فيلم الارجنتين ١٩٨٥.. مستوحى من احداث حقيقية

 


 

 

a_bdulelah@hotmail.com

صدر الفيلم في اواخر سبتمبر ٢٠٢٢ في الارجنتين وفي أواخر أكتوبر من العام نفسه في أمريكا وحول العالم. الفيلم يروي بدراما منعشة، في قمة الحزن والروعة، ما دار في قاعة المحكمة التي حاكمت الجنرالات الذين ارتكبوا ابشع الجرائم ضد الشعب الارجنتيني في فترة كئيبة من تاريخها.
تسلطت علي الارجنتين لمدة ٧ سنوات (١٩٧٦-٨٣) قادة من العسكريين القتلة حكموا البلاد بقبضة من حديد، أدى إلى اختفاء ما يقدر بنحو ثلاثون ألف شخصًا. بعد صراع وتضحيات عظيمة استطاع الشعب الارجنتيني في العام ١٩٨٣ هزيمة الدكتاتورية العسكرية واسترداد الديمقراطية. قبل سقوط النظام منح المجلس العسكري قادته حصانة من المحاكمات ضد الجرائم الإنسانية التي ارتكبوها... لكن هيهات ... مع ارادة الشعوب التي تريد العيش بكرامة.
كانت الارجنتين في العام ١٩٨٥ لها عامين من الحكم الديمقراطي و ٧ أشهر فقط تحت حكومة الفونسيين، نسبة الى الرئيس Raúl Alfonsín. قرر الفونسيين محاكمة القادة السابقين من النظام العسكري الديكتاتوري على الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبوها في حق الشعب الارجنتيني. تم ابلاغ المدعي العام آنذاك خوليو ستراسيرا (Julio César Strassera) بالقيام بتجهيز الملاحقة القانونية ورفع دعوى حكومية ضد قادة المجلس العسكري في المحاكم المدنية. كان المدعي العام يشعر بتأنيب الضمير لأنه لم يفعل شيء للدفاع عن الضحايا والديمقراطية في فترة الحكم العسكري، مثل العديد ممن شغلوا مناصب عامة خلال تلك الفترة. ادرك على الفور إن هذه المحاكمات ستكون فرصته الاخيرة للوقوف بجانب العدالة والديمقراطية. قام بأقناع قضاة المحكمة العليا في البلاد بإجراء محاكمات امام المحكم المدنية لان المحاكم العسكرية رفضت اجراء توجيه الاتهام للعسكر.
كان القادة العسكريون يشعرون بأنهم انتصروا في حرب ضد التخريب ولم يقبلوا بالمثول إلا امام المحاكم العسكرية التي رفضت توجيه اتهامات لهم. قام مجلس القوات المسلحة بإبلاغ المحكمة العليا بأنه بناء علي التحقيق الذي قام به المجلس أن المراسيم والتوجيهات والأوامر والإجراءات العسكرية التي تمت إصدارها للتصدي للتخريب الخارجي غير قابلة للاعتراض، واتهموا مرؤوسيهم بارتكاب تلك الجرائم والتجاوزات وعلي المحكمة التحقيق فقط في الجرائم المقدمة من الضحايا المزعومين. رفضت المحكمة العليا دعاوي المجلس العسكري وبدأت التحضيرات لإجراء محاكمات امام المحكمة المدنية.
بينما لم يجد المجلس العسكري أي مشقة في الحصول على كبار المحامين ذوي الخبرة للدفاع عن قادته، وجد النائب العام مشقة بالغة في العثور على محامين لتشكيل فريق الادعاء الخاص به لان معظم المحامين من ذوي الخبرة والمشهورين كانوا من الفاشيين. فجأة وجد المدعي العام بجانبه في المحكمة، محامي شاب تطوع للعمل معه، اسمه لويس أوكامبو(Luis Moreno Ocampo )، هل تذكرونه؟ انه المحامي الأرجنتيني الذي شغل منصب المدعي العام الأول للمحكمة الجنائية الدولية من العام ٢٠٠٣ إلى العام ٢٠١٢. نفس الزول الجنن بيشه ورفاقه المجرمين. رفض المدعي العام في البداية قبول عرض أوكامبو للمساعدة، نظراً لعدم خبرته وعلاقة عائلته القوية بجنرالات الجيش ودعمهم غير المحدود للمجلس العسكري (جده لامه أول من تقلد منصب القائد العام للجيش الارجنتيني، ووالدته على علاقة بأحد الجنرالات). وكانت والدته مستاءة من مواقفه ضد الجنرالات. لم يجد المدعي العام محامين أكفاء للعمل معه، لذلك قرر قبول عرض أوكامبو للمساعدة. كان أوكامبو كادراً من كوادر منظمة النسور القانونية واستاذاً جامعياً. اقترح أوكامبو البحث عن شباب حديثي التخرج من كليات القانون وعديمي الخبرة، لأن كبار المحامين غير مستعدين للمخاطرة بسمعتهم أو سلامتهم للتوقيع على محاكمة مثيرة للانقسام بين الجمهور. وكذلك اقترح أوكامبو عدم الاعتماد على المحامين الملتزمين بالدفاع عن حقوق الانسان لان ذلك سوف يتيح الفرصة للجيش وأجهزة الاعلام الفاشية بتشويه سمعتهم بانهم شيوعيون. ويجب عليهم ايضاً اقناع الطبقة الوسطى بهذه المحكمة حتى تحظى بالشرعية الضرورية.
ببطء وعناية فائقة قام النائب العام وأوكامبو بجمع فريق من المحامين الشباب، لا يتجاوز أعمارهم ٢٥ عاماً. يعمل العديد منهم في المكاتب الحكومية، ويمكنهم الاستفادة منهم في الوصول إلى المواد الموجودة لدي الحكومة للمساعدة في القضية. رفضوا الاستعانة بجهاز الشرطة الأرجنتينية نسبة لتورط بعض افرادها في الجرائم ضد الإنسانية وكذلك كانوا مدركين بعدم نزاهة القضاء الارجنتيني لأن ٩٠٪ من القضاة مازالوا ينتمون الى النظام الفاشي. نظرًا لارتكاب الفظائع في جميع أنحاء البلاد، وضيق الوقت، حدد النائب العام وفريقه من الشباب المناطق التي كانت توجد فيها معسكرات اعتقالات عسكرية، وإجراء مقابلات والبحث عن أكبر عدد ممكن من ضحايا المجلس العسكري لتسجيل شهادتهم في فترة زمنية محددة. ايضاً تم تكليف بعض الشباب في النظر في جميع الملفات القانونية في فترة الحكم العسكري وجمع وتبويب بياناتها. عمل الفريق بهمة عالية وحماس مذهل وقاموا بتحضير كل الأدلة في الوقت المحدد ورتبوها على حسب الأماكن، ١٧ مجلد، مكون من ٤ آلاف صفحة، تحتوي ٧٠٩ قضية واكثر من ٨٠٠ شاهد. كان عملاً رائعاً من شباب صغار السن، عديمي الخبرة لكن ملتزمون بقضيتهم ... قضية الثورة، الحرية، والعدالة. كمية هائلة من الأدلة الدامغة في وقت قياسي، عمت شهرتهم كل الارجنتين.
في هذه الأثناء واجه المدعي العام وفريقه مخاطر جسيمة على سلامتهم، حيث تمت متابعة العديد منهم، ووجد أوكامبو هجوماً قاسياً من عائلته بسبب مخالفته لتاريخهم العسكري. تم تكليف حراسة دائمة للمدعي العام وجميع افراد اسرته.
في اليوم الأول من المحاكمة أراد الدفاع تأجيل بداية المحكمة الى أجل غير مسمى بادعاء وجود قنبلة مزروعة في المحكمة وانها تلقت عدة تهديدات بذلك. جادل المدعي العام بأنه تهديد زائف وأن من هددوا بتفجير المحكمة هم من أنصار الجيش، ومن واجب الجميع في مكتب القاضي ضمان إجراء محاكمة آمنه. اقتنع القضاة المترددين بضرورة استمرار المحاكمة. تم تسجيل التجربة بالكامل على الكاميرات وتم بث أجزاء منها في جميع أنحاء العالم. ادلى العديد من ضحايا المجلس العسكري بشهاداتهم على التعذيب الوحشي الذي تعرضوا له أو شهدوه لأسرهم وأحبائهم، والذي لا معنى له. قام الرئيس الارجنتيني ألفونسين بدعوة المدعي العام إلى مقابلته وابلغه أنه يتابع عن كثب أحداث المحكمة كل يوم وتأثر بشدة بشهادة الشهود وطلب منه مضاعفة جهوده. في نفس الفترة، أشار وزير العدل إلى المدعي العام أن هنالك اضطرابات وسط الجيش ومنهم من يظن أن هذه المحاكمات هي البداية وطلب منه توخي الحذر ويجب أن يكون متساهلاً مع القوات الجوية لكي لا يعرض البلاد للخطر مرة أخرى. شعر المدعي العام بالغضب من طلب وزير العدل وقام بإيماءات بذيئة وسخرية على جنرالات سلاح الجو في المحكمة، مما عرض نفسه بالطرد من قاعة المحكمة بتهمة الازدراء.
روت أحدي الضحايا كيف تم اختطافها وتعذيبها بشكل منهجي ومستمر وبكل الطرق وهي حامل في شهرها السادس. عندما داهمتها لحظة الولادة اخذها اثنين من الحرس في دورية وغادروا المعتقل وهي معصوبة العينين ومستلقية في السيارة، يداها مقيدتان خلف ظهرها، اخبرتهم بأنها على وشك الوضوع، توسلت لهم بالوقوف، لم يصغيا اليها، بل واصل السائق والحارس الآخر الضحك واخبروها لا معني للوقوف لانهما سيقتلونها هي والطفلة فلا داعي للقلق. وضعت طفلتها وهي بهذه الحالة ولا تدري كيف تخلصت من ملابسها الداخلية. عندها توقفا على جانب الطريق، كانت الطفلة بصحة جيدة، سقطت من المقعد ونزلت مع الحبل السري على الأرض، توسلت اليهم ان يناولونها وان يسمحا لها بحملها وحضنها لكنهما رفضا وقطعا الحبل السري وواصلا القيادة، وهي مازالت مقيدة اليدين ومعصوبة العينين. وصلوا الى مبنى كبير به اسطح رخامية، وضعوا الطفلة المتسخة وهي تبكي من البرد على منضدة وامروها بالدخول لغرفة واحضار اناء مليء بالماء واجبروها على مسح الأرض وتنظيف كل اسطح الطاولات وهي عارية تماماً امام أحد الضباط والحارسين اللذين كانا يضحكان. لم يسمح لها بحمل طفلتها حتى انتهت من نظافة المكان.
بعد ان استمعت إلي تلك الشهادة وشهادة آخرين من الإذاعة اتصلت والدة أوكامبو به واثنت عليه وعلى رفاقه لما يقومون به من اجل العدالة واعتذرت له عن كل ما بدر منها في الماضي وقالت له بان من يرتكبون مثل هذه الجرائم يستحقون المحاكمة مهما كانت مكانتهم في الدولة.
في مرافعته الختامية، ادرك النائب العام أنه ستتاح له فرصة تاريخية لعرض قضيته ليس فقط على القضاة في قاعة المحكمة، ولكن على شعب الأرجنتين وجميع شعوب العالم. وطلبت منه زوجته كتابة مرافعة ختامية عظيمة، مذهله وملفتة للنظر. بمساعدة عائلته وصديقه المحامي العجوز وفريقه الشاب قدم مرافعة ختامية بليغة وقال في الختام "هذه المحاكمة والحكم الذي اسعى لتحقيقه مهما من أجل السعي لسلام لم يقدر له النسيان بل قدره البقاء في الذاكرة ولا يرتكز على العنف بل على العدالة، هذه فرصتنا وقد تكون الأخيرة. حضرات القضاة، اريد ان اتعمد عدم انهاء مرافعتي ببعض الجمل المنمقة التي كتبتها بنفسي، بل اريد ذكر اقتباس لا يعود لي، لأنه ملك لكل الشعب الارجنتيني، حضرات القضاة، "نرفض حدوث ذلك مجدداً"
بعد وقت من المداولات اعلن القضاة الحكم. نال اثنين من الجنرالات الحكم بالسجن مدى الحياة، واربعة من الجنرالات نالوا احكام تتراوح بين ١٧ عام الى ٤ سنوات. تمت تبرئة البقية. لم يرضى المدعي العام بهذا الحكم وقام باستئنافه. منذ استئناف الحكم تمت أدانة أكثر من ألف شخص بتهم جرائم ضد الإنسانية وما زالت آلاف القضايا تنتظر احكامها. كان اتخاذ قرار محاكمة الجنرالات قراراً شجاعاً ومهمًا للغاية في المساعدة في إعادة بناء الأرجنتين بعد فظائع الديكتاتورية. منذ العام ١٩٨٣ تنعم الشعب الارجنتيني بدون انقطاع، بديمقراطية يسود فيها حكم القانون. اثناء المحاكمة، تم تصويرها بأكملها وفتحها للجمهور، لكن يقول المخرج خمس دقائق فقط وصلت إلى الأخبار التلفزيونية في ذلك الوقت ولم يتم عرض أي من وجوه الشهود او المجرمين. بعكس ذلك شاهد الفيلم ووقائعها الحقيقية ملايين الارجنتينين الذين أثرت فيهم شهادات الضحايا وآلامهم واحزانهم وغضبهم.
أثار الفيلم مناقشات في جميع أنحاء البلاد - ولا يزال صدى أهميته الدولية الأوسع يتردد. وقصدي من كتابة هذا المقال هو الاستفادة من التجربة الأرجنتينية في محاكمة الجنرالات العسكرية وانه لا توجد حصانة من الجرائم ضد الإنسانية. تجربتنا شبيه في معظم تفاصيلها للتجربة الأرجنتينية.
نال الفيلم عدة جوائز من بينها جائزة قولدن قلوب (Golden Globe) المشهورة وبالتأكيد سوف ترشح لجائزة الاوسكار العالمية. ختاماً التحية للشعب الارجنتيني الذي يحق له الفخر ببلاده الذي فاز بكاس العالم في كرة القدم في نهاية ديسمبر ٢٠٢٢ وصدور هذا الفيلم في نفس العام عن هذا الحدث الضخم.

 

آراء