عودة القبعات الزرق: هل حان الوقت لتدخل دولي عسكري في السودان؟

 


 

 

د. عبد العظيم محمد الحسن دكير
كاتب واعلامي سوداني

يشهد السودان تدهورا متناميا في الوضع الأمني والإنساني وفي صيانة حقوق الإنسان منذ اندلاع النزاع المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل 2023. ورغم دخول الصراع شهره الثالث، لم تفلح جهود الوسطاء في إيقاف النزيف الذي أودى بحياة أكثر من ألف شخص، وأرغم ما ينيف عن مليونين من المدنيين إلى النزوح إلى مناطق آمنة داخل البلاد أو الهرب إلى دول مجاورة كما تتواصل دون هوادة عمليات القتل والقتل العشوائي والنهب وحالات العنف والاعتداء الجنسي على النساء والأطفال وتدمير البنى التحتية وسجلات الدولة والمراكز الاكاديمية.
الممثل الخاص للأمين العام للسودان ورئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس)، السيد فولكر بيرتس، حذر مؤخرا من أن الوضع في السودان ينذر بالتحول إلى حرب أهلية شاملة تؤدي إلى تفكك البلاد وتلقي بظلالها على دول القرن الافريقي ودول حزام السافانا الافريقي. تحذير المسؤول الأمم يقرأ في ثناياه تلميحا إلى احتمالات التدخل العسكري لوقف الحرب وتأمين السلام في السودان والاقليم بأكمله.

السودان ليس غريبا على التدخل الاممي سياسيا كان أم عسكريا. ففي عام ٢٠٠٧ وضعت البلاد تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة وشكل مجلس الأمن بموجب قراره رقم 1769 "العملية المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور" (يوناميد). تفويض البعثة، التي ضمت قوة عسكرية هجين قوامها ثمانية الاف عسكري، تضمن إسناد حفظ السلام في الإقليم المضطرب. وقبل ستة أشهر من نهاية تفويض يوناميد، وفي تطور نوعي، دعت حكومة السودان الأمم المتحدة للتدخل مرة أخرى بمبادرة من رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في يونيو ٢٠٢٠. واستجابت المنظمة الدولية بإيفاد "بعثة "يونيتامس" في مطلع ٢٠٢١، وهي بعثة سياسية واسعة الاختصاص مخولة بتقديم الدعم للبلاد خلال مرحلة الانتقال لحكم ديمقراطي يؤمن تعزيز وحماية حقوق الانسان وبناء واستدامة السلام وحماية المدنيين وسيادة القانون. ويشهد السودان حاليا تناسلا في المبادرات الهادفة لوقف الحرب حيث تنشط أيضا الآلية الثلاثية التي تضم الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية "إيغاد" والرباعية الدولية المؤلفة من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، فضلا عن منبر جدة بقيادة السعودية والولايات المتحدة.

ما هو موقف الحكومة السودانية من التدخل الاممي؟ من المعروف أن الرئيس المعزول عمر البشير كان قد أطلق تصريحات هوجاء رفض فيها التدخل الأجنبي بدعوى صيانة السيادة الوطنية قبل ان يخضع للضغوط ويسمح بالتدخل العسكري. بدوره عارض رئيس مجلس السيادة الانتقالي الحالي عبد الفتاح البرهان بعض نشاطات "يونيتامس" بحجة تجاوزها لدور الوسيط الميسر والتورط في هندسة وتشكيل الخارطة السياسية للبلاد، حسب زعمه ووصل الأمر إلى أن اعتبر البرهان رئيس البعثة الأممية فولكر بيرتس شخصا غير مرغوب فيه، وطالب الأمم المتحدة باستبداله، وردت المنظمة مؤكدة بأن الدولة المضيفة لا تملك الحق في تحديد هوية المبعوثين.

يحيل رفض التدخل الدولي من جانب البرهان ومشايعيه إلى الجدل الذي جرى في تسعينيات القرن الماضي حول مبدأ سيادة الدول على أراضيها وما إذا كان التدخل الخارجي مناقضا لمفهوم السيادة الوطنية الذي ساد دون منازع حتى نهاية الحرب الباردة. وكان هذا الجدل قد حسم لحد كبير لصالح أنصار التدخل الأجنبي في نهاية التسعينات تحت وطأة الشعور بالذنب بعد احجام المجتمع الدولي عن التدخل في المذابح التي وقعت في رواندا ١٩٩٤ وفي سريبرينيتسا في عام 1999.
وفي عام ١٩٩٩ وبعيد التدخل في كوسوفو دعا رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير إلى تبني "عقيدة جديدة للمجتمع الدولي" تشرعن التدخل في الشؤون الداخلية للدول عند وقوع أو احتمال وقوع كوارث مثل القتل الجماعي والتطهير العرقي والانتهاكات الواسعة لحقوق الانسان. وفي عام ٢٠٠٥، والتفاعل العالمي مع المذابح في دافور على أشده، توافقت قمة الأمم المتحدة على أن مفهوم السيادة كحق مقترن بمسؤولية الدولة في حماية مواطنيها وأن تقاعس الدولة أو عدم قدرتها أو فشلها في هذا الصدد يلقي على عاتق المجتمع الدولي، تلقائيا، "عبء الحماية" احتراما للقيم الإنسانية المشتركة. كما يشير مناصرو مبدأ التدخل إلى أن الدول بمصادقتها على المواثيق العالمية والاقليمية تكون قد تنازلت بنفسها طوعا من بعض حقوقها السيادية وأصبحت ملزمة بالوفاء بنصوص الاتفاقيات التي صادقت عليها. وعلى سبيل المثال فإن المادة الرابعة من القانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي تلزم الدول الأعضاء بقبول تدخل الاتحاد تحت ظروف معينة مثل وقوع جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.

يرى الكثيرون ان السودان قد استوفى المعايير الموضوعة للتدخل العسكري تحت البند السابع. أن الفظائع المتصاعدة وتآكل مقومات الدولة وفشل السلطة في مقابلة التزاماتها في الدفاع عن الوجود القانوني والمادي لمواطنيها يهدد ليس بحرب أهلية مدمرة وحسب، بل أو أن تصبح البلاد بؤرة للإرهاب بما يهدد السلم العالمي. كما أن التدخل العسكري يفرض نفسه لاستنفاد الوسائل الأخرى وانسداد أفق الجهود المبذولة لدرء الكارثة وتورط أطراف إقليمية ذات مصلحة في دعم طرفي الحرب. في تقدير كاتب المقال إن غالبية عظمى من السودانيين لا يعارضون، بل وقد يرحبون مضطرين، بتدخل معقول يضع حدا للفظائع الجارية. صحيح أن بعض الأحزاب السياسية والطامحون في استلام السلطة عبر انتصار أي من الطرفين فقد يعارضون أي تدخل يقطع الطريق نحو استكمال احلامهم. وكانت الساحة السياسية قد شهدت جدلا حول التدخل الأجنبي في عام ٢٠٠٧ عندما طرح مشروع قوات اليوناميد. المفكر الراحل عبد العزيز الصاوي كان استعرض الحجج المختلفة حول التدخل الاجنبي ومواقف الأحزاب حولها في مقال بعنوان "من يخشى التدخل الأجنبي .. الحميد؟" وأشار إلى تصريح لزعيم حزب الأمة الراحل الصادق المهدي أكد فيه أن حزبه لن يعارض أي تدخل خارجي طالما كان تدخلا "حميدا" وليس "خبيثا". الآن وقد تدهور الوضع بما يهدد كيان الدولة فمن المتوقع أن تلقى فكرة التدخل وبكل الوسائل المشروعة في إطار القانون الدولي، بما فيها التدخل العسكري، المزيد من القبول. وكان الزعيم الحالي فضل الله برمة ناصر قد أكد مؤخرا تأييد حزبه لأي تدخل خارجي "حميد" وذلك ف إطار تعليقه على المطالبة بإبعاد المبعوث الأممي. في منتصف شهر حزيران/ يونيو الجاري أصدرت قوى الحرية والتغيير (قحت) بيانا تطالب ب "تدابير استثنائية عبر بعثة إقليمية ودولية مناط بها حماية المدنيين في الولاية (دارفور)، بجانب العمل علي إنهاء الحرب". عموما وأيا كانت المواقف المبدئية، ينبغي، وقد شارفت البلاد مرحلة الانهيار الشامل، التفكير في المحظور وطرح ودراسة كافة الخيارات، بما فيها التدخل العسكري، بشكل جدي مع وضع المعايير والمحاذير اللازمة في الحسبان، فلا ينبغي التحجج بالسيادة الوطنية في الوقت الذي يكون فيه الوطن نفسه مهددا بالتفكك والزوال.

وتتطلب هكذا دراسة الاستفادة من تجارب التدخل الأجنبي السابقة في العالم والتي تراوحت بين الفشل وبعض النجاح. ومن بين التجارب التي تستحق الإشارة إليها هنا تجربة التدخل العسكري البريطاني في سيراليون خاصة لوجود بعض أوجه الشبه مع الحالة السودانية. فعقب انهيار اتفاقية لومي للسلام وسقوط آلية تقاسم السلطة اندلعت أعمال عنف واسعة بين حركة الجبهة الثورية المتحدة أكبر فصائل المعارضة السيراليونية والجيش الحكومي. وتمكنت الجبهة الثورية المتحدة من السيطرة على بعض أجزاء البلاد وأوشكت على اجتياح العاصمة فريتاون بفضل الأسلحة والأموال التي جنتها من الاستيلاء على مناجم الماس وتهريبه بدعم من نظام رئيس ليبيريا تشارلس تايلور. إثر ذلك تدخلت القوات البريطانية بشكل متدرج خلال ٢٠٠٠ – ٢٠٠٢، حيث بدأت بتأمين إجلاء الأجانب، ثم تمكنت بالتعاون مع قوات حفظ السلام والجيش الوطني من دحر المتمردين، وعكفت بعدها في تدريب وتعزيز قدرات الجيش، بل وتولي قيادته لوهلة، وإعادة هيكلته والمساهمة في تسليحه بشكل أفضل، ما قاد الى الاستقرار وتهيئة الأجواء لانتخابات حرة.

لا شك أن مقترح التدخل العسكري في السودان سوف يواجه مصاعب عملية جمة. فالقوى المستفيدة من الحرب سوف ترفع قميص السيادة الوطنية، وتصِم الداعين له بالخيانة والعمالة للأجنبي. ومن بين هذه المصاعب أيضا هو صعوبة اقناع الاتحاد الأفريقي والمجتمع الدولي بضرورة التدخل وهي مهمة ليست باليسيرة في ظل انحسار شهية الدول الكبرى للتدخلات المباشرة (انسحاب الولايات المتحدة من افغانستان) وهنا أيضا يصعب التنبؤ بمواقف الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن لوجود تقاطعات في رؤية دول ذات مصالح مباشرة نشطة في السودان، مثل روسيا والصين وفرنسا. كما أن تعدد وتعقد النزاعات في المنطقة (أثيوبيا وليبيا وافريقيا الوسطي) والعالم (الحرب الروسية الأوكرانية) وارتفاع تكلفة التدخل العسكري في بلد بحجم السودان قد يكون عاملا مثبطا آخر. جدير بالذكر أن المجتمع الدولي تباطأ طويلا في الاستجابة للنداءات المحلية والعالمية لوقف المجازر في دارفور في بدايات الالفية قيل ان يمتثل لضغوط الرأي العام العالمي ويوفد بعثة حفظ السلام في دارفور ذات التفويض العسكري المحدود. كما أن عدم وجود طرف ذي شرعية يعتد بها في السودان حاليا يعقد من التدخل العسكري، ففي تجربة سيراليون أدت القوات البريطانية مهامها بدعوة ومساندة من الحكومة الشرعية.

ختاما يبقى الامل في أن يتمكن السودانيون بأنفسهم من إيجاد الحلول الكفيلة من وقف الحرب والعودة إلى الاحتكام للعقل وحماية البلاد من الانهيار الكامل. ولكن إذا تعذر ذلك فان طرح كافة الخيارات الكفيلة بوقف النزيف وإنقاذ الوطن ينبغي أن توضع على منضدة البحث دون تهيب حتى وإن كان ذلك خيار الكي بسلاح الأجنبي: الملاذ الأخير وأبغض الحلال في فقه الوطنية.

د عبد العظيم محمد الحسن الأمين

A Azim El-Hassan
azimelhassan@outlook.com

 

آراء