عيسي الحلو.. لا أخشي عليه فوت التكريم..ولكن موت المعني في الوفاء والعرفان
قدرت ان اسوق بعض المعاني في احداثٍ مضت منجمة تنزلت علي شخوص في الفضاء السياسي والثقافي العام. منها البعد الثقافي لمسودة كتاب سفير المملكة العربية السعودية السابق فيصل بن معلا عن السودان، واستعراض ورقة هامة اصدرها الشيخ والمفكر الراحل حسن الترابي باللغة الانجليزية اثناء محادثات السلام السابقة قبيل انفصال جنوب السودان ، وكذلك عودة البروفيسور شارل بونيه مجددا للسودان في رحلته التي امتدت لنيف وخمسين عاما في مجال استكشاف اثار الحضارة السودانية القديمة، ومعني استنئاف المنحة الامريكية ( فل برايت) للسودان وأخيرا الكرم الفكري لسادن المعرفة والثقافة السودانية البروفيسور عبد الله علي ابراهيم. تحمل منمنمات هذا الاسبوع الدعوة لتكريم الاستاذ عيسي الحلو احد ابرز وجوه الفعل الثقافي خلال الخمسين سنة الماضية.
الاحد: سفير المملكة يصدر كتابا عن السودان
تعرفت علي السفير فيصل بن معلا سفير المملكة العربية
السعودية وخادم الحرمين الشريفين السابق في آخر ايام عمله في السودان اثناء حفلات التوديع والتكريم التي فاقت الثلاثين حفلا ، ووجدته ليس دبلوماسيا حصيفا فحسب بل مثقفا مطبوعا ، كما التقيته في اطار حوارِ ثقافي بدعوة كريمة منه وقفت فيها علي تجربة إصدار كتابه اثناء فترة عمله في سفارة بلاده في جنوب افريقيا باسم ( ذات المحيطين) رصد فيها انطباعاته وملاحظاته عن الحياة والنَّاس والسياسة والمجتمع في بريتوريا. وقرر السفير فيصل وهو يغادر السودان ان يوثق لتجربته الدبلوماسية في الخرطوم في كتاب جديد يتضمن تعريفا بالبلاد وثقافته واهله والفرص والامكانات والموارد والقدرات. فهو ليس كتابا للمشاهدات الباردة او توثيقا لإنجازاته الدبلوماسية بل هو تفاعل حي مع تفاصيل الحياة السودانية، وهو يقدم تعريفا جاذبا للقاريء الخليجي والعربي عن البلاد والثقافة والنَّاس والمجتمع
من اجمل العبارات التي سمعتها من السفير فيصل وهو يصف الشعب السوداني بأنه شعب كريم معتد بنفسه معتز بكرامته لا يفوقه احد في ذلك . وقال السوداني لا يذل نفسه الا في تأشيرة الحج او العمرة من اجل الصلاة في الحرمين الشريفين وهو من اجمل أوجه الذل لله.
الاثنين: الترابي والأقليات الدينية في السودان
عثرت ضمن اوراقي التي اختزنتها لأكثر من عشر سنوات علي ورقة حصيفة المبني عميقة المعني خطها الشيخ والمفكر الراحل حسن الترابي عن السلام والإسلام في السودان. والورقة التي حررها باللغة الانجليزية وتم تسليمها للإدارة الأمريكية في العام يوليو ٢٠٠٣ في اطار المشاورات مع رموز الفكر والسياسة للدفع بمفاوضات اتفاقية السلام الشامل للأمام . حملت الورقة التي لم تنشر من قبل جملة رؤاه الفكرية لقضية السلام وكيفية التعامل مع الأقليات الدينية في السودان وتضمنت مراجعات لمشروع الإسلاميين تجاه الجنوب الذي كان لا يتعدي في فقه الإسلاميين سوي انه يقع في حيّز
الاستثناءات من تطبيق الشريعة دون النفاذ لجوهر قضية المواطنة والعقد الاجتماعي. سأعمل علي ترجمة الورقة واستعراضها في المقالات القادمة . وقد وقفت علي دقة و وطرافة عبارة الاستاذ سيد الخطيب وهو يصف حالة العقل السياسي السوداني في ظل تداعيات الانفصال بان ( عقلية الحصار) التي ظلت مسيطرة علي تفكير بعض النخب هي التي اضاعت علي السودان فرصا عظيمة
الثلاثاء: تكريم الاستاذ عيسي الحلو شيخ أدباء السودان
خمسون عاما قضاها الاستاذ عيسي الحلو في محراب
الأدب والثقافة السودانية ومشرفا علي الملحق الثقافي لعدة صحف ابرزها صحيفة الرأي العام.وتخرج علي يديه عشرات الأدباء والروائيين والصحفيين، وقد اعترف بفضله الأديب الشاب والروائي الرائع عماد البليك الذي فتح له صفحات الملحق الثقافي وهو في مقتبل عمره الأدبي حتي نضجت موهبته التي أثمرت روايات يانعة تنافس في قوائم الرواية العربية المتقدمة. كما اثري الساحة الثقافية بالعديد من الدراسات والمقالات العميقة في النقد الأدبي خاصة حول نظريات الحداثة ومفاهيم النقد الأدبي الحديث كما صدرت له العديد من الروايات منها ايها الوجه اللامرئي الجميل .
من آيات القصور الأدبي والعجز الثقافي ان يظل بيننا الاستاذ عيسي الحلو وهو يقدم عصارة موهبته وفنه وثقافته علي مسرح الثقافة والأدب والصحافة السودانية لما يزيد علي الخمسين عاما دون ان يلتفت احد لتكريمه.اناشد السيد وزير الثقافة وصحيفة الرأي العام ان يبتدرا تكريم هذه القامة الثقافية بقدر ما قدمت لحياتنا الأدبية والثقافية في السودان. اقدم هذا المقترح وانا لم التق الاستاذ عيسي الحلو الا في مرات قليلة عابرة ولم تقع بيننا معرفة مباشرة، وإني لا أخشي فوت تكريمه ولكنً موت المعني في احياء قيمة الوفاء والعرفان في حياتنا الاجتماعية والثقافية والأدبية.
كما أحزنني نبأ تقاعد الاستاذ عبدالقدوس الخاتم وهو يعاني من متاعب صحية دون ان يلتفت اليه احد. وهو محل اجماع بانه واحد من افضل أدباء النقد الأدبي في السودان. في غمرة الفوضي والاحباط العام يجب الا تغيب قيمة الوفاء عن اهل الثقافة والادب لأنهم الاجدر بقيمة الوفاء
والعرفان.
الأربعاء : شارل بونيه في السودان
وصل الي السودان في
رحلته السنوية الدارجة التي لم تنقطع خلال الاثنين وخمسين السنة الماضية اي منذ العام ١٩٦٤ البروفيسور وعالم الاثار السويسري الشهير شارل بونيه لمواصلة رحلة أبحاثه واستكتشافاته الاثرية التي اعادت التعريف بهوية السودان التاريخية وحضارته القديمة.
جاء شارل بونيه من عمق الريف السويسري لوالد يملك مزارع ضخمة خصصها لزراعة العنب لصناعة المشروبات المعتقة. وعندما جاء الي جامعة جنيف واختار دراسة التاريخ كان حائرا بين غلبة التيار السائد لدراسة المصريات او الانتقال الي أفق آخر، فقرر التوجه للسودان فعاتبه أصدقاؤه وعلماء الآثار ونصحوه الا يضيع وقته في صحراء السودان البلقع وآثار الحضارة المصرية خصبة وبكرة لمزيد من الاستكشافات العلمية. وقال لصحيفة الغارديان البريطانية انه بعد مرور ٥٢ عاما علي بدأ استكشافاته العلمية في السودان لم يعد احد يلومه علي ضياع وقته في صحراء العتمور. تشكلت بين يدي الدكتور هنكل الألماني الذي ترك أرشيفا ضخما في جامعة همبولت الألمانية ببرلين والدكتور شارل بونيه نظرية جديدة في علم الاثار تؤكد ان الحضارة الكوشية القديمة كانت مستقلة عن الحضارة المصرية بل اثرت فيها تاثيرا بالغا، ولم تعد دراسة حضارة وادي النيل تسعف البحث العلمي الذي كان يضع الحضارة السودانية القديمة تحت تصنيف المصريات. وانضم الي هذه المجموعة مؤخرا البروفيسور الألماني فيلدونغ المدير السابق لمتحف المصريات ببرلين، ومساعدته الدكتورة كارلا وقد حثه البروفيسور شارل بونيه للمغامرة لمزيد من الاستكشافات العلمية في السودان. يعكف المشروع السوداني القطري علي تصوير كل ارشيف بروفيسور هينكل لعرضه في المتحف المنتظر في منطقة جبل البركل. قام البروفيسور شارل بونيه بتأليف كتاب ( الفرعون الأسود) لتوثيق تميز واستقلالية الحضارة السودانية عن نظيرتها المصرية. الخرطوم موعودة بعدد من المحاضرات من البروفيسور شارل بونيه بعد عودته من رحلة الاستكشافات في الصحراء في مطلع فبراير القادم.
تتطلع بعثة السودان الدائمة في جنيف للاحتفال بالذكري الخمسين للعلاقات الثقافية السودانية السويسرية وهي تتويجا لجهود شارل بونيه خلال نصف قرن من الزمان واعترافا بفضله العلمي في اعادة اكتشاف هوية السودان الحضارية والتاريخية.
الخميس: معني عودة البعثات العلمية الامريكية للسودان
أعلنت الولايات المتحدة الاسبوع الماضي علي لسان المبعوث الخاص عن عودة منح ( فل برايت) للسودان بعد توقف دام اكثر من عشرين عاما، واكدت منظمة فل برايت في موقعها علي الانترنت ان عودة المنح للسودان تعني اتاحة الفرصة للدارسين للتعرف علي حقول جديدة للمعرفة في وسط متعدد التوجهات والمجالات وعميقة الأثر في مناهج العلوم المختلفة. وهذا الإعلان لا يعني فقط اتاحة فرص علمية للطلاب السودانيين واساتذة الجامعات للدراسة والتخصص وبناء القدرات واكتساب العلوم والمهارات، ولكنها اعلان رسمي بانهاء العقوبات العلمية علي السودان وهي خطوة مهمة للتطبيع الثقافي والتبادل الأكاديمي في اطار رؤية كلية للتطبيع السياسي المحسوب والمتدرج الذي ربما يمضي الي سنوات قادمات. ولعل الأهم ليس فقط ابتعاث طلاب سودانيين للدراسة في امريكا لكن تمكين الطلاب واساتذة الجامعات الأمريكان من القدوم للسودان للدراسة والتخصص مما يجعل اجيال صاعدة في مجال الأكاديميا الامريكية عميقة الارتباط بالسودان ، وسيضفي ذلك نظرة موضوعية لقضايا السودان داخل المؤسسات الامريكية وسيقلل ذلك بالطبع من سيطرة الناشطين للتعبير عن قضايا السودان في الفضاء العام. وسيدخل صوتا اكاديميا موضوعيا و رصينا في التعليق علي تطورات الأوضاع في البلاد. كانت العقوبات العلمية تحرم الباحثين والمختصين في امريكا من استخدام اي تمويل حكومي لإجراء دراسات وبحوث في السودان بل كانت تمنع عنهم حتي حمل ( الحواسيب المحمولة) التي تشتمل علي برمجيات محددة مما أدي الي تجفيف عدد المتخصصين في الشأن السوداني. تمثل جمعية الدراسات السودانية في امريكا المحضن الأكاديمي والثقافي للمختصين في الشأن السوداني في الجامعات الامريكية وعددهم يفوق الثلاثمائة باحث لكن غلب علي جلهم الانحياز لمشروع الحركة الشعبية تحت قيادة جون قرنق وتحديات السودان الجديد. والسبب يعود الي ان معظمهم جاء الي السودان في مطلع الثمانينات مع اندلاع النسخة الثانية من حرب الجنوب. من غلاة هؤلاء الأكاديميين دوغلاس جونسون ويغلب علي بعضهم النظر الموضوعي الي حدً ما مثل كارولين لوبان ودوغلاس لوبان وجي اسبولدينغ.
. مع ازدياد عدد المختصين من الأكاديميا الامريكية في شئون السودان سيقل تأثير صوت الناشطين
لدي صانع القرار الامريكي لأن المفاضلة ستكون بين الجهل النشط والخبير المختص.
الخميس:ريحانة المنتديات والمجالس
ظل البروفيسور عبد الله علي ابراهيم يقدم خلال فترة وجوده الراهنة في السودان أستاذا زائرا بجامعة افريقيا العالمية جماع خبرته الأكاديمية والحياتية ومعارفه العلمية العميقة والثرة في المنتديات وجلسات النقاش ومدرجات الجامعات. ويتميّز الدكتور عبد الله اضافة لعمق وموسوعية معرفته بكرم علمي وفير، اذ يستجيب دون تردد لطلبات النقاش والمحاضرات والانتداء في مختلف المنابر والجمعيات والجماعات، وادهشني اهتمام جيل ناهض بأعماله الفكرية لم يتتلمذ عليه كفاحا لكنه جيل مثابر للمعرفة وتواق للعلم، استمعت الي بعض رموزه في جلسة النقاش التي نظمتها هيئة الاعمال الفكرية مع المفكر لؤي صافي علي هامش منتدي كوالالمبور للحكم الراشد، وقد اثلج صدري انه رغم جراحات الهزيمة المتناثرة الا ان هناك جيل مشدود للمعرفة وقضايا الثقافة والفكر لكنه يبحث عن رموز ومرجعيات للمعرفة والثقافة في السودان بعد ان انقضي زمن الأيقونات التاريخية، ولما استحالت عليه شد رحاله وضرب خيامه علي دوحة التراث ومتناثرات الفكر العربي والإسلامي المعاصر. لذا لم ينج من تخليط منهجي لكن مناط التفاؤل انه جيل مشدود الي المستقبل وليس الي تراثيات الماضي. لكن يبدوالتناقض حاد بين جيل مشغول برتق فتوق التجربة السياسية و الاقتصادية والإنسانية لحكم الإسلاميين وجيل يدعو للعصيان المدني لكن لا يملك أدواته. وهذا جزء من التدافع الخلاق في حياتنا الثقافية والأدبية والسياسية المعاصرة.
khaliddafalla@gmail.com