(فرز الكيمان) ضرورة قبل اصطفاف (الكيزان) خلف المهدي المنتظر
هل انعقد اجتماع لوضع خطة فض الاعتصام بحضور شخصيات من العيار الثقيل؟
حتما. بل من المؤكد أن صلاح قوش المتآمر الأكبر، والذي لا زال يتحكم في مآلات الراهن السوداني برمته، كان ضمن الحضور. ثم حضور آخرْ، ولو مستتر، (لكوز مستتر). الصادق المهدي الذي بعد موافقته على تنفيذ المجزرة، أوصى بتفكيك خيمة حزب الأمة القومي، وللتمويه أصدر بيانا يحذر فيه المجلس العسكري من فض الاعتصام بالقوة.
ثم لا داعي الآن لمحاولة تبرئة حميدتي أو البرهان اللذين يتحملان مسؤولية ارسال الآلاف من الجنجويد، مليشيات علي عثمان، الدفاع الشعبي، كتائب الأمن الطلابي، كتائب الأمن الوطني، وكل من في صدره غلٌ وحقد مُبَيَّتْ ضد شباب الميدان الثائر. هؤلاء هم واضعو مخطط، ومنفذو المجزرة. دماء الشهداء في رقابهم، وأوان القصاص قريب. والعدالة ستطالهم فردا فردا.
لماذا تآمروا لفض الاعتصام؟
لأن ميدان القيادة أصبح (خازوق) يمنع سيناريو (الهبوط الناعم)، وهو السيناريو الذي تم طبخه على نار هادئة في لندن، وتم تقليبه حتى استوى في الإمارات. ويتضمن في نسخته الأولى إزاحة البشير، طرح الصادق المهدي كبديل رئاسي في انتخابات (أو أي مرشح آخر من حزب الأمة القومي)، دخول المال (الكيزاني) المنهوب بقوة لدعم البديل الرئاسي، ليكتمل بذلك إعادة انتاج (الإنقاذ 2). أما النسخة المعدلة في الإمارات فتستبعد المؤتمر الوطني، لكنها تحتفظ بالبرهان وحميدتي. ولا تمانع المهدي المنتظر إن ظهر (رُغم عدائها لإيران).
(الهبوط الناعم) هو خارطة الطريق الأولى التي على هديها أرخى صلاح قوش القبضة الأمنية، ليتمكن الثوار من الوصول الى ميدان القيادة العامة. كان يظن، وبعض الظن إثمٌ، أن من السهل تفكيك الاعتصام في الوقت الذي يريدْ. غير أن الحراك استطال وتمدد، والشباب، أصحاب البأس (الراكبين راس)، فرضوا على المفاوضين المثول كل ليلة أمام الحشود لجرد الحساب. ومثل هذا الخيار لم يكن في الاعتبار حين تم التوافق ووضع السيناريو. فتقليد (المواجهة والمكاشفة) في الميدان شطب (بجرة قلمْ)، كل رموز الإسلام السياسي، وأولهم (اشتر دخان المرقة) الصادق المهدي، الذي سوف لن يجرؤ إطلاقا على مواجهة الثوار في الميدان. مثله في ذلك مثل الحالات المستعصية الأخرى، ممن حاولوا دخول الميدان ورُدُوا على أعقابهم، أمثال غازي صلاح الدين ومبارك الفاضل.
وحتى محاولات الالتفاف على الميدان وسرقته، باستخدام عضو المؤتمر الشعبي (عثمان ذو النون)، باءت بالفشل. لم تشفع (لذو النون) نجوميته الاسفيرية، ولا شعبيته التي تضاءلت وانهزمت أمام جمهور فَضَّلَ أن يشاهد تراث دارفور، بدلا من الانشغال بترهاته. لم يظهر ذو النون منذ تلك الليلة في الميدان، وباختفائه ربما تبدد آخر أمل لصلاح قوش في السيطرة على ميدان الاعتصام.
لذا وعندما أيقنت عصبة (الكيزان)، أنه وبغير تفكيك الاعتصام، فإن انتصار ثورة ديسمبر مسألة وقت فقط، وفي انتصارها هلاكهم، قررت تنفيذ المجزرة. وساعدهم في ذلك فكرهم الديني الملتاث وماكينات القتل والنهب والترويع التي يملكونها. نفذوا المجزرة بدمٍ باردْ، وبوحشيه لم يرها السودانيون في تاريخهم الطويل. وما زالت الجثث الغرقى تطفو والمقابر الجماعية قيد الاكتشاف.
تلك آفة العقول الملتاثة، التي بدأت الآن في دولة الاخوان العميقة، بالتسلل على أطراف الأصابع للسيطرة على المشهد من جديد. قبل أن تجف الدماء، قبل تنشف الجروح وتبرد الأحشاءْ، عاود (الكيزان) سيرتهم القديمة. كأن شيئا لم يكن. ومن وراء حجاب هذه المرة، يتهيأون لتقديم الصادق المهدي إمامهم الجديد. آملين أن تنتقل راية (بيزنس) الإسلام السياسي في هدوء، ودون مساءلة، من الاخوان الى (الكوز المستتر).
فما المخرج؟
فرز الكيمان فورا. فقوى الحرية والتغيير بهيئته الحالية تنظيم غير متجانس. (لحمة راس)، بطابور خامس طويل ينفذ تعليمات قوش. واعضاء آخرين أفئدتهم معلقة بأستار الإمارات.
وليكن المحك الالتزام والإقرار والتوقيع على شرط تحقيق الدولة المدنية العلمانية.
كلمات أخيرة:
آفة العقل الديني المعصوب ظلت، وستظل دوما، الولاء لأخوة العقيدة، لا أخوة الوطن. العقيدة أهم من الوطن. (طُزْ في الوطن)، حسبما قال مرشد جماعة (الأخوان المسلمين) في مصر.
والعقل الديني المعصوب، (عبد الحي يوسف مثالا)، يبيح للسلطان قتل "ثلث الرعية، بل نصف الرعية، إن خرجت عن الطوع".
الدرس الذي وعيناه جيدا بعد مجزرة ميدان القيادة: ضرورة ألا يُسمح مستقبلا أبدا، في هذه الأرض، ان تسيطر سلطة عسكرية ذات مرجعية دينية، أو سلطة سياسية ذات مرجعيه دينية. كلاهما خبال، بغض النظر عن المرجعية الدينية.
لا فرق بين داعشي (محمد علي الجزولي)، سلفي (عبد الحي يوسف)، صحوة إسلامية (الصادق المهدي) أو صاحب رسالة ثانية في الإسلام (محمود محمد طه). لأن إقرار أيٍ من هؤلاء يفتح أبواب جهنم على مصاريعها لمختلف البدائل. (نصرة الشريعة)، (أنصار السنة)، (التشيع) أو حتى الرسالة الثالثة والرابعة والخامسة في الإسلام.
حلقة دائرية من الصراعات العبثية بلا فائدة أو فكاك.
فلتبق الدولة (مدنية علمانية).
وليبق الدين كما في سائر المجتمعات، (ماليزيا وتركيا مثالان)، شأنا تعبديا خاصا بالفرد لا شأن للدولة به.