في الذكرى 67 لاستقلال السودان – الثَّورة وفُرُوض التَّغْيير (3)

 


 

بلّة البكري
7 January, 2023

 

7 يناير 2023

"(إرادة الأمة) هي أساس (سُلطة أي حكومة)؛ وتلك هي (الديمقراطية) والطريق الى (الحكم الرشيد)"
كُوفِي أ. أنّان
سكرتير عام الأمم المتحدة (1997-2006م)

جاءت هذه العبارة (paraphrased) للسيد كوفي أنّان، في مؤتمر دولي في شئون الحكم والتنمية المستدامة في 1997م. عبارة بسيطة لكنها عميقة الدلالة. فكيف نقرأها، إذن، على ضوء ما نحن فيه من أمرنا السياسي الراهن؟ الثورة هي تعبير عن (إرادة الأمة) ولا يمكن “محاكاتها” بأفعال مشابهة، كاعتصام القصر، فذلك نوعٌ من السرقة والكسب الرخيص. فهؤلاء يسرقون الثورة ويشوهون رسالتها الأصلية. إنها رسالة قوية، واضحة، صادقة، تطالب بأن تعود السلطة للشعب السوداني حتى يستطيع ممارستها "ديمقراطيا" لإرساء قواعد (الحكم الرشيد) الذي هو الهدف ولا هدف سواه. بل أن جماعة اعتصام القصر لا يمثلون إنسان الثورة في شئ. لإنهم، كما ثبت لاحقا بدليل قاطع، جزء لا يتجزأ ممن أنكروا الثورة في البدء، ثم قمعوها في مايو 2019م. ولما لم تنطفئ نارها اعتدوا على شبابها وقتلوا وأعاقوا الآلاف في يونيو 2019م في قلب الخرطوم فيما عرف بمذبحة القيادة العامة. تلك كانت جريمة نكراء، ضد الإنسانية وستظل هكذا. ثمّ واصلوا التآمر عليها في نصوص اتفاق جوبا المشبوه في 2020م وهم يعلمون، سلفا، إنهم يعدّون العُدة لينقلبوا على حكومتها عسكريا، وقد فعلوا في أكتوبر 2021م. وجاء بعد ذلك قمعهم للمتظاهرين السلميين. بل وقتلوا وأعاقوا المئات. هذه وقائع ثابتة. وهاهم الآن يواصلون التحايل على (إرادة الأمة ) من خلال اتفاقيات فضفاضة ليس لديهم أي رغبة، فيما نرى، التقيد بها. فكيف يمكن لعاقل أن يرى أي احتمال لصفقة سياسية ناجحة (إطارية أو نهائية) مع مثل هذا المسلك الذي ينعدم فيه حسن النيّة، أهمّ عامل لأي اتفاق جاد. وكيف يمكن لهذا العبث أن يعيد للأمة السودانية إرادتها والتي هي حق يجب أن يوفى فورا دون مَنٍّ أو سلوى. ثُمّ إنّ هذا الكم الهائل من التدخلات الخارجية المباشرة في العملية السياسية هو أصدق دليل على إنه ليس لدينا دولة مستقلة . بل يبدو أن كل المنظومة السياسية عندنا تعمل تحت إملاءات دولية خارجية واضحة.

الثورة السودانية، في ديسمبر 2018م، قام بها الشباب، بنات وأبناء الشعب السوداني. صنعوها، من عدم دون عون، بعد أن أيقنوا تماما أن أجيال السياسيين، في كل الحقب، لم يتركوا لهم أساسا متينا يُمكن البناء عليه لدولة عصرية. وغالب هؤلاء الشباب من وُلِد أو عاش في النفق المظلم الذي صنعه الإسلامويون وحرسوه بقمع الحريات العامة والغِش وفقه التمكين لأكثر من ثلاثين عاما؛ تمثل حوالي 50% من عمر الدولة السودانية المستقلة. استبشرالشباب السوداني بفجر الحرية بعد اندلاع الثورة، وحق لهم أن يجنوا ثمار ثورة مهروها بالدم والدموع.

لابد من تغيير تام في كل مناحي إدارة الدولة السودانية وإلا أضعنا عقودا أخرى زمانية تضاف الى 67 عاما من الفشل المتواصل. لا يهم كم من الوقت نحتاج للتغيير. نعم، لا يهم،إطلاقا، طالما هو أقصر الطُرق للخروج من هذا المأزق التاريخي. التغيير الجذري كسقف تفاوضي، بين أطراف العملية السياسية، في ظل الراهن السياسي في السودان ليس تعنتا، فيما نرى، وإنما هو الموقف الأخلاقي الصحيح نحو (إرادة الأمة السودانية). هذه الإرادة هي السُلطة الوحيدة ولا سلطة لأحد سواها. فللمستعجلين للجلوس على كراسي الحكم، بأي وسيلة، نقول لهم اختشوا، يا هؤلاء، وانصرفوا فلكم أجر الإجتهاد. ضاعت أربع سنوات من عمر ثورة واعدة بسبب ضعفكم وتآمر بعضكم. فمنكم من هو، بلا شك، جزءٌ من المشكل ولا يمكن أن يكون جزءا من الحل؛ لأنّ فاقد الشئ لا يعطيه. وهذه بداهة. ولكل من يستقوون بجيوشهم، التي تكاثرت مثل البَرُوس، لهزيمة الشعب السوداني كله، والى الأبد، نقول لهم هذا في حكم المستحيل لأي عاقل يحسن قراءة التاريخ.

لابد لموجبات التغيير، فيما نرى، أن تُعامل بإلزام يجعلها فروضا سياسية على الكُل. للفَرض معاني كثيرة في اللغة؛ فهو الفكرة يؤخذ بها، في البرهنة على قضية تتطلب حوارا منطقيا. والْفَرْضُ فِي الرِّيَاضِيَّاتِ هُوَ الْمَعْلُومُ فِي مسألة رِيَاضِيَّةٍ لاِسْتِنتاج الْحَلِّ بخطوات تستند على التحليل المنطقي للمعطيات. ومن معاني الفرض المعلومة ما ينبغي عمله كواجب لا يُقبل فيه تقصير، بل يُعاقب (فقهيا) تاركه بسوء المنقلب. فما هي "فروض التغيير" بعيدا، عن الفقه، والذي ليس هو ما نحن بصدد الحديث عنه بالطبع إلا ما كان منه في حدود المجاز. الفرض الأول ، فيما نرى، هو إيقاف هذا العَبَث السياسي الراهن، كخطوة أولى للخروج من الحُفرة التي أشرنا إليها مجازا في المقال السابق. إنه عبثٌ بدأ في الخمسينات من القرن الماضي وبقي فينا الى اليوم، شارك فيه الجميع جهلا أو تصنعا أو جريا وراء المصالح الحزبية والشخصية الضيقة. والفرض الثاني هو نبذ التدخلات الأجنبية كلها، كخطوة أولى، والاصطفاف في جاتب الوطن. بدون هذين الأمرين، كبداية، سنظل نحرث في البحر ونكرر الفشل الذي لازمنا ل 67 عاما.


-ونواصل -


(*) مهندس (CEng FICE) وكاتب في الشأن السوداني
ballah.el.bakry@gmail.com

 

آراء