في عز الليل

 


 

 

محمد عبدالرحمن محمود
طبعاً تكونوا أول مرة تسمعوا بحكاية هدب الدغش دي .. بالنسبة لي أنا هذه أول مرة أسمع بالدغش الذي له هدب .. وشوفوا الإمتاع ده كيف والبداية المتسربلة في عز الليل، بالنسبة للتوقيت فإننا نقول الفجر، والظهر، والعصر، والمساء، ومن ناحية أخرى أيضاً نقول (الليل والنهار)، لكن (عز الليل) ما أدوها لينا.. فهو توقيت سنه شاعرنا التجاني حاج موسى. وزي ما عارفين السهر هو قرين الليل .. ومتى حدثت هذه الحكاية؟ أي السهر .. جاء حدوث هذا السهر في مشهد غريب جداً .. فالتوقيت غريب .. ما هو الوقت الذي حدثت فيه الحكاية دي؟! لم يقل الشاعر التجاني حاج موسى أن هذا السهر حدث يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا .. لا لم يقل ذلك بل أبدع في تحديد الوقت أيما إبداع.. قال – ولا فض فوه – (ساعة النسمة ترتاح) بربكم هل سمعتم بهذا التوقيت العجيب .. بالطبع جاز لكم أن تسرحوا خيالياً وتستفسروا وتستغربوا، وهل النسمة تكون متعبة لترتاح؟! .. نعم عند شاعرنا المجيد النسمة ترتاح وتنوم كمان تاركة شاعرنا وحيداً ومساهراً. وزي ما عارفين السهر بيهد الحيل. يبدأ اللحن بالإيقاع ويتخلله الأوكورديون بعذوبة واقتدار .. والكمان يحاكي بعضه بعضاً .. ويبدأ الأستاد عبدالكريم الكابلي بإرسال الكلمات متسربلة مع بصم القلقلة في حرف الباء في نهاية كلمة (هدب) .. هذا للذين يعرفون التجويد .. وعندما يصل لكلمة لـ (هد الحيل) تشعر فعلاً بأن شيئاً ما قد انهدم .. وأن السهر قد هد حيل شاعرنا وأتعبه .. فاجترار الذكرى يحتاج لذاكرة مطبوعة .. وعندما يطرح الكابلي مرافقة الليل له حينها تعرف أنه رغم تلك المرافقة النضيرة، فإنه يتذوق مرارة الجفا .. ومهما حكينا للأفلاك فإنها لن تؤثر في تلك السهرة .. فإننا مساهرين رغم مر الجفا .. وشكوتنا للأفلك بتلك الطريقة: فإننا نظل مساهرين .. وعادة في هذه السهرة لا ينتهي الكلام المباحـ ولن نصل إلى ما يشفي الغليل .. الكابلي بقعد النضم زي ما هو وبكلمات واضحة وضوح الشمس .. ويتصف الكابلي بموسوعة ثقافية ثرة، فهو عندما يغني .. يقدم محاضرة رصينة بألفاظ بديعة .. ومخارج واضحة .. فالغناء عنده سهل ممتنع، وتكاد تتذوق عذوبته بشهولة. يعني لمن يقول (يا مشهيني طعم النوم) تعرف تماماً أن النوم زي ما قال فنان كردفان الدكتور عبدالقادر سالم (النوم جافاني قسمتو لجيراني) .. طبعاً كلمة (مشهيني) دي كلمة سودانية بامتياز، ويخيل لي أنها لم ترد من قبل في بوحنا الغنائي المتواتر والحالي ربما القادم، فهي حكر لشاعرنا الأستاذ التجاني حاج موسى .. ومع اشتهاء النوم يظل طيف المحبوب يحوم .. ويحوم دي خطيرة جداً لأن معها لا يكون هناك استقرار أو هجوع. وعندما يلوم المحب محبه يأتي رقيقاً شفيفاً .. يقول لها (سنين مرت ومروا سنين) .. والمحبوب عارف كل ما يحمله المحب من عاطفة جياشة .. يعني بيقول ليها كفاية (عذاب). ويشكو المحب بأن الحال ياهو نفس الحال لأن صدى الذكرى لا يغادر حال المحب بأي حال؛ لأن الجرح لا يغادر المحب وذلك لأن هذا الجرح مطبوع فيه بالفطرة.
وتأتي الكسرة المختلسة .. ليعانق فيها الأوكورديون الساكسفون في توتر وعناق .. وكمان (الكمان) والأروغون بينهما تلاقٍ وافتراق .. ويُذكِّر المحب المحبوب بأنه (لو حاولت تتذكر تعيد الماضي) .. الماضي الجميل الذي يستحق أن نتذكره فإن ذلك من محال بالطبع، لأن الذي مضى لن يعود .. ويذكر شاعرنا الإنسان بشكل عام ويقول له (بين الذكري والنسيان مسافة قريبة يا إنسان). يعني بيدك أيها الإنسان أن تقرب المسافة التي بين الذكرى والنسيان لحد التلاشي. ويقول المحب للمحبوب (لو حاولت تتذكر .. تعيد الماضي من أول) يعني ترجع بالذاكرة إلى تلك الأيام الرغيدة، فإن ذلك لن يجدي .. لأنك سوف (تلقي الزمن غير ملامحنا وانحنا بقينا ما نحنا) وهذه حقيقة لا جدال فيها .. فالزمن يغير الملامح والقسمات وما يجول في الصدور أيضاً .. ويختمها (وأنا الصابر على المحنة) .. وفعلاً هذه محنة ما بعدها محنة .. فالزمن بالطبع سيغير الملامح وحتى المشاعر التي كان يكنها المحب للمحبوب فإنها عرضة للتغير أيضاً ..

elsayedibraheem58@gmail.com

 

آراء