إنها الامبراطورية المثقفة التي فرضت سيطرتها على أجزاء واسعة من العالم، هي الثقافة الكاسحة التي تستطيع مسح الثقافات الأخرى بنار السيف أو بنور القلم، هي خامس أكبر اقتصاد على وجه الكرة الأرضية، وهي الدولة النووية الثالثة التي تمتلك حق الفيتو في مجلس الأمن ! إنها فرنسا التي تفوز بكأس العالم ! فرنسا متحف اللوفر والشانزاليزيه ومقر الانتربول ومقاتلات الميراج والرافال وطائرات الكونكورد التي تخترق حاجز الصوت !
هي صاحبة المنظومة الفرانكفونية، وأكبر دولة في الاتحاد الأوروبي، وثاني أكبر شبكة دبلوماسية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
فرنسا الحبلى بالجينات الدائمة من الفكر والعلم والثقافة والفنون، مقر اليونسكو،
والتي أنتجت مجتمعاتها الناضجة أسماء مثل المصلح الاجتماعي وفيلسوف الحريات المدنية (فولتير)، و فيلسوف نظرية الفصل بين السلطات الثلاث (مونتسيكيو)، و مخترع الآلة الحاسبة (باسكال) صاحب المثلث، والزوجان المشعان (ماري وبيير كوري)، و مؤسس علم الاجتماع الحديث (أوغست كنت) المولع بدور الأسرة في التنشئة الأخلاقية، والكاتب (ألبير كامو) مطور أسطورة سيزيف حامل الصخرة إلى الجبل وسقوط الإنسان مرة بعد مرة وكأن هذا المفكر الملحد يطبق آية الخالق: "لقد خلقنا الإنسان في كبد" ..
إنها (فرنسا أم الدنيا)، التي أخرجت العالِم (لابلاس) الملقب بنيوتن فرنسا ويعرفه كل طلاب الرياضيات والفيزياء إلى يوم الدين..
والفنان الرسام (رينوار) الانطباعي، والرسام (سيزان) التجريدي، والروائي والسياسي (سارتر) الوجودي، وزوجته الأديبة العجيبة (سيمون دي بوفوار)..
إنها فرنسا العالم العلّامة والموسوعة (جان جاك روسو) ملهم الأحرار وصاحب تيار إسناد الحريات ! روسو مؤلف كتاب العقد الاجتماعي، وملهم الثورات. ومنه ومن غيره استلهم القائد الفرنسي الامبراطور (نابليون بونابرت).
فرنسا الفكر المعتق التي أنتجت المحلل (رينيه ديكارت) القائل: أنا أفكر فأنا موجود، وصاحب منهج التشكيك للوصول للإيمان ...
هي الدولة التي أعطتنا الدكتور المنصف (غوستاف لوبون) الذي صرح بأن الذي رفع الإسلام من الدرك الأسفل هو الإسلام وليست النصرانية. وهو الذي لم ينكر يوما فضل الحضارة الإسلامية على أوروبا. وهو صاحب الكتاب الذي يتدارسه طلاب الحركة الإسلامية السودانية المعنيين بالعمل الجماهيري في بداياتهم التنظيمية، كتاب "سيكولوجية الجماهير".
هي فرنسا التي أخرج مجتمعها المفكر المسلم العظيم (روجيه غارودي) الذي دوخ أعداء الإسلام في أوروبا بمنطقه و فكره و حجته، عليه رحمة الله، التارك للتاريخ قبل وفاته في 2012 ما يقارب التسعين مؤلفا.
إنها فرنسا (إيمانويل ماكرون).
هذا المجتمع العتيق يتطور فكريا ونفسيا وإداريا منذ اقتحام الباستيل وقيام الثورة الفرنسية قبل أكثر من 200 عاما مرورا بفترته الدموية أثناء حقب الاستعمار الأبيض والتي وصفها ايمانويل ماكرون بالجريمة في حق الإنسانية ! ثم مرورا بفترة بناء القومية الأوروبية عبر الاتحاد الأوروبي، و نضوجا حتى يومنا هذا، فيقرر (هذا المجتمع الراشد) أن يحكمه واحد من اثنين، إما شاب ثلاثيني أو امرأة أربعينية.
نقول لهم: فرنسا، مبروك، فأنتِ *أم الدنيا* !!!
فرنسا ب 37 مليون ناخب ممن قاموا بالتصويت طوعاً ، تحدد بكل نضج و رشد، من يحكمها في عالم اليوم.
الفائز هو الشاب الثلاثيني Emmanuel Macron، والذي يغادر عتبة الشباب في العام المقبل ليكون ضمن زمرة الكهول.
يفوز في الجولة الأولى على جميع المنافسين من جميع الأحزاب، ثم يفوز في الجولة الثانية مقابل المنافِسة الوحيدة المتبقية بعد التصفية: مارين لوبين، فيعيد للاتحاد الأوروبي الأمل بعد خروج بريطانيا التي ستستقل اسكتلندا عنها، ويعيد لليورو البريق الذي فقده أمام دولار دونالد ترامب.
يواجه المرشح الثلاثيني ايمانويل ماكرون المدعوم معنويا من أوباما المرشحة الأربعينية مارين لوبين المدعومة معنويا من ترامب، في معركة تنتهي بالضربة القاضية لأصحاب التفكير الرجعي الذي فات أوانه في عهد العولمة.
هذا الشاب المصرفي الذي سقط مرتين في دراسته، كان مستشارا للرئيس فرانسوا هولاند حين كان في الرابعة والثلاثين (34) من عمره، وتم تعيينه كوزير للاقتصاد الفرنسي كذلك في السادسة والثلاثين من عمره، وأي اقتصاد هذا الذي يثق في أن يقوده شاب ثلاثيني لم يسبق له تقلد أي موقع ؟؟ *إنه اقتصاد فرنسا !* الاقتصاد رقم 5 على العالم كله.. في درس لوزراء ماليتنا وتخطيطنا الاقتصادي.
خبرته السياسية بعيدا عن العمل التكنوقراطي في المصارف وفي مجال إدارة الاستثمار ، لا تزيد عن ثلاث سنوات. فبعد استقالته من منصب وزير اقتصاد فرنسا نظرا للمشاحنات والملاسنات الدائمة بينه وبين رئيس الوزراء، (والذي أصبح الآن يعمل تحته)، ولسان حاله يقول: هي الأيام نداولها بين الناس،
قام بإنشاء حزب قبل عام واحد فحسب.
يفوز اليوم ايمانويل على المرشحة القوية مارين لوبين وهي بدورها كانت مصنفة كواحدة من أكثر الشخصيات تأثيرا في العالم حين كانت في بداية الأربعين وهي تترأس حزب الجبهة الوطنية، وتم وصفها بثاني أقوى نائب برلماني أوروبي حينذاك، كما كانت نائبا في البرلمان الأوروبي في ال35 من عمرها.
يكفي أن نختم بأن *(فرنسا أم الدنيا)*، ولا عزاء لدول العالم الثالث ودول العالم الثاني، فكل شخص فيها هو المهدي المنتظر الذي يرى في نفسه الخلاص الأوحد لبلاده، الساعي لتمكين نفسه في مقعده حتى أوان وفاته، الصابغ على ذلك مسرحيات سيريالية يجادل بها جميع دعاة تطوير البلاد كي تواكب العالم من حولنا، ولا يعلم بأن العالَم قد سبقنا علميا وأخلاقيا وإداريا ونفسيا، *بسنوات ضوئية*..
م.أُبي عزالدين عوض
Obay1975@gmail.com