في شأن حديث مصطفى البطل.. وحكاية المنفى

 


 

 


khalidkamtour@gmail.com
لـ (محمود درويش):
إلى أين نذهب بعد الحدود الأخيرة؟
أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة
أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير؟
سنكتب أسماءنا بالبخار
الملوّن والقرمزي، سنقطع كفّ النشيد
ليكمله لحمنا
هنا سنموت، هنا في الممر الأخير،
هنا أو هناك سوف يغرس زيتونه.. دمنا
الصديق الكاتب الصحفي ذائع الصيت مصطفى البطل، كتب تعليقاً حصيفاً لامسَ بعض المواطن فيَّ على المنبر الالكتروني المعروف (Sudanray) في سياق تعقيبه على ما أثاره الأديب النابه عبد الله الشقليني، حول الأصالة وتساؤلات الأوبة للقبلية والجهوية في سودان دولة الإنقاذ. فقد لوحظ مؤخراً الارتكاز على مفاهيم كان ينبغي على إنسان السودان العصري أن يتخلَّى ويتنصّل عنها، بفعل التطور المفاهيمي الذي ساد عند كثير من المجتمعات القاطنة على وجه الكرة الأرضية.
جاء من حديث المعماري الأريب – كما يسميه الترجمان أحمد الأمين أحمد – في أمر الأصالة أنها لفظة مهيبة، متسائلاً عن كيفية هذه الأصالة، وهل محض السبق في البقاء بمنطقة ما يُكسب الأصالة؟ ورأى أن في الناس من لا يحصرهم سياج عائلي أوسور قبلي، بل فيهم من يتطلع في انتمائه للإنسان والإنسانية والكون بنباته وكائناته وأجرامه، وأن من يركن إلى القبيلة والتمترس حولها أوان اشتداد الصراع، لهو ضحل الفكر، ويهبط بسقف الصراع إلى ما قبل التاريخ.
 يقول البطل: « السودان حتى وقت قريب كان مبنياً ومؤسساً على بنى دينية وطائفية وسياسية وثقافية ومدنية قومية. مثلاً كنت تجد ختمياً أو أنصارياً في بورتسودان وآخر في الفاشر وثالث في الكرمك ورابع في الرنك، والولاء عند كل هؤلاء مركزي، هكذا مع الانتماءات السياسية، فهناك اتحادي في نيالا واتحادي في حلفا، وقيادة الحزب التي يرنو إليها الاثنان في الخرطوم وصحيفة الحزب الناطقة باسمها تصدر من المركز في العاصمة. تماماً مثلما تجد هلالابي في شندي وهلالابي في ملكال. كانت هذه الولاءات والانتماءات والهويات بمثابة (الغراء) أو الصمغ الذي يجمع السودان ويميز كيانه ولحد كبير يحقق أصالته. هذا بصرف النظر عن طبيعة البرامج والمحتويات الفكرية لهذه الأوعية الجامعة. ونتيجة لعمل سياسي منظم طويل المدى، تعرفه وأعرفه، اتى أُكُله في السنوات الأخيرة، فقد ذاب الجزء الأكبر من هذا (الغراء) وتفتتت جزئياته. ومن الطبيعي في مثل هذه الأحوال أن تتراجع الولاءات والانتماءات. وقد تراجعت بالفعل، فبدلاً من الطائفة أو الحزب القومي الكبير تراجع الولاء والانتماء إلى الاقليم والمركز الجغرافي الأصغر ثم إلى القبيلة والعشيرة وهكذا... أي أن السودان عاد بعد نصف قرن من الاستقلال إلى نقطة الصفر، وكأننا يا زيد لا رحنا ولا جئنا. وهذه بالطبع من أكبر إنجازات (الثورة المنقذة)».
 قاتل الله السياسة وأفاعيلها التي سعت لخلع إزار الوطنية عن بعض أبناء هذا البلد، والأفعال تُحسب على مجترحيها في المقام الأول ولا يُحاسب بها إلا ذووها. لقد لعبت سياسة التمكين (الترابية) والتعنت والغطرسة، دوراً بارزاً في تشجيع التكتلات الجهوية واستشراء النزعات القبلية على أرض السودان منذ مطالع التسعينيات إبان سيادة النسخة الإنقاذية الأولى. وهو أمر دمَّر كثيراً من البنى التحتية الاجتماعية. وإني لأشهد لأقلام بلغت شأواً بعيداً في وطنيتها وفي التنبيه الباكر لخطر تلك السياسات وخطلها البائن. فللدكتور حيدر إبراهيم علي نصيب الأسد في سعيه الدؤوب حينذاك في تقريع النظام ومحاولاته الفردية التي لا تُخطئها العين إلا من رمد. فقد (سردبَ) هو وآخرون معدودون على أصابع اليد في انتقاد بطش السياسات المتلاحقة من قبل السلطات الحاكمة، وشهدنا عصر الاتهامات التي تُكال جزافاً وتُحيل معظم الكتابات الناقدة إلى أنها تمثل ألسنة أجنبية. ولم يكُ حيدراً بدعاً في ذلك، فقد وجَّه قلمه ليس في وجهة (التمكين) وحسب، بل صوّبه شطر سياسات التعليم العالي وأوجه القصور المريع والاهمال الكبير للتعليم الحكومي الذي أغفلته الحكومة، وهو ما أدى  لتفريخ عشرات الجامعات والكليات الخاصة التي يرتادها الموسرون، وكذا الحال بالنسبة للمدارس الثانوية الحكومية التي بُدئت بوأد الثانويات العريقة مثل: خورطقت ووداي سيدنا... وتناوله لغلواء السلطة المتنفذة في أمر (الصالح العام) والتوظيف الخدمي الذي جرى فعله على أساس الولاء السياسي والتنظيمي... والكثير المثير من القضايا المحورية التي تهم إنسان السودان على وجه العموم.
 قاد تفاقم الأوضاع المضطربة في العقد الأول والثاني من التسعينيات إلى خروج أعداد كبيرة من خيرة أبناء هذا البلد مهاجرين.. خرج كثيرون إلى أرض الله الواسعة يبتغون رزقاً وينشدون عيشاً عزَّ الحصول عليه، بعد أن ضاقت عليهم أرض السودان بسمائها الرحيبة. وشهدت المهاجر الأوربية والعربية والأمريكية حضوراً لإنسان السودان لا يدانيه حضور.
 وهذا بدوره يقودنا مباشرة إلى مسألة المنفى الاجباري الذي ينشده المهاجر كُرهاً دون أن تكون له الخيرة من أمره. والمنفى لا يعقله إلا الذي كابده وعايشه بحلوه ومره ورآه بأم عينه. هنا يحضرني قولٌ للراحل الكبير إدوارد سعيد في تجربة المنفى في كتابه (بعد السماء الأخيرة After the Last Sky) الصادر في عام 1986م بقوله: «لقد تبخر من حياتي وحياة الفلسطينيين جميعاً ثبات الجغرافيا وامتداد الأرض.. وحتى لو لم تكن لتستوقف على الحدود أو تساق إلى مخيمات جديدة أو تُمنع من الدخول أو الاقامة أو السفر من مكان إلى آخر، فإن أراضٍ أخرى لنا تُحتل ويجري التدخل في حياة كل منا بصورة اعتباطية وتُمنع أصواتنا من الوصول إلى بعضنا البعض. إن هويتنا تُقيَّد وتُحبس وتحاصر في جزيرة صغيرة خانقة ضمن محيط غير مضياف تحكمه قوة عسكرية عليا تؤمن بالطهارة الخالصة».
 وقريب من قول سعيد هذا، ما رآه د. محسن خضر في كلمته (ثقافة المنفى والمنفيين - مجلة الرافد، العدد 13 أكتوبر 1996م) وهو يحكي عن الشاعر والمسرحي الألماني بريخت أو بريشت (1898-1956م) بقوله: « أما بريخت فقد اختار المنفى لتعارض موقفه الفكري مع عقيدة النازية بعد وصولها إلى السلطة في ألمانيا، وسيواصل من منفاه موقف التحريض وإضاعة الوعي، لا مجرد الحنين إلى الوطن، وتتلبسه رؤية جديدة تجاه اعتقال النازي للتاريخ والجغرافيا في وطنه.. هو نفسه الذي يعترف منكسراً بعد رحلته الطويلة إلى سيبيريا إلى كاليفورنيا "الآن طُردت من بلدي فكان عليّ أن ألتحق بالبائعين في سوق هوليوود حيث يباع الكذب، كنت أشق الممرات القديمة التي أنهكتها خطوات الذين بلا أمل، لم أعرف حينئذ أين أذهب، وحيثما ذهبت تسمع أذني: ما اسمك؟").
 بالعودة لحديث سوق القبلية الذي يجد رواجاً كبيراً في وقتنا الحاضر عند بعض المتعلمين من أبناء السودان، نؤكد على أن هذا البلد ظل متماسكاً لحد ما من خلال هذا النسيج الذي بدا في أوقات الانعطافات والأزمات مثل بيت العنكبوت، أكثر هشاشة. فالركون والاستسلام للنزعات القبلية والجهوية والتمترس خلف لافتاتها المبطنة، لهو أمرٌ بالغ الخطورة في بلد مثل السودان. ولعل السياسات التي نُفِّذت بواسطة الأنظمة الشمولية القابضة على مفاصل السلطة، كانت سبباً جوهرياً في تفريخ المزيد من المتكئين على خلفيات القبيلة من ذوي الأفق المسدود، الذين لا يحسنون النظر بشمولية إلى سائر الأقوام القاطنة أرض السودان.
 ومع ذلك، فإن الآمال ما تزال معلّقة حتى إشعار آخر، في الخروج من ظلام القبلية، والنظر بعدالة إلى هذا الوطن الكبير (بلحيل) – كما يقول شاعرنا العظيم د. مبارك بشير - من المتعلمين والمثقفين وأهل الرأي. فالأمر جدُّ جلل، يستوجب التكاتف والتلاحم على نحو جماعي يكفل للجميع العدالة والتنمية والأمن والاستقرار، ويُخرج أبناء هذا البلد من فخاخ الجهوية القاتلة والقبلية البغيضة.
 - عن صحيفة (الأحداث، الأربعاء 22/4/ 2009م).
 
 

 

آراء