غياب مفهوم الدين التاريخي يظل كعب أخيل الشيوعي السوداني والكوز يا كمال الجزولي

 


 

طاهر عمر
25 July, 2023

 

يا ترى هل يأتي يوم تترك فيه النخب السودانية فنون المناورة و تأخذ بدلا عنها النقد الذي يفتح الطريق لعقلنة الفكر و علمنة المجتمع؟ أطرح هذا السؤال و على البال تجربة هشام شرابي عالم الاجتماع الفلسطيني في نقده لتجربته و تجاوزها في سبيل اللحاق بمواكب الفكر في العالم المتقدم.
كان هشام شرابي متقدم على ادورد سعيد الذي إنتبه لنقد تجربته أيضا و هذا ما جعل فكر هشام شرابي و فكر ادورد سعيد في المقدمة لأنه فكر يحاول جسر الهوة بين حالة فكر المجتمعات التقليدية و الفكر في المجتمعات و الشعوب الحية. آخر كتاب لادورد سعيد الأنسنة و النقد الديمقراطي نجد فيه ما يشابه فكر هشام شرابي و في فكرهما و على ضوءهما الباهر يمكننا رؤية بؤس الفكر في الساحة السودانية إذا ما قارناه بمناورات مفكرينا في ساحتنا السودانية حيث نجد مناورات كمال الجزولي في مقاله الأخير محاولا فيه توضيح علاقة الحزب الشيوعي السوداني بالفكر الديني في السودان.
أو مناورات الوليد مادبو في رفضه لعلمانية عبد العزيز الحلو داعيا الرجوع لدستور منتصف السبعينيات في السودان. في مقالي الوليد مادبو و كمال الجزولي نجد المناورة التي يغيب في حضورها النقد.
و في الحقيقة ما جعلني أقارن أفكار هشام شرابي بمقال كمال الجزولي و مناوراته هو ملاحظة مهمة جدا و هي أن كمال الجزولي يرتكز على قاعدة الأستاذ عبد الخالق محجوب في بحثه لدور للدين في السياسة السودانية و قد تبعه كالسائر في نومه محمد ابراهيم نقد في حوار حول الدولة المدنية و فيها يصل محمد ابراهيم نقد الى علمانية محابية للأديان.
المفارقة هي في أن هشام شرابي قد بدأ نفس الموضوع في نفس زمن الأستاذ عبد الخالق محجوب إلا أن هشام شرابي إتخذ من النقد سبيل لظاهرة الدين معتمد على علم النفس و البنيوية و فكر ماركس في الأغلال و ليس ماركس طليقا الذي أهدانا النسخة المتحجرة من الشيوعية السودانية و عبد الخالق رحمه الله إتخذ من المناورة سبيل فاذا بهشام شرابي يصل لفكرة أن جبن أتباع اليسار هو ما جعلهم يهادنون خطاب الاسلام السياسي و هذا الجبن أو عدم الشجاعة التي يسبقها الرأي ما ظهر في فكر الاستاذ عبد الخالق محجوب فيما يتعلق ببحثه لدور للدين في السياسة السودانية.
و نجده يتهادى مع فكر النخب السودانية في ترقيعها و مهادنتها لخطاب الحركات الاسلامية الى لحظة مقال كمال الجزولي الأخير و كذلك في خوف الوليد مادبو من علمانية عبد العزيز الحلو في محاولة منه لمهادنة اللاهوت رغم أن الوليد مادبو يتحدث في مناوراته كثيرا عن كهنوت الصادق المهدي إلا أنه ما زال يرزح تحت نير لاهوت مهادنة اللاهوت.
بالمناسبة كما قلنا هشام شرابي بدأ نقده للفكر الديني في نفس زمن عبد الخالق الذي بدأ مناوراته و بحثه لدور للدين في السياسة. قدم هشام شرابي نتيجة بحثه كتاب المثقفون العرب و الغرب و ظل عبد الخالق محجوب ساكنا في محله يتبعه كمال الجزولي بعد ستة عقود كأن شئ لم يكن و هذا سببه مرض عضال و هو مرض معاداة الغرب رغم أن الشيوعين السودانيين قد أتوا بشيوعية تقليدية من الغرب. و نفس مناورات كمال الجزولي نجدها في مناورات شيوعي سوداني آخر كبير في مناوراته عن دولة ما بعد الكلونيالية و عندما يتحدث عن دولة ما بعد الاستعمار نجده كما يقول أحدهم في وصفه للمصابين بمعاداة الغرب أنه مركوب بتجربة الإذلال الاستعماري.
و هذا بسبب ركونه للمناورات بدلا عن النقد كما نجده في نقد هشام شرابي و قد قدم كتابه النقد الحضاري للمجتمع العربي و كتابه المثقفون العرب و الغرب و لهذا نجد هشام شرابي يتحدث عن جبن و عدم شجاعة أتباع اليسار و قد وضح جبنهم في مهادنتهم لخطاب الاسلاميين و نجده بشكل واضح في أدبيات أتباع اليسار السوداني الرث.
هشام شرابي بدأ كتابه المثقفون العرب و الغرب بدراسة تطور الفكر في أوروبا في مواجهة السياجات الدوغمائية في العالم العربي و الاسلامي التقليدي منذ عام1870 و هو تاريخ لم يأخذه هشام شرابي اعتباطيا بل يقصد به أنه تاريخ مفصلي فيه بدأت إرهاصات نهاية الليبرالية التقليدية و بداية الليبرالية الحديثة و يمكنك أن تقول أن فلسفة التاريخ التقليدية بدأت شمسها في أفق المغيب و كل الانتظار كان لفلسفة تاريخ حديثة.
قرن و نصف عندما تفاجاء جمال الدين الأفغاني و تلميذه محمد عبده بتقدم الغرب في كل المجالات مقابل حضارة اسلامية تقليدية ومنذ فكر النهضة المزعومة و نخب العالم العربي التقليدي تجبن في نقد فكر جمال الدين الأفغاني و محمد عبده حيث لم نجد فيه أي بعد يتناول أن الدين أي دين نتاج ظاهرة اجتماعية و لهذا نجد في كتاب هشام شرابي المثقفون العرب و الغرب لا فرق بين الكوز الترابي و المهادن عبد الخالق محجوب كما لا يوجد فرق بين كمال الجزولي اليساري المتحجر و الوليد مادبو الرافض لعلمانية عبد العزيز الحلو و لا فرق بين محمد ابراهيم نقد بعلمانيته المحابية للأديان و الصادق المهدي كرجل دين أكثر من أن يكون سياسي.
و السبب كامن في أنهم جميعا لا يفرقون بأن الدين التاريخي عندما تظن أنه الحقيقي وحده مقابل الأديان التاريخية الأخرى هذه هي السياجات الدوغمائية التي يجب الشب عن طوقها و جميعهم يظنون أن دينهم التاريخي هو الحقيقي وحده و هذا هو النوم و السبات العميق وراء سياج الدوغمائيات الذي يتحدث عنه كانط قبل أن تنبهه فلسفة ديفيد هيوم الى أن دينه التاريخي يخصه هو كفرد و لا يمكن أن يكون كجالب لسلام المجتمع.
و من هنا كانت عند كانط مسألة فصل الدين عن الدولة مسألة لا تحتاج للجلجة عبد الخالق محجوب في بحثه لدور للدين في السياسة أو إلتفاف و إلتواء محمد ابراهيم نقد في علمانيته المحابية للأديان و لا في مناورات كمال الجزولي في مقاله الأخير الذي يخلو من أي نقد جاد يفتح على تجاوز فكرة التقديس و التبجيل لدين تاريخي و قد فتح هذا التقديس و التبجيل للوثوقيات و قد جعلتهم جميعا يهابون النطق بكلمة العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة بلا لف و لا دوران كما حاول الوليد مادبو بأن يلتف و يدور لكي يذهب لدستور السبعينيات في السودان حتى لا يوافق عبد العزيز الحلو على علمانية قد أكدتها عقلنة الفكر في المجتمعات الحية قبل طلب عبد العزيز الحلو الذي يريد أن ينهض بالمجتمع و بها و عبرها تبدأ مسيرة سلام المجتمع السوداني لكي تلحق بمسيرة الانسانية التاريخية و الانسان التاريخي.
على العموم الحيرة و الاستحالة التي تنتاب عبد الخالق محجوب و محمد ابراهيم نقد و كمال الجزولي و الوليد مادبو فيما يتعلق بمسالة فصل الدين عن الدولة بلا لولوة أنهم جميعا يغيب عن أفقهم مفهوم و فكر اللا مفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه و هذا هو فكر محمد أركون في محاولاته الجبّارة لشرح فكرة الدين التاريخي و للحقيقة لم نجد من بين السودانيين من يحمل فكر يشبه فكرة الدين التاريخي عند كانط و قد حاول أركون نقلها في حيز الآداب العربية الاسلامية غير الاستاذ محمود محمد طه.
حيث يصبح الدين التاريخي محاكاة للقانون الأخلاقي في حدود مجرد العقل البشري و من هنا تتضح لنا مسيرة الانسانية التاريخية و الانسان التاريخي و نجد أن أركون و هشام شرابي نجدهما قد أستفادا من البنيوية في أنها ترى عقل الانسان محاكاة للطبيعة و بالتالي يصبح مثلث في بنيوية كلود ليفي اشتروس الطبيعة و عقل الانسان في محاكاته للطبيعة بما فيه من محفور فيه كبنيوية وثم تأتي الأسطورة و كذلك عند كانط يأتي مثلث القانون الاخلاقي و يحاكيه الدين التاريخي مع وجود التاريخ كأسطورة للمجتمعات الحديثة و المثلثان سواء عند كانط أو كلود ليفي اشتروس نجدهما واضحين في فكر الاستاذ محمود محمد طه عندما يتحدث عن الانسانية و الانسان و تطابق الفكر و الشعور في كتبه لذلك كان تجاوز الاستاذ محمود محمد طه بفكره لفكر كثر و ما فكرهم غير تنشيط و تكرار لفكر النهضة التي ظهرت مع جمال الدين الأفغاني و محمد عبده و الاستاذ قد تجاوز مثل فكر النهضة الذي وقف على حدوده في حيرة و يأس كل من عبد الخالق محجوب في محاولاته اليائسة لدور للدين في السياسة و كذلك مناورات محمد ابراهيم نقد في علمانيته المحابية للأديان و من بعدهم وقف مقال كمال الجزولي الأخير.
و هو يحاول أن يوضح مناورات عبد الخالق محجوب و محمد ابراهيم نقد التي تخلو من النقد و هنا ينفرد الأستاذ محمود محمد طه بفهمه الفريد للدين التاريخي و الانسانية التاريخية و الانسان التاريخي لكي يمثل قمة و عظمة الانسان التاريخي في تحديه لتاريخ الخوف و تحديه للعقل الجمعي الكاسد و هو يحاول أن يؤسس لفهم جديد لذلك كانت ابتسامته أمام المشنقة نتاج تحديه لتاريخ الخوف عند السودانيين و تأسيسه و فتحه لمعنى تاريخ الذهنيات الذي تفارق فيه شخصية تاريخية كالأستاذ محمود محمد طه لعقل جمعي كاسد و يؤسس لفهم ما زال فهمه محيّر للنخب السودانية.
لذلك نجد حيرة العقل في مثل مناورات كمال الجزولي في علاقة الحزب الشيوعي السوداني و الدين أو خوف الوليد مادبو من علمانية عبد العزيز الحلو لأنهما قد وقفا على حدود تاريخ الخوف و تاريخ الذهنيات و خاصة تاريخ الذهنيات يحتاج لشخصية حدية كشخصية الاستاذ محمود محمد طه و الفروق كثيرة بينه و بين كمال الجزولي و الوليد مادبو.
هشام شرابي في كتابه المثقفون العرب و الغرب يوضح لك كيف إستمرت النخب العربية و على مدى قرن و نصف لا تستطيع النظر للدين أي دين كدين تاريخي و لهذا نجد محاولات كثر من المفكرين في العالم العربي و الاسلامي ما هي إلا تنشيط و إعادة لفكر جمال الدين الأفغاني و محمد عبده و محاولاتهما في كيفية وضع الفكر الديني كمركز و ما على أفكار الحداثة إلا أن تتوافق معه و من هنا جاءت أفكار توفيقية مجاورة و مساكنة للفكر الأصولي و غير قادرة على تجاوز الفكر الديني لأن أغلب قارئ التراث في العالم العربي و الاسلامي التقليدي كانت تسيطر عليهم ذاكرة محروسة بالوصاية و ممنوعة من التفكير كما يقول فتحي المسكيني و هنا تكمن مشكلة كمال الجزولي و الوليد مادبو.
في ختام هذا المقال وجب التنبيه أن فكر النهضة الذي قدمه جمال الدين الافغاني و تلميذه محمد عبده و ما زالت نتائجه في العالم العربي لم تنتج غير الأبوية المستحدثة كما يقول هشام شرابي في محاولاته مجابهة سلطة الأب و ميراث التسلط و حاضنها الأمينة أي الفكر الديني و الايمان التقليدي و كما يحاول محمد أركون المساعدة في تجاوز الايمان التقليدي في فكره الذي قد تحدث فيه عن المستحيل التفكير فيه أو اللا مفكر فيه.
وجب التنبيه أن فكر الأفغاني و محمد عبده كان نتاج صدمة أنتجت تنشج العالم العربي و الاسلامي و هو يصحى على فكر أنوار لم يعتاد عليه الفكر في العالم العربي و الاسلامي التقليدي مثلا قبل مئة عام من فكر الافغاني و محمد عبده اي 1776 كانت هناك أفكار لم تخطر على بال العالم العربي و الاسلامي التقليدي و هي أفكار أدت لظهور الثورة الصناعية و ظهور كتاب ادم اسمث ثروة الامم و قبله كتابه نظرية المشاعر الأخلاقية و هي تعتمد بشكل رسمي فكر يعتمد على مجد العقلانية و إبداع العقل البشري و قبل فكر ادم اسمث بمئة عام كانت أفكار الثورة الانجليزية و كيف كانت أفكار جون لوك تتحدث عن أن التسامح لا يمكن التحدث عنه و انت تتلفح بثوب الدين التاريخي.
و هكذا تتسع المسافة بين تاريخ أوروبا في إنفتاحها نتيجة الاصلاح الديني على مدى خمسة قرون أي أن هناك ما يقارب الأربعة قرون كفرق بين فكر الأفغاني و محمد عبده و من هنا جاءت مقولة الفرنسي ارنست رينان و هو يلاحظ الفرق بين الاصلاح الديني في أوروبا و الاصلاح الديني في العالم العربي و الاسلامي التقليدي و ما أكبره من فرق لذلك قال ساخرا في ما معناه أن أكبر خدمة تقدمها للمسلم هي أن تحرره من دوغمائية دينه التاريخي فمن يحرر كمال الجزولي و الوليد مادبو من دوغمائية دينهما التاريخي؟
أما ماكس فيبر و تاريخ ميلاده 1864 أي بعد ما يقارب مئة عام من قيام الثورة الصناعية و ظهور كتاب ادم اسمث ثروة الأمم و ادم اسمث كاقتصادي نجح في فك إرتباط الأقتصاد من الفلسفة و الدين أنظر الفرق بين ماكس فيبر و الافغاني و محمد عبده و كلهم قد جاءوا بعد مئة عام من ظهور كتاب ثروة الأمم و مئة عام بعد الثورة الصناعية و أنظر الفرق بين فهم ماكس فيبر للدين التاريخي و مفهوم كل من الأفغاني و محمد عبده نجد الأفغاني و محمد عبده جعلا من الدين التقليدي مركز و ماكس فيبر قد أعلن زوال سحر العالم أي أن الدين لم يعد له دور بنيوي في السياسة و الاجتماع و الاقتصاد.
و أنظر كيف يحاول الأستاذ عبد الخالق محجوب أن يكون هناك دور للدين في السياسة و الاجتماع و الاقتصاد؟ أنظر الفرق بين عبد الخالق محجوب و ماكس فيبر و السبب لأن ماكس فيبر من ورثة عقل الأنوار لذلك كان يرى في الدين التاريخي أنه قد أصبح في مستوى دين الخروج من الدين أي لم يعد له دور بنيوي في السياسة و الاقتصاد و الاجتماع أما عبد الخالق و عبر بحثه لدور للدين في السياسة فقد وقف في صف كل من الأفغاني و محمد عبده كمنشّط و محئ لفكرة النهضة أو الاصلاح الديني في العالم العربي و الاسلامي دون أن يضيف عليه شئ أي على فكر الأفغاني و محمد عبده و لهذا لا تستغرب أيها القارئ بأن يأتي مقال كمال الجزولي إحياء لمناورات عبد الخالق محجوب الخالية من أي بعد نقدي و هنا يكمن كساد الحزب الشيوعي السوداني بنسخته الشيوعية السودانية المتكلسة.

taheromer86@yahoo.com

 

آراء