عن محمد صديق والإمام الأكبر وأشتات من ذكريات جامعة الخرطوم
Khaldoon90@hotmail.com
قُبلنا طلاّباً بجامعة الخرطوم الجميلة ومستحيلة ، في العام الدراسي 1979\1980م ، وألفينا الجو السياسي على المستوى الوطني في البلاد هادئاً عموماً، والمزاج العام رائقاً إلى حد ما عامئذ ، وذلك صبيحة ما عُرفت حينئذ بالمصالحة الوطنية وما أعقبها من انفراج نسبي في العلاقات بين سائر القوى السياسية المؤثرة داخل تنظيم " الجبهة الوطنية " المعارضة ، وسلطة النظام المايوي الذي كان قائماً ومسيطراً عهدئذ.
وهكذا مكثنا طلاباً بالجامعة جُل سني النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي ، حتى اذا اندلعت انتفاضة أبريل 1985م ، وجدتنا خريجين أسوياء ، بل سرعان ما صار معظمنا أفندية وموظفين في أمان الله في ذلك الزمان الجميل حقا.
وقد كانت جامعة الخرطوم عصرئذ ، خفيفة الظل والروح ، تمور بحركة سياسية وثقافية وفنية وفكرية متعددة المشارب والألوان ، وفي غاية الثراء والخصوبة ، بل لعلنا تعلمنا مما كانت تتسمعه وتتسقطه آذاننا ، وتحتقبه ذواكرنا وعقولنا الغضة آنئذ من خطب وأفكار ومعلومات وآراء وأحاديث وملح ونوادر وترهات أيضاً ، من على ساحاتها وعرصاتها ومسارحها في شتى الميادين والمجالات ، أكثر مما تعلمناه داخل المحاضرات أنفسها.
وكنا شأننا شأن رصفائنا من الطلاب المقبولين بالجامعة للتو في ذلك العام ، أو من كانوا يُعرفون ب " البرالمة " أي المبتدئين ، والقادمين عليها من شتى أرجاء السودان ، إنما نتوسل للتعرف والتواصل والتعاطي مع الواقع الاجتماعي لمجتمع الجامعة الجديد علينا لأول عهدنا بها ، عن طريق أقاربنا و أبناء مناطقنا الأصلية ، أو زملائنا المتقدمين علينا بالمدارس الثانوية ، الذين سبقونا إلى دخول الجامعة بكلياتها المختلفة. وقد كان هؤلاء بالنسبة إلينا ، بمثابة الأدلاّء أو الهُداة ، بل العرّابين الذين كان يتعين عليهم أن يأخذوا بأيادينا في أناة ورفق ، في دروب ذلك العالم الجديد والمثير في نظرنا.
كان مولانا " صديق الزاكي " ، ابن منطقتي وزميلي الذي كان يتقدمني بعامين دراسيين في مدرسة خورطقت الثانوية العليا ، فضلاً عن أن شقيقه الأصغر الأخ الدكتور " مجتبى الزاكي " قد ظل صديقي الأثير وزميل دراستي وابن فصلي في جميع المراحل الدراسية ، هو السبب في صلات عامرة حقاً ، ما يزال أريج ذكراها العطرة يضوع في دواخلي ، جمعتني بثلة معتبرة من طلاب كلية القانون المجاورة لكليتنا الآداب.
كان أخونا صديق إذن ، هو قطب رحى تلك الكوكبة النيرة من معارفي وأصدقائي بكلية القانون ، وخصوصاً الجدد منهم آنئذ ، إذ كان بعضهم معروفا لدي منذ عهد الطلب بخورطقت. وقد كانت تلك مجموعة قد جمعت وألفت بين أفرادها صفات الظرف والكياسة والفطنة وطلاوة الحديث وروح الدعابة والمرح والمزاح البرئ. .. تلك لعمري شخصيات وأسماء مثل: الأمين مستور ، وعباس علي عبد الله رحمه الله ، وأبو سفيان الباقر ، ومزمل عبد الله ، والحاج حمدت الله ، وطارق محمد الحسن " الفكر " ، وعبد الله الصافي ، وشاكر دهب ، وحسن حاج علي ، وبدر الدين عبد الله ، وحسين الفكي ، ومحمد علي أبو سبيحة ، ثم واسطة عقدهم وريحانة مجلسهم رغم أنه كان أصغرهم سناً وحجماً أيضا ، مولانا " محمد صديق محمد صالح ".
جاء أخونا " محمد صديق " إلى كلية القانون من مدرسة كوستي الثانوية العليا في عام 1979 ، أي في نفس العام الذي دخلنا فيه الجامعة ، وهو من أبناء " تندلتي " ، تلك البلدة التي تقع في منزلة بين منزلتين ، أعني شرق كردفان والنيل الأبيض. ولذلك فقد جمع قاطنوها بين بساطة أهل كردفان وطيبتهم وأريحيتهم ، وبين " نجاضة " أهل البحر ، وحزمهم ، وحسن تدبيرهم.
وقد كان محمد صديق – وما يزال بالطبع – يمتاز بالفطنة والذكاء المفرط ، واللباقة ، وحسن الحديث ، والتهذيب ، والحياء ، والظرف ، وحس الفكاهة العالي في غير ابتذال. ولكل ذلك ، فقد كان ريحانة مجالس حقيقي ، لا يُملُّ حديثه مطلقا. كنا كثيراً ما نأوي مع بعض أفراد تلك الكوكبة التي ذكرتها ، وعلى رأسهم صديق الزاكي ومحمد صديق أحدهما أو كلاهما ، فنجلس في موضع استراتيجي مرموق من ذلك السور أو الحاجز القصير المبني من الطوب الأحمر ، على طول ما كان يُعرف بشارع النشاط. إنه ذلك الحاجز أو السور الواطئ الذي كان يلقبه طلاب الجامعة ب " ظهر الثور " تشبيهاً له به. ولعمري فإن ظهر الثور الذي كان يقع خلف كلية القانون من الناحية الغربية منها بالتحديد ، لهو من أنسب الأماكن التي كانت تتيح مشهداً بانورامياً رائعاً بالنسبة للمشاهد والماسح البصري لحركة الرائحين والغادين من الطلبة والطالبات وغيرهم من مرتادي الجامعة زرافاتٍ ووحدانا ، وخصوصاً في الأمسيات الشفيفة ، عندما كان شارع النشاط يمور بالأضواء والشباب والألق ، ويعبق بكل ضروب الطيوب الحلوة ، ولسان حال بعض أولئك الماسحين البصريين يردد من على ظهر الثور مع الشاعر حسن عوض أبو العلا مما يغنيه الفنان الكبير سيد خليفة:
أي سربٍ يتهادى
بين أفياء الظلال
يتثنى ويغني في دلال
مثل عنقود تدلّى
بشغاف القلب مال
وطوراً مع الشاعر الكبير مصطفى سند مما يغنيه المطرب محمد مرغني:
حلاتك وانت ماشية براك
ماشية براك
شايلة الدنيا بأسرارا وبالفيها
عشان خاطرنا .... !
كنا نجلس إذاً في بعض تلك الأمسيات الندية على ذلك الموضع من " ظهر الثور " ، فنأخذ قسطاً طويلاً من الليل نتجاذب خلاله أطراف الحديث ، ونخوض في ألوان شتى من الجد والهزل ، جامعة ما بين أحاديث متباينة في القانون والسياسة والدين والاقتصاد والشعر والأدب ، وقضايا الساعة العامة على الساحات المحلية والإقليمية والدولية. وكان يختلف إلينا في مجلسنا ذاك أحياناً ، أخوة وأصدقاء آخرين ، يذهبون بعض مذهبنا من كليات أخرى ، أذكر من بينهم أخانا وصديقنا الوفي الرجل " الدهري " الأستاذ محمد القاسم محمد.
وقد يعرج بنا أخونا صديق الزاكي أحياناً إلى بعض شجونهم الأكاديمية الخاصة بكلية القانون ، فيمتعنا بطرائف مما كان يدور داخل قاعات المحاضرات بها ، من مثل سؤال شيخ الضرير له في محاضرات الشريعة: " يا صديق .. عرّف الغَرَرْ !! " .. أو " ما هو تعريف الجَدّة الفاسدة في المواريث ؟ " .. فنعجب نحن ونضحك من أمثال تلك الطلسمات.
وعلى ذكر شيخ الضرير رحمه الله تعالى ، وهو العلامة النحرير ، الشيخ البروفيسور الصديق محمد الأمين الضرير 1918 – 2015م، أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية القانون بجامعة الخرطوم سابقاً ، والحائز على جائزة الملك فيصل في الدراسات الإسلامية في عام 1990م ، والذي كان أحد خمسة أساتذة كبار فقط بجامعة الخرطوم كلها آنئذ ، بلغوا مرتبة الأستاذ الممتاز مدى الحياة Emeritus Professor ، فإنني قد كنت من فرط تعلقي بأصدقائي طلاب القانون ، وتقديري لعلمهم وفضلهم ، أكاد أحفظ معهم أسماء أساتذتهم آنئذ ، وكنت معجباً بصفة خاصة بأستاذهم الهندي ، المديد القوام ، والمفرط الأناقة ، والمهيب الطلعة ، البروفيسور كرشنا فازديف ، الذي كنت أشبهه بالممثل الشهير " شامي كابور ".
هذا ، وربما رفع صديق الزاكي عقيرته مترنماً في صوت خفيض وشجي ونحن في ذلك المجلس ، بمقاطع من مدحة الشيخ محمد ود اب خشيبة:
المحبّكْ جنَّ
شوقك يا ام قُلّة
فيك رياض الجنّة
نارو حارقة وِجنّا
وقد كان معجباً بصفة خاصة ، ومستطرفاً لقول المادح:
الشويهة العجفا
درّتْ الألبان
للحليم ما بيجفا ... الخ
ذلك ، وفي الصديق هزل واستهبال مستملحين ، أعرفهما عنه منذ عهد الصبا الباكر.
حتى إذا أخذنا قسطنا الكافي من الأنس والمسامرة ، وهممنا بالانصراف ، بادر محمد صديق إلى النهوض مستنداً بوضع يديه على ذلك الجدار القصير ، ومتكئاً عليه وهو يقول بمثل ما ظل يسمعه لسنوات عديدة من جدته الأنصارية الصميمة التي تربى في حجرها: " كبْ .. يا مهدِي اللهِ ! ".
وحكى لي صديق مشترك أنَّ من وصفهن ببعض حنكوشات كلية القانون آنئذٍ ، قد دعون محمد صديق ذات يوم قائظ الحرارة ، لكي يشاركهن في تناول شئ من الآيسكريم المثلج ، وذلك لما آنسن فيه من اللطف والظرف والتهذيب ، وخصوصاً التبريز الأكاديمي وطلاوة اللسان. قال فشكرهن على كل حال ، ورد عليهن قائلاً: " ناكل الآيسكريم .. الحلو لي شنو ؟!! " .. وهي عبارة ريفيىة وراءها ما وراءها من المعاني.
على أنَّ من بين تلك الطرائف الأكاديمية المسلية التي سارت بها الركبان ، خصوصاً بين أصحاب محمد صديق وأخلائه حينئذٍ ، قطعة أدبية فريدة ورصينة للغاية ، جمعت بين المتعة والفائدة ، وبديع النثر الفني والنظم الشعري المعجب ، وهي قصة لقاء خيالي أو اثيري ، تم في حال اليقظة ، جمع مولانا " محمد صديق " الطالب حينئذ بكلية القانون بجامعة الخرطوم ، بالإمام الأكبر أبي حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه 80 – 150 هـ \ 699 – 767م.
وقد كان سبب تلك المواجهة التي صوَّرها محمد صديق بخياله الفني الخصيب بينه وبين الإمام الأكبر أبي حنيفة النعمان ، هو أن محمد صديق كان قد أخفق للأسف ورسب ذات مرة تكاسلاً وإهمالاً منه ، في أحد امتحانات مادة الشريعة الإسلامية ، وتعين عليه بالتالي ، أن يجلس لامتحان ملحق فيها.
حكى لنا محمد صديق فقال:
" .. كنت جالساً تحت الهرم الكائن أمام كافتيريا النشاط ، أعدُّ الحصى متفكرا فيما سيؤول إليه حالي بعد أن أديت امتحانات الملاحق في مادة الشريعة الإسلامية ( فقه المعاملات المدنية ). وبينما أنا على ذلك الحال ، إذا برجل يناديني ويقول: أانت محمد بن صديق ؟
قلتُ: نعم.
قال: إن الإمام يأمرك بمرافقتي إلى مجلسه الآن.
قلتُ: أي إمام ؟
قال: الإمام أبو حنيفة النعمان.
قلت: وما الأمر ؟
قال: والله لا علم لي بذلك.
فذهبتُ معه سيراً على الأقدام على طريق لم أرها من قبل ، حتى إذا ما بلغنا منزلاً من الحجر وسعف النخيل ، قال: ادخُل ، فدخلت إلى حيث كان الإمام جالساً على مقعد طويل من الخشب وبالقرب منه صاحباه القاضي أبو يوسف الأنصاري ومحمد بن الحسن الشيباني. وجلس أمامه على بساط من سعف النخيل عدد من الفقهاء عرفت منهم: زفر بن الهذيل ، وأبا جعفر الطحاوي ، ومعروف الكرخي ، ومحمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم ، وتقي الدين أبا العباس المعروف بابن تيمية ، وكان هنالك آخرون لم أعرفهم.
ألقيت التحية على الإمام ومن معه فردّ الإمام التحية وفي صوته شئ من الغضب ثم قال: بلغني أنك قم (مُلحقتَ) في الشريعة ؟
قلت: نعم.
قال: وما الذي انحدر بك إلى ذلك المنحدَر ؟
فحاولت تلطيف الموقف بشئ من الدعابة ، اتقاءاً لغضب الإمام ، فقلت: يا أمامنا إنما الامتحانات كرٌّ وفر.
ولكن الإمام غضب غضبة مضرية فزجرني وقال: ويحُك !!. ليست الامتحانات بكرٍّ وفر ، وإنما كنت تهزل ، ولا ( مباصاة ) لهازل عندي وإن ( باصى ).
قلتُ: يا أمامنا لا تفعل رعاك الله ، فإنما أنا بشرٌ ، يصيبني ما يصيب سائر خلق الله من سعد الدهر ونحسه ، ثم انشدته قائلاً:
أبا حنيفةَ يا إمام ائمتي
ومُملحقِي أو إن أردتَ مُربّتي
إني رجوتُ العفوَ منكَ تضرُّعاً
فاصفح ودعني في مسيرةِ إخوتي
واعفو فإني إن عفوتَ لقاطعٌ
عهداً بأني لن أكررَ غفلتي
يا أيها الفذُّ العظيمُ زمانُهُ
جمهوركُمْ يومَ التفاخرِ فرقتي
ولئنْ رُئيتُ مُنازِعاً بقضيّةٍ
فالرأيُ منكمْ حينذالك حُجّتي
يمشي الزمانُ وراءَ ركبكَ يهتدي
ويقول هذي يا إمامُ شريعتي !!
فأطرق الإمام هُنيهةً ، ثم قال: اذهب يا بُني ، فقد عفوتُ عنك. " أ. هـ
قلتُ : هذه القطعة الأدبية بادية الطرافة والتشويق حقاً ، وفريدة في نوعها وأسلوبها ، بل لعلنا لا نعدو الحقيقة إذا ما شبهناها لجهة التخييل والأسلوب ، وحس الدعابة ، بمذهب أبي العلاء المعري وأسلوبه في رسالة الغفران.
وهي من بعد تنمُّ عن جو جامعة الخرطوم ، ولغة طلابها وطالباتها في ذلك العصر. ومن ذلك على سبيل المثال ، تعريب بعض الألفاظ والمصطلحات الإنجليزية الأصل ، وإدخالها في مجرى لغة الحديث الدارج Jargon بين طلاب تلك الجامعة آنئذ ، مثل الفعل: ربّت .. يربِّت بمعنى أعاد السنة الدراسية يعيدها .. من قولهم to repeat the year ، فقوله " ومربّتي " أي: جاعلني معيداً للسنة بسبب سقوطي في امتحان الشريعة. وكذلك الفعل: باصَى يباصِي مباصاة أي: نجح ينجح نجاحا من قولهم بالانجليزية to pass the exam وهلم جرا.
ولا يهولنك أبداً أن محمد صديق قد قارف بعض المفارقات التاريخية والموضوعية في قطعته هذه. ومن ذلك مثلاً ، جمعه على صعيد واحد في مجلس الإمام أبي حنيفة ، بين شخصيات عاشت في أزمنة وعهود مختلفة ، فضلاً عن إتيانه في ذات المجلس الذي ضم إمام المذهب الحنفي وجلة فقهائه ، برجال كانوا ينتمون إلى مذاهب أخرى مثل أبي العباس أحمد بن تيمية ، وتلميذه ابن القيم الحنبليين ، وكلاهما من رجال القرنين السابع والثامن الهجريين على التوالي ، بينما كان أبو حنيفة من رجال أواخر القرن الهجري الأول ، إلى منتصف القرن الثاني للهجرة ، ذلك بأن عالم الرؤى والأحلام ، وما يجري بمجراها من الأمور الخارقة للعادة ، لمما تجوز فيه مثل تلك المفارقات.
ألا حيّا الله أخانا وصديقنا الأستاذ محمد صديق ، المستشار القانوني الكبير بدولة الإمارات العربية المتحدة حالياً ، ورعى عهد صداقتنا العتيدة ، ومودتنا الخالدة بإذن الله ، والتحية الجزيلة موصولة بالطبع للأخ الكريم مولانا صديق الزاكي الذي أتاح لي معرفة تلك الثلة الطيبة من الأصدقاء الأعزاء وصحبتهم.