والمهنية والعمرية والفئوية والجنسانية ) المتعلقة بالنوع الاجتماعي أو الجندر ( ، التي تُحدِّد وتُكيِّف العلاقة بعالم الطرائف والفكاهة عموماً صناعة وتجاوباً. فعلى سبيل المثال: أنَّ مشهد الشخص الذي يسقط من حمار جامح مثلاً ، أو تزلّ به قدمه فينزلق في الطين فيسقط على الأرض ، قد يثير ضحك الصبية والأطفال وبعض الشباب في مجتمعاتنا ، ولكن الناس الكبار غالباًما ينظرون إلى ذلك بنحو مختلف ، إذ يكون شعورهم التلقائي هو القلق على سلامة الشخص المعني والتعاطف معه ، وقد يسارعون إلى مساعدته على النهوض ، ومواساته والاطمئنان على صحته و سلامته أولا. ولكن تظل الحقيقة القائمة التي لا مجال لإنكارها البتة ، بأن أية جماعة بشرية ، بالغة ما بلغ أفرادها من الصرامة والجدية والرزانة ، أو حتى التنسُّك والتديُّن ، ومها كان اعتناقها لهذا الدين أو ذاك ، أو انتماؤها إلى هذه النحلة أو تلك ، فلا بد أن المرء واجدٌ فيها قدراً ما ، إلى درجة تقل أو تكثر من عالم المُلح والطرائف. ففي تراثنا الإسلامي على سبيل المثال ، تفيدنا الروايات المتواترة عن سير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أن أحد أصحابه عليه السلام ، اسمه " نُعيمان " ، قد كان رجلاً مشهوراً بالفكاهة والطُرفة ، وقد حفظت لنا كتب السيرة والأحاديث بعضاً من مواقفه وأقوله الطريفة والمضحكة ، التي عُهدت عنه أمام النبي الكريم نفسه ، فاستطرفها منه هو وأصحابه ، ولم ينكرها عليه. ومع تسليمنا بأن الفكاهة والمُلح والطرائف أمرٌ شائع لم يخل منه بلد من البلدان ، ولا مجتمع من المجتمعات كما أسلفنا ، إلا أننا نسمع بالفعل أن هذا الشعب الفلاني أو ذاك بالتحديد ، خفيف الروح ومُولعٌ بالنكتة. هكذا يصف السودانيون– على سبيل المثال – إخوانهم وجيرانهم المصريين ، وخصوصاً عندما يقارنون أنفسهم هم بهم ، وعلى نحو أخص في سابق عهدهم ، عندما كان السودانيون يميلون إلى الجد والوقار الذي يقرب من العبوس ، والترفع عن الإفراط في الهزل والضحك ، بحجة أنها تذهب بالمروءة. وكأني بالسودانيين قد تمثلوا قول شاعرتهم الشعبية المُغنية ، إذ تمتدح فارسها النموذجي بقولها: ندهتَ ليك الغفَّارْ الاصم يا تارك الهظارْ!! ثم قولها في مقطع آخر من ذات الأغنية: ندهت ليك الصُلاَّح الاصم يا تارك المزاح هو الليلة من الموت ما بِهِمْ ولكنَّ كل ذلك أو كثير منه قد راح ومضى مع الزمن ، وصار السودانيون من بعد عموماً ، من أبرع الشعوب في صناعة النكتة وتذوقها كذلك. لقد نشأ أبناء جيلنا وترعرعوا في صباهم وبواكير شبابهم داخل السودان بحلول أواخر سبعينيات القرن الماضي وأوائل الثمانينيات منه ، مع أوج مشروع الكوميديان الرائد الأستاذ الفاضل سعيد رحمه الله ، وتزامن ذلك خصوصا مع ظهور مسرحياته الكبيرة مثل " أكل عيش " وغيرها ، كما شهدوا ظهور وتطور فرقة الأصدقاء المسرحية ، والانطلاقة القوية للفنان علي مهدي مع مسرحية " هو وهي " ، كما شهدوا وتابعوا إبداعات سائر الفرق والجماعات المسرحية الكوميدية التي تعاقبت بعد ذلك ، مثل فرقة الأستاذ جمال حسن سعيد ورفاقه ، وفرقة تيراب ، وفرقة الهيلاهوب ، وغيرها من الفرق ، واستمتعوا بأعمالهم الكوميدية الرائعة. أما على مستوى الدراما الكوميدية في العالم العربي ، فقد ظل جيلنا وفياً ، بل مديناً بالولاء التام وشبه الحصري تقريباً ، لمجموعة )مدرسة المشاغبين ( وعلى رأسها الزعيم عادل إمام ومجايليه: سعيد صالح ، ويونس شلبي ، وأضرابهم مثل: وحيد سيف ، وأحمد بدير ، ونجاح الموجي ، وسيد زيان ، ومحمد صبحي ، ومحمد نجم ، كما عايش جيلنا طرفاً من إبداعات بعض الفنانين الكبار الذين سبقوا هؤلاء في هذا المجال مثل: فؤاد المهندس ، وعبد المنعم مدبولي ، وحسن مصطفى ، ومحمد عوض ، وسمير غانم ، وجورج سيدهم الذي رحل عن دنيانا مؤخرا. ثم لما دخلت الألفية الثالثة ، شغلتنا الحياة ، وصرفتنا صوارفها الكثيرة عن متابعة الحركة المسرحية برمتها. وكبر أولادنا قليلاً ، فاحتكروا التلفزيون نفسه وركبوا فيه أجهزة البلى ستيشان ، وحرمونا من مشاهدته بالكلية أو كادوا. ومع ذلك ظلوا عبثاً يحاولون لفت أنظارنا إلى نجومهم هم في دنيا الكوميديا الذين لم تتح لنا الفرصة الكافية لمشاهدة أعمالهم مثل: محمد هنيدي ، وهاني رمزي ، ومحمد سعد " اللمبي " ، وأحمد حلمي ، وعلاء ولي الدين ، وماجد الكدواني ، وطلعت زكريا ، ويوسف عيد ، على الرغم من أن هذا الأخير لا يُعتبر من فئة الشباب في الواقع من حيث السن ، ولكن ومضاته الإبداعية الحقيقية في مجال الكوميديا قد سطعت معهم خلال العقدين الأخيرين ، مثل الأستاذ حسن حُسنى نوعاً ما. وأخيراً أفلح أبنائي في نزع غشاء ولائي وتعصبي لتيار مدرسة المشاغبين عن عيني ، ونجحوا بعد إلحاح من جانبهم في إبقائي أمام الشاشة لمشاهدة أعمال لبعض من ذكرت من الفنانين الشباب ، فأدركت بالفعل أنني أمام مواهب فذة وبراعة استثنائية في الامتاع والإضحاك. كنا نجلس جميعنا في الصالون لساعات طويلة قبالة الشاشة الكبيرة الذكية ، وكان الأولاد يفعلون كل شئ وحدهم ، يستخرجون ما طاب لهم من الأفلام من موقع يوتيوب إما مباشرة من الشاشة ، أو في هواتفهم النقالة ويحيلونها عن طريق البلوتوث إلى تلك الشاشة ، وتلك لعمري هي أشياء لا طاقة لي بها ، ولا صبر لي عليها ، وكل ميسر لما خُلق له. وهكذا شاهدنا معاً بتلك الطريقة ،أفلام: " عسكر في المعسكر " و " تيتة رهيبة " ، و" أمير البحار " ، و " وش إجرام " و " فول الصين العظيم " و " مبروك أبو العلمين حمودة " لمحمد هنيدي ، و " صباحو كدب " لأحمد آدم ، و" كده رضا " لأحمد حلمي ، نحواً من ثلاثين مرة) بدون مبالغة (!!لكل واحد منها خلال الأعوام الماضية. وحمدت لأبنائي– على كل حال - أنهم قد ألحقوني بركب هذا التيار الزاخر بالإبداع والإمتاع من الكوميديا العربية المعاصرة ، فطفقتُ أشاركهم متى ما أُتيح لي ذلك ، في تتبع أخبار نجومها وأنشطتهم ومختلف تطورات حياتهم الاجتماعية. فقد حزنت غاية الحزن مثلاً ، لسماعي نبأ رحيل الفنان " يوسف عيد " قبل بضعة أعوام ، هذا الفنان الكوميديان الاستثنائي ، الذي كان ينطوي على طاقة ابداعية هائلة في مجال الكوميديا ، لم يخرج منها إلى الناس إلا القليل منها في تقديري الخاص. على أنني لاحظت أن هنالك ظاهرة عامة انتظمت العديد من الأعمال السينمائية الكوميدية المصرية ، التي ظهرت خلال العقدين الماضيين ، ألا وهي استخدام التورية أو النكتة التي تعتمد على اللعب بالألفاظ في عناوين الكثير من الأفلام. فكان من بعض العناوين التي رصدتها في هذا المجال على سبيل المثال فقط ، الأفلام التالية: - " الناظر صلاح الدين " لعلاء ولي الدين وحسن حسني ، ففي هذا العنوان إحالة إلى عنوان فيلم شهير للمخرج يوسف شاهين " الناصر صلاح الدين " ظهر في خمسينيات القرن الماضي. - " فول الصين العظيم " لمحمد هنيدي من " سور الصين العظيم ". - " غش الزوجية " بطولة رامز جلال ودنيا سمير غانم ، من " عش الزوجية ". - " سامي أكسيد الكربون " لهاني رمزي ، من " ثاني أكسيد الكربون " الغاز المعروف. - " لخمة راس " بطولة أشرف عبد الباقي وأحمد رزق ، من قولهم: " لحمة راس ". - " كلبي دليلي " بطولة سامح حسين ومي كسَّاب ، من عبارة: " قلبي دليلي " - " ظرف طارق " لأحمد حلمي ، من قولهم: " ظرف طارئ " وهذا هو بحسب مقتضيات اللهجة المصرية القاهرية التي تنطق القاف همزة. - " سطو مثلث " بطولة أحمد السعدني وسعيد طرابيك ، من عبارة: " سطو مسلح ".
ومهما يكن من شئ ، فإن الإفراط في هذا النهج من عنونة الأعمال الكوميدية المختلفة من أفلام ومسرحيات بهذا الأسلوب ، يمثل في نظرنا دليل ضعف وسلبية ، إذ أنه يشي بنوع من الرغبة في تملُّق المشاهد ، وإغرائه ، بل وزغزغته " كلكلته " مسبقاً لإضحاكه على العنوان ، قبل أن يشاهد العمل المعني ، لكي يرى ويسمع هل فيه ما يُضحك حقيقةً أم لا. وختاماً بهذه المناسبة ، يعجبني اتكاء مؤلفي الدراما السودانية أحياناً ، على التراث الثقافي السوداني سواء كان ريفياً أو حضريا ، في عنونة بعض الأعمال المسرحية ، خصوصاً لجهة ما تنطوي عليه من طرافة وكثافة تعبيرية. وفي الذاكرة من هذا النوع من العناوين المثيرة والجاذبة مسرحية: " موت الضان " ، ومسرحية " بيت بت المِنى بت مساعد " من الفئة الريفية ، ومسرحية " ستة / صفر " للفنان عوض شكسبير التي تحيل إلى عالم كرة القدم من الفئة الحضرية ، وذلك على سبيل المثال فقط. فموت الضان ، هو كناية عن الموت الجماعي الذريع الذي لا هوادة فيه ، وهو ما يحدث للضأن عندما تجتاحه جائحة أو يتفشى فيه مرض ما ، أو يهاجمه سرب من الذئاب ، بسبب جُبن الخراف والنعاج وغبائها ، وخصوصاً من جراء بقائها متجمِّعة ومتلاصقة ، وعدم التزامها بمقتضيات التباعد الاجتماعي التي يكثر الحديث عنها هذه الأيام ، وذلك بعكس الماعز الذكية وحسنة التصرف ، وذات الميل الغريزي نحو استقلال الشخصية ، والسلوك الفرداني ، مما يمكنها من التكيُّف مع أية بيئة ، والنجاة و " المخارجة " عندما يقتضي الأمر ذلك. وبالطبع فإن العنوان ستة / صفر الذي يحيل الى عالم مباريات كرة القدم ، يعبر عن هزيمة منكرة وخسارة فادحة يعرفها المشتغلون بهذا المجال ، ولذلك فنحن نتوقع أن تكون تلك المسرحية التي حملت هذا العنوان ، مجسدة فعلاً لهذا المعنى الذي هدف إليه مؤلفها بالضبط.