في حكاية سوء الظن بالعاملين بالخارج.. مشهد درامي نموذجاً … هاشم بانقا الريح
15 September, 2009
hbrayah@yahoo.com
الزمان: الثاني والعشرون من رمضان الحالي (1430هـ)، الموافق الثاني عشر من سبتمبر 2009م. المكان: تلفزيون السودان القومي.. برنامج السهرة.
لم أكن متيقناً حتى تلك اللحظة أن السخرية من السودانيين العاملين بالخارج وسوء الظن بهم قد وصل إلى هذه الدرجة من التناول. كنت-على الأقل- أظن أن سوء الظن هذا لا يعدو أن يكون محصوراً في نطاق ضيق من "الونسة" التي تتناول شأن المغتربين وتضيف شيئاً من المبالغة أحياناً على بعض التصرفات والسلوكيات لهذه الفئة. لكن أن يتولى كِبَر سوء الظن هذا التلفزيون القومي، فهذه _ وأيّم الله – ثالثة الأثافي. وهاكم ما دار في ذاك الحوار الدرامي في ذاك اليوم الذي أشرت إليه في صدر هذا المقال:
الزوج مخاطباً زوجته التي ترتدي ثوباً جديداً يبدو أنه غالي الثمن: "التوب دا جابوا ليك أخوك من السعودية؟"
الزوجة :"هو كان بقدر اجيب توب زي دا كان تمّ بيتو الواقف ليهو خمسة سنين." (انتهى)
مثل هذه المشاهد والحوارات تطرح أكثر من تساؤل: هل فئة المغتربين ، وخصوصاً مغتربي السعودية، الذي خصهم المشهد الدرامي بالذكر، لا يحظون بأي نوع من الاحترام حتى من قبل أفراد أسرهم؟ هل هذه الفئة متهمة بالتقصير والتقتير حتى أصبحت صفة ملازمة لها؟ هل خلق الاغتراب نوعاً من الجفوة والجرأة على السخرية والشماتة حتى من قبل الأخت على أخيها؟ هل ولى ذاك الزمن الذي كان الناس يحلمون فيه بالاغتراب للسعودية، وأن جيوش المغتربين الذين لم يحققوا انجازات مادية قد جعلت من بالداخل يوقنون بعدم جدوى هذا الاغتراب؟
لكن الأهم من كل هذه الأسئلة هو: ما الذي يهدف هذا المشهد الدرامي إلى غرسه في مشاهدي الفضائية السودانية؟ إذا كان هذا المشهد يسعى للقول أن فئة المغتربين لم تعد تلك الفئة ميسورة الحال، وأن انجازاتها على المستوى الشخصي – بناء المنزل مثلاً – باتت متعثرة، فهذا صحيح ولا غبار عليه، ولكنه ليس باباً للسخرية والتهكم. ففئة المغتربين، كما يعلم الجميع وكما بات معلوماً بالمشاهدة والواقع، لديها الكثير من مشاكلها التي تفاقمت في السنوات الأخيرة وأثّرت تأثيراً واضحاً على مستوى دخل هذه الفئة، واستقرارها في أعمالها في دول المهجر، لاسيما دول الخليج.
ليس المجال هنا مجال تزكية وسرد لما قام به العاملون بالخارج من واجبات على مستوى أسرهم، فهناك مواقف وأمثلة كثيرة، ربما لا يتسع المجال لذكرها، يمكن أن تُسجّل لصالح هذه الشريحة في أوقات كانت الأحوال الاقتصادية عصيبة بالوطن. كثيرون لم يحملوا هم أسرهم فقط، بل حملوا هم الوطن معهم أينما ذهبوا. وهذا ليس من باب الإطراء لما قامت به هذه الفئة، ولكنه من باب إيضاح بعض الحقائق التي ربما غابت أو غُيّبت عن مسئولي الفضائية السودانية، وكُتّاب الدراما عندنا وهم يتعرضون للمغتربين.
لا أحد يُنكر السلبيات التي خلّفها الاغتراب على مستوى الأفراد والمجموعات، و لا أحد يدّعي أن فئة المغتربين معصومة من الزلل، ويعتريها ما يعتري النفوس البشرية من ضعف وجزع عند وقوع المصائب والشدائد، ومنع عند نزول الخير، وإن هم إلا من فئة البشر؟
ويأتي هذه المشهد الدرامي الذي يسخر من المغتربين في التلفزيون الحكومي في الوقت الذي اعترفت الحكومة اعترافاً صريحاً وموثقاً بأنها ظلت تمارس الظلم والعقوق في حق مواطنيها العاملين بالخارج. و أقَرّت الحكومة بأن سياستها تجاه المغتربين والمهاجرين كانت ولطوال العشرين عاماً الماضية (جبائية) من خلال استهداف (الجيوب).
واعتذر كمال عبد اللطيف وزير الدولة بوزارة رئاسة مجلس الوزراء عن ذلك، و أعلن في الملتقى السابع للمرأة السودانية المهاجرة بدار الاتحاد العام للمرأة السودانية الذي عُقد في وقت سابق من شهر أغسطس الماضي (2009م)، عن تغييرات كبيرة ستطرأ على سياسة الدولة والجهاز تجاه المهاجرين السودانيين كَافّة، فيما أسماه سياسة رد الجميل.
فهل هذا المشهد الدرامي، من تلفزيون الحكومة، يُمثّل أول أبواب رد الجميل؟
* مترجم وكاتب صحفي يعمل بالمملكة العربية السعودية