في الذكرى 67 لاستقلال السودان – الثَّورة وفُرُوض التَّغْيير (2)

 


 

بلّة البكري
2 January, 2023

 

ballah.el.bakry@gmail.com
الأول من يناير 2023

"الشعب السوداني شعبٌ عملاق يتقدمه أقزام " !
الأستاذ محمود محمد طه

"عندما زرت متحف مَدام تُوسُو، في لندن في عام 1940م، وأنا طالب، كان هناك مجموعتين من التماثيل: العظماء ومشاهير المجرمين (The notorious)؛ فأما ملوكٌ إنجليز وعظماء القادة في التاريخ وأما مجرمون؛ فأرجو أن لا يضع متحف مدام توسو تمثالي، يوما، بالقرب من المجرمين"!
لِيْ – كُوُان - يُو

مقولة الأستاذ محمود لا تحتاج الى مزيد؛ لكنها دعوة للوسط السياسي كله للتبصر في هذا العبارة الموجزة، خاصة وقد صدرت من مفكر سياسي ذو وزنٍ معتير وبصيرة نافذة لم تتوفر لغيره من عاصريه. أما ما تلاها فهو ترجمة، غير حرفية، لمقولة السيّد لي-كُوان-يُو، جاءت في كتاب بعنوان "الطُرفة والحكمة في حياة لي-كوان-يُو". فالرجل، كما هو معلوم، هو الأب الروحي لدولة سنغافورة الحديثة. وقد انتقلت تحت قيادته من دويلة صغيرة في العالم الثالث، في الستينات، تتنازعها الصراعات العرقية وهي خارجة من الاستعمار، الى دولة متقدمة في العالم الأول، بحلول عام 2000م؛ أي في حوالي ثلاثة عقود زمنية فقط. وسنغافورة الدولة – يا محسنين – أصغر مساحة من أصغر ولايات السودان؛ وليس فيها موارد طبيعية تذكر، بل تستورد حتى ماء الشرب من ماليزيا. فولاية الخرطوم (22,142 كلم مربع) أصغر ولايات السودان تفوق سنغافورة مساحة بأكثر من 30 مرة؛ أي نعم 30 مرة. لكن اقتصاديا فسنغافورة تتقدم السودان كله، شماله وجنوبه، في الناتج القومي (GDP). بل تتفوق على دولتي السودان مجتمعتين في ذات الصدد بحوالي سبع مرات. هذه حقائق منشورة ويمكن للكل التحقق منها. لقد عشتُ وعملتُ في بلاد الشرق الأقصى، شاملا سنغافورة، لما يفوق الريع قرن من الزمان. وقد رأبت بعيني رأسي ما أنا بصدد الحديث عنه هنا. فما هو الشاهد في الموضوع؟

الشاهد في الموضوع، يا سادة، إنه لابد من وقفة ومراجعة شاملة لمسيرتنا السياسية كلها منذ الاستقلال وحتى اليوم. لقد استلمنا زمام أمرنا كدولة سودانية مستقلة، قبل 67 عاما، لا زلنا نتخبط في إدارتها إقتصاديا بصورة مخجلة. و67 عاما هي حياة عدة أجيال وليس جيلا واحدا. فإلى متى سنواصل في هذا التخبط وضياع أجيالنا؟ والى متى سنصحو – كأمّة – على عجزنا الفاضح في إدارة الدولة السودانية. نعم العجز (سياسي) في المقام الأول وليس إقتصاديا؛ بل إنّ الاقتصاد وسبل إدارته يعود الى النظام السياسي الذي يخطط له ويديره ويحرسه. وهنا جاء دور الأقزام الذين يتقدومننا جورا ويكذبون علينا صباحا ومساءا ليصلوا لكرسي السلطة بأي ثمن.

لدينا أزمة وطنية مستفحلة لايبدو إنه لدينا (رجال دولة) لمعالجتها. فعلى سبيل المثال، من ظننا بالأمس أنهم مقاتلي حرية، ناصرناهم وجردنا أقلامنا للدفاع عنهم خذلوا الشعب السوداني، في أول سانحة. وطعنوه في خاصرة وهم يعينون إنقلابي آخر ليواصل التخبط ونحن لم نفرغ بعد من محاكمة من سبقه من الإنقلابيين. وبفعلهم هذا ساعدوا العسكر في تمديد فترة سيطرتهم على البلاد والعباد الى حوالي 55 عاما من جملة سنوات الاستقلال ال 67؛ أي حوالي 82% من الوقت كله. فهل هي مجرد صدفة أن صارت ذات النسبة المئوية (82%) هي ما تسيطر عليه المنظومة العسكرية من مقدرات البلاد الإقتصادية؟

الثورة السودانية، في ديسمبر 2018م قام بها الشباب، بنات وأبناء هذا الشعب السوداني. فهم من صنعوها بعد أن أيقنوا تماما أن أجيال السياسيين، من عهد السيدين والأزهري وعبدالله خليل في الخمسينات، مرورا ب محمد-أحمد محجوب والصادق المهدي وبابكر عوض الله في الستينات، لم يصدقوهم، ولم يتركوا لهم أساسا متينا لدولة عصرية يمكن البناء عليه. وجاء جعفر نميري (اب عاج أخُوي دَرّاج المِحَن) في عام 1969م ليصطف خلفه الجميع ومنصور خالد. بل غنى له الكل ليسرق قرابة العقدين من الزمان من تاريخنا. لم ينج من نُصرة نميري أحد، مهديا كان أو ميرغنيا، شيوعيا كان أم طائفيا. بل ذهب بعضهم (من دعاة الإسلام السياسي وفقهاء الضرورة) أن نصّبوه إماما للمسلمين جميعا في مشارق الأرض ومغاربها. فصدّقهم الرجل وبدأ يؤم الناس في الصلاة. قاد هذا التخبط الى اعتداء حسن الترابي وتلاميذه، من الأخوان المسلمين، على الديمقراطية الوليدة في الثمانيات، ليغتالوها في مهدها بخدعة انقلابهم عام 1989م ليدخلوا البلاد بعد ذلك نفقا مظلما امتد لثلاثة عقود. وها نحن اليوم وبعد أن استبشر شبابنا بتباشير فجر الحرية – بعد اندلاع الثورة، ندخل في دوامة أخرى من منظومة الفشل السياسي والاقتصادي وكأننا لم نتعلم شيئا من 67 عاما من "إدمان ذات الفشل". فما هي (فُروض التغيير) الواجية الأداء، في ظل الثورة، حتى نوقف هذا التراجع المريع للخلف ونبدأ الخطو للأمام. الذين ينادون بِ(تغيير جذري) في التعاطي مع الراهن السياسي في السودان معهم ألف حق؛ بل لعل موقفهم أكثر سندا في ظل المعطيات التي أمامنا. وقديما قالوا: "إذا وجدت نفسك في حُفرة وتود الخروج منها فعليك، أولاً، أن توقف الحَفْر" !

-ونواصل -


(*) الكاتب مهندس (CEng FICE) وكاتب مستقل في الشان السوداني

 

آراء