يمكنا القول إن الفكر الغربي منذ نيتشه مرورا بهيدجر وسارتر وانتهاء بفوكو ودريدا، هو فكر أزمة. وهذه الأزمة أطلق عليها فيما بعد، ما بعد الحداثة، وهي باختصار نقد ورفض ليقم ومبادىء الحداثة التي أرسى دعائمها عصر التنوير الأوربي. ولما كان ذلك فلا يمكنك ان تضع فكر الحداثة وما بعد الحداثة في سلة واحدة لتصدر عنها جميعا من غير أن تقع في التناقض. وهذا هو حال أغلب المثقفين العرب، الذين كل همهم ملاحقة آخر اتجاهات الفكر الغربي حتى يبدوا مواكبين ولا يعنيهم أبدا الموازنة بين هذه الاتجاهات التي هي أصلا ردود أفعال لبعضها البعض، كما لا يعنيهم ربط هذه الاتجاهات بالأحوال والسياقات التاريخية والثقافية والمجتمعية والمزاجية التي أفرزتها. بل يسلمون بكل ما يقوله كل اتجاه جديد حتى لو كان نقيضا لما قبله ما دام صادر عن الغرب "المتقدم"، حتى يمكن القول إن بعض المثقفين العرب لا يعرفون سوى الانسحاق والانمحاق التام أمام اتجاهات الفكر الغربي الراديكالية.
هذا، وقد لفت نظرنا أن الدكتور المسكيني يمزج بين الحداثة وما بعد الحداثة في نسق فكري واحد، ففي الوقت الذي يبالغ فيه بتمجيد الحداثة، نجده يعمل في ذات الوقت على نسف مقولاتها المركزية من خلال ترديده لأفكار فلاسفة ما بعد الحداثة.
الحقيقة يمكن القول إن المسكيني كاتب، ما بعد حداثي، بامتياز. فهو لا يكتفي بالاحتفاء بروىء ما بعد الحداثة في نقد عصر التنوير الأوربي وحسب بل يدعو صراحة إلى "أنوار جديدة" على حد عبارته، بل ويدعو إلى حداثة "بديلة"، ويصطنع أسلوب فلاسفة ما بعد الحداثة في الكتابة وذلك بتعمد الإغراب وتجنب الوضوح المفاهيمي في طرح القضايا واستشكال البدهي الذي ليس هو محل استشكال اصلا، الى جانب الجنوح الى التفلسف التاملي المحض المنبت الصلة بالواقع. وموقف الكاتب المزدوج والمتناقض من الحداثة وما بعد الحداثة، يمكن الاستدلال عليه من الكتاب الواحد. ففي كتابه (الهوية والحرية: نحو أنوار جديدة) 2011 يبدأ بتمجيد مبالغ فيه بالحداثة بالقول: "إن الحداثة لا تصبح رهانا أصليا الا متى صارت مصدرا أصليا لانفسنا. لنقل بعبارة جافة: إن الحداثة منذ الآن هي الماضي الروحي الوحيد للانسانية الحالية". ص22 ثم يردف ذلك بالقول: "كل من يواصل "تتريث" عقله باسم الانتماء الى هذا التراث او ذلك أو "تهوية" ذاته تحت هذا العنوان الهووي أو ذاك هو يؤجل فقط لحظة ولادته الثانية .. نعني لحظة الازمنة الجديدة للإنسانية الحالية التي سماها بودلير "حداثة". ص 39 ولكن ما يلبث المؤلف أن يتخلى في ذات الفصل من الكتاب، عن الحداثة ويتبني ما بعد الحداثة في أكثر من موضع من الكتاب من ذلك مثلا عنوان جانبي يقول: (ابن خلدون في قراءة ما بعد حديثة) ص39. ويبرر هذه النظرة ما بعد الحداثية بالقول: "ونحن نقترح هذا البحث من زاوية الثقافة ما بعد حداثية التي أخذت تلقي بظلالها على وجودنا الحالي. وسوف نبدا بتذكير سريع لمقومات ما بعد الحداثة..". ص41. ليس هذا وحسب بل يعود المسكيني وينقلب انقلابا كاملا على الحداثة ويدعو صراحة إلى حداثة بديلة دون تحديد لملامح هذه الحداثة البديلة بالقول: "لا يتعلق الأمر بنسخة أخرى من الحداثة بل بحداثة أخرى..وعلينا ألا نخجل من البحث عن اسماه نغري 1997 "بدائل الحداثة". إن الحداثة المغايرة هي بديل عن الحداثة يغايرها لانه مولود من مخاض آخر. إنه يجرد الحداثة من سحرها وفتنتها وبخاصة من تعاليها". ص 211. هذا التناقض في موقف الكاتب من الحداثة وما بعد الحداثة يتوجب علينا التعريف بالمصطلحين تعريفا موجزا. وبدءً نقول، عن الحداثة، إن بعض الاتجاهات النقدية في الغرب تفرق بين كلمة modernity للدلالة على المشروع الحضاري الأوربي الذي بدأ مع عصر النهضة والثورة العلمية وعصر التنوير والتحولات المجتمعية واستمر حتى الآن، وبين كلمةmodernism للدلالة على المذاهب الأدبية والفنية الحديثة التي برزت في القرن التاسع عشر وحتى النص الأول من القرن العشرين ابتداءً من الرمزية (بودلير) ثم عزرا باوند وتي إس إليوت وتوظيف تيار الوعي في الرواية كما عند جيمس جويس ويشمل ذلك مذاهب الفن مثل السيريالية وغيرها. لكن البعض يستخدام مصطلح modernism ليشمل كل الابعاد الفكرية والاجتماعية والعلمية والأدبية والفنية للمشروع الأوربي وهو ما يدل عليه أيضا مصطلح "حداثة" في الكتابات العربية. لذلك يمكن القول إجمالا إن الحداثة بالمعنى الفكري والاجتماعي والفلسفي، مصطلح يطلق على المشروع الحضاري العقلاني الغربي الذي بدأ مع عصر النهضة الأوربية وبروز النزعة الانسانية humanism التي تعلي من القيم الانسانية و"الهوية" الانسانية الكونية المشتركة والتي تجسدت في فلسفة عصر التنوير ومبادىء الثورة الفرنسية وكانت نتيجة هذا المشروع الثورة الصناعية والتقدم العلمي وتاسيس الدولة المدنية الحديثة. وأهم ما يميز هذا المشروع الإيمان بالعقل وحده أداة للمعرفة والتحرر والانعتاق وتكريم الإنسان باعتباره سيد نفسه ومصيره واحترام الإنسان من حيث كونه انسان بغض النظر عن جنسه أو لونه أو عقيدته والإيمان بالعلم وسيلة للتقدم والسلام ولغاية تحقيق إنسانية الإنسان ورفاهيته. وذلك دون اغفال لانحرافات هذا المشروع الحضاري عن مساره الإنساني التقدمي وتجلي ذلك في ظاهرة الاستعمار الامبريالي للشعوب الأخرى وما صاحب ذلك من ممارسات عنصرية وغير إنسانية وقاد إلى حروب محلية وإقليمية وكونية عانت منها البشرية الكثير من الويلات. أما بعد الحداثةpostmodernism فهو مصطلح يطلق على الاتجاهات الفلسفية والأدبية التي ظهرت رد فعل للحداثة والتي تهدف إلى نقد المرجعيات المركزية التي تأسست عليها الحداثة مثل مبادىء عصر التنوير الأوربي، وعلى رأس هذه الاتجاهات: البنيوية والتفكيك وغيرها، ومن أبرز فلاسفة ما بعد الحداثة: نيتشه وهيدجر وفوكو ودريدا وجيل ديلوز ورولان بارت وغيرهم. ويستلهم فلاسفة ما بعد الحداثة الكثير من أفكارهم لنقد الحداثة من الفليسوف الألماني الشهير فردريك نيتشه والذي سبقهم إلى نقد مشروع الحضارة الأوربية الإنساني الذي اصطلح على تسميه بالحداثة. وأول من قدم تشخيصا لحالة ما بعد الحداثة هو الفليسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جان فرنسوا ليوتار وذلك بكتابه الموسوم The Postmodern Condition (حالة ما بعد الحداثة) والصادر في 1979. وكلمة "حالة" أصح وأبلغ من كلمة "وضعية" التي نجدها في بعض الترجمات العربية وذلك إن "مابعد الحداثة" هي فعلا حالة مرضية عارضة أصابت الفكر الغربي وجعلته ينقلب إلى ضده. يقول ليوتار بمقدمة الكتاب إنه: "يهدف من هذه الدراسة إلى النظر في حال المعرفة في المجتمعات الأكثر تقدما". وأنا أنقل هنا مباشرة من النص الإنجليزي للكتاب. ويفرق ليوتار بين الحداثة وما بعد الحداثة، قائلا: "أنا استعمل مصطلح modern حديث بمعنى كل معرفة أو علم يستمد مشروعيته من الاستناد إلي grand narrative نظرية مرجعية كبرى مثل، جدل الفكر أو تحرير العقل أو تحرير الذات العاملة أو تكوين الثروة، أو من تفسير أو تأويل للمعنى مثال ذلك القاعدة القائلة إن الحقيقة التي تدل عليها أي لفظة أو عبارة يعتمد فهمها على المعنى العقلاني المشترك بين قائل العبارة ومتلقيها. كل ذلك اسميه مشروع فلسفة التنوير حيث الغرض من المعرفة الإنسانية بلوغ غاية أخلافية أو سياسية كونية مثل السلام الشامل والعدل الخ.". يلاحظ أن ليوتار استخدم في الاقتباس أعلاه مصطلح grand narratives والذي تُرجم في العربية الى "السرديات الكبرى" وهي ترجمة حرفية بائسة لا تؤدي المعنى المراد في هذا السياق. والترجمة الصحيحة هي: "النظريات أو المشاريع الغائية الكبرى". أما ما بعد الحداثة فيقول عنها ليوتار: "أحدد postmodern ما بعد الحداثي بإنه الارتياب والتشكيك في metanarratives النظريات الغائية والمشاريع الكونية الكبري".، والتي كان يسعى إليها عصر التنوير الأوربي مثل سيادة العقل والتقدم الإنساني وتحقيق السلام الشامل والعدل وبلوغ الحقيقة وتحقيق إنسانية الإنسان. فلما كان ذلك فمالنا، وما بعد الحداثة، ونحن الذين لا نزال نجاهد بشق الأنفس، لتأسيس العقل والحداثة؟! ومن أهم المنظرين الذين شخصوا أعراض ما بعد الحداثة تشخيصا دقيقا شاملا، تيري إيجلتون المفكر الانجليزي وأستاذ النظرية الأدبية المشهور، بجامعة مانشيستر، وذلك بكتابه الموسوم The illusions of postmodernism (أوهام ما بعد الحداثة) والصادر في 1996. وبيدي الآن النص اTنجليزي الأصلي للكتاب لكني سوف أنقل عن ترجمة ثائر ديب الممتازة للكتاب. يقول إيجلتون في تعريف ما بعد الحداثة: "ما بعد الحداثة هي أسلوب في الفكر يبدي ارتيابا بالأفكار والتصورات الكلاسيكية كفكرة الحقيقة والعقل والهوية والموضوعية والتقدم أو الانعتاق الكوني والأطر الأحادية والسرديات الكبري أو الأسس النهائية للتفسير. وهي ترى العالم بخلاف معايير التنوير هذه، بوصفه طارئا عرضيا، بلا أساس، متباينا، بعيدا عن الثبات، وبعيدا عن الحتمية والقطعية وبوصفه مجموعة من الثقافات أو التاويلات الخلافية التي تولد قدرا من الارتياب حيال موضوع الحقيقة والتاريخ والمعايير والطبائع المتعينة والهويات المتماسكة". أوهام ما بعد الحداثة، ترجمة ثائر ديب، ص 7و8. يلاحظ القارىء أن نقد "الهوية" بوصفه أحد مميزات، ما بعد الحداثة، وردت الإشارة إليه مرتين في هذا الاقتباس. والمقصود بالهوية هنا الهوية الإنسانية أو "الطبيعة الانسانية" المشتركة. وهذا ما ترفضه ما بعد الحداثة. فهي ترى أنه لا وجود لهوية وقيم انسانية كونية. يقول تيري إيجلتون: "إذا كانت الإنسانوية تعني الإيمان بجوهر إنساني أو طبيعة إنسانية مشتركة، بالمعنى الذي يشير إلى خصائص معينة تتقاسمها الكائنات البشرية بفضل إنسانيتها، ولها مكوناتها أو مقتضياتها الأخلاقية والسياسية، فهذا المعنى هو ما يرفضه ما بعد الحداثيين بوجه عام، وهو المعنى الذي يحرص خصومهم على الرفع من شأنه". أوهام بعد الحداثة، ترجمة ثائر ديب ص 232. على أن القول بهوية وقيم كونية إنسانية مشتركة، لا ينفي الخصوصية الثقافية والحضارية للأمم والجماعات، بل أن الاعتراف بهذه الخصوصية من أهم مبادىء "النزعة الانسانية" التي جعلت أوربا تلتفت لأول مرة إلى الاهتمام بدراسة الحضارات الأخرى للأمم وذلك منذ بداية عصر النهضة الأوربية. وفي الوقت الذي لا تعترف فيه ما بعد الحداثة بهوية إنسانية كونية مشتركة توحد بين بني البشر، تراهن على تعدد الهويات الإنسانية والثقافية وعلى الاختلاف والمغايرة. وهذا ما يقر به الكاتب نفسه حين يقول: "نحن اليوم في أفق ما بعد الحداثة كأفق جديد أخذ يقترح علينا شيئا سماه هيبرماس "تغيير الحداثة من أفقها". وأكبر إمارة على هذا التغيير في الأفق هو العمل على الانتقال من ثقافة الذات الحديثة الحريصة على التأسيس، إلى ثقافة العيش معا بين الهويات". الهوية والحرية، ص46 ثم يردف قائلا: "إنه في هذا السياق بالتحديد كفت الأديان والثقافات غير الغربية عن الظهور في مظهر الآخر والأجنبي والغريب، وتحولت الى صيغة لينة من الانتماء المبني على التعدد والتنوع والاختلاف بين الهويات والثقافات التي لا تملك أي واحدة منها أي سيادة وجودية على الأخرى، وإنما هي مطالبة فقط بتوفير "سياسية انتماء" الى نادي الإنسانية" المصدر السابق، ص 47. وهذا اعتراف صريح من الكاتب بالهوية بالمعنى الأنثروبولوجي والقومي والثقافي والديني ودعوة إلى تعدد وتنوع الانتماءات والهويات الذي بنى مشروعه على رفضها. وبذلك يكون بهذا الاعتراف قد نسف مشروعه بنفسه، ولم يترك مزيدا لمستزيد. غير أن قول الكاتب إن: "الانتماء المبني على التعدد والتنوع والاختلاف بين الهويات والثقافات التي لا تملك اي واحدة منها أي سيادة وجودية على الاخرى، وانما هي مطالبة فقط بتوفير "سياسية انتماء" الى نادي الإنسانية" هو من منجزات ما بعد الحداثة، قول غير صحيح البتة. بل الصحيح تاريخيا هو أن الاعتراف بالتعددية الإثنية والقومية والثقافية والدينية هو من أهم منجزات مشروع الحداثة الإنساني العقلاني الليبرالي الذي بدأ منذ عصر النهضة الأوربية مرورا بثورة الاصطلاح الديني واقرار مبدأ علمانية الدولة وشيوع مبادىء عقل التنوير وقيام الثورة الفرنسية ونشوء الديمقراطيات الليبرالية الحديثة. الغريب أن المؤلف يقر بهذه الحقيقة التاريخية حين يحمِّل الحداثة المسئولية عن الاعتراف بالهويات المتعددة في الكتاب نفسه حيث يقول بالمقدمة: "أليست الهوية نفسها جهازا من أجهزة الحداثة بل من أجهزة الدولة مهما كان شكلها؟ إنّ الحداثة، وليس الأديان، هي التي اخترعت فكرة الهوية، مثلما خلقت أيضا مقولات "السيادة" و"الإقليم" و"العَلَم" و"الوطن". ص14 ثم يؤكد ذلك بالقول بمتن الكتاب: "إن من يتصفح كتابات الجيل الأخير من المدافعين عن مشروعية الحداثة (مثل تايلو ورورتي او ريكور وهبرماس) إنما ينتبه أن الهاجس الرئيس للفترة الأخيرة من الفلسفة المعاصرة .. هو هاجس هووي. لأن الحداثة اليوم قد اصبحت فجاءة مشكلا هوويا في المقام الأول". الهوية والحرية، ص 132 فكيف تكون مع الهوية بالمعنى التاريخي والقومي والثقافي والديني وتكون ضدها في ذات الوقت؟! اللهم إلا إذا كان المؤلف يهدف إلى الإقرار فقط بهوية الآخر ورفض الهوية في حق الذات. وفي أقواله ما يشير إلى ذلك مثل دعوته بكتاب (الهوية والزمان) إلى نقل سؤال: "من نحن؟" إلى: "مَنْ؟". ومثل اقتراحه الوارد بالاقتباس أعلاه، "العمل على الانتقال من ثقافة الذات الحديثة الحريصة على التأسيس، الى ثقافة العيش معا بين الهويات". الهوية والحرية ص46 فكيف تدعو للعيش معا بين الهويات وترفض للذات أن تعيش هويتها؟!! ثم ألا يتعارض اقراره هنا بثقافة العيش معا بين الهويات، مع دعوته إلى "ذات بلا هوية"؟! نحو أنوار جديدة أم نحو عدمية نيتشوية: يصف فردريك نيتشه فلسفته بأنها فلسفة عدمية شاملة ومدمرة. وقد وضع كتابا كاملا للحديث عن هذه العدمية هو (إرادة القوة: محاولة لقلب كل القِيّم) حيث يفاخر في هذا الكتاب بانه "أول عدمي كامل في أوربا". ويعرِّف العدمية التي يدعو إليها بالقول: "العدمية شرط طبيعي: العدمية غياب الهدف، هي الإجابة على السؤال: لماذا؟- ما معنى العدمية؟ أن تفقد أعلى القيم قيمتها". ترجمة محمد الناجي، ص 13 ويضيف: "تبلغ العدمية ذروتها حين تصير قوة تدميرية عاتية" ص 14 والحقيقة كل كتب نيتشه الأخرى هي في بسط وتفصيل نظرته العدمية. ثم جاء مارتن هيدجر وتبنى فلسفة نيتشه العدمية بالكامل ودافع عنها بضراوة ومن بعده فعل فوكو ودريدا. في مقاله (نيتشه: أفول المتعالي) يشرح هيدجر كلمة نيتشه: العدمية هي أن تفقد أعلى القيم قيمتها، بالقول: "يتصور نيتشه العدمية كسيرورة تاريخية. ويفسر هذه السيرورة بافراغ القيم التي هي عليا حتى الآن من قيمتها: الله، العالم الفوق حسي، كعالم موجود وبحق ومهيمن، المُثل العليا والأفكار، الغايات والأسباب التي توجه كل الموجودات وخاصة الحياة الإنسانية. وما يزال الرأي الشائع إلى يومنا يفهم هذه القيم العليا باعتبارها ما هو حقيقي: خير وجميل". هيدجر، الفلسفة، الهوية والذات، ص76 ومعلوم أن هيدجر في كتابه (الكينونة والزمان) جعل من الوصول إلى مرحلة استشعار "العدم" شرط ضروري لتحقيق الوجود "الأصيل" للذات الانسانية في العالم، وذلك على النحو الذي سبق بيانه أعلاه. أما في العالم العربي فقد بدأ تأثير نيتشه على المثقفين العرب مبكرا مع جبران وسلامة موسى وآخرين، واشتد تأثيره مع رواج الوجودية في الأربعينات والخمسينات وحتى الستينات. ثم خبأ بريق نيتشه في عقد السبعينات، ولكن ما لبث أن عاد بقوة إلى الأضواء وذلك إثر اكتساح التفكيك للمشهد الثقافي العربي في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. ومعلوم أن جاك دريدا قد أسس فلسفة التفكيك، العدمية هي الأخرى، استنادا إلى هيدجر ونيتشه. والدكتور فتحي المسكيني مفتون بنيتشه كما هو بهيدجر. فقد أفرد المسكيني لينشته فصلا خاصا بكتابه (الهوية والزمان) 2001 كما خصص له فصلين من كتابه (الهوية والحرية: نحو أنوار جديدة) 2011. وقد حاول المسكيني في كتابه (الهوية والزمان) وهو الكتاب الأول في مشروعه لنقد الهوية، أن ينأى بنفسه عن نزعة نيتشه العدمية، بل وحاول أن يشجبها أحيانا. يقول: "الخطابة العدمية، بما هي نقد جذري للعقل- الذات الحديث، صارت مهمة مركزية لقسم واسع من الفلاسفة المعاصرين من نيتشه إلى فوكو". الهوية والزمان، ص 11 ويصف هذه الخطابة العدمية، لدى بعض الكتاب العرب، بأنها "لا ترى من إمكانات التفلسف المتاحة راهنا غير النقد الجذري أو الأداتي للعقل. والحال أن العقل نفسه لم يصبح لدينا بعد مؤسسة علمية أو مدنية ينبغي نقدها أو التخلص منها". المصدر السابق، ص16 ولكن المسكيني عاد وتبنى فلسفة نيتشه العدمية بقوة وذلك في كتابه (الهوية والحرية: نحو أنوار جديدة) 2011 وعبارة "أنوار جديدة" الواردة بعنوان الكتاب مأخوذة مباشرة من نيتشه، إذ يقول المسكيني بمقدمة الكتاب: "إن الفلسفة هي فن البحث عما اسماه نيتشه ذات شذرة "أنواراً جديدة". ولا شك ان نيتشه يقصد بهذه "الأنوار الجديدة" فلسفته المضادة لفلسفة "الأنوار" الأوربية التي تأسست عليها الحداثة والتي يشن عليها نيتشه هجوما شرسا لا هوادة فيه. وقد استلهم فلاسفة ما بعد الحداثة كل نقدهم للحداثة: مثل نقد العقل، والحقيقة، والقيم والأخلاق الإنسانية، ونقد مبادىء فلسفة التنوير الأوربي، ونقدها للهوية والذات والوعي والطبيعة الإنسانية المشتركة، استلهموه مباشرة من أراء نيتشه الصريحة والواضحة والقاطعة. ولكن المسكيني لا يحدثنا عن هذه "الأنوار الجديدة" التي جعلها جزءا من عنوان الكتاب، سوى حديثه المبهم والمقتضب عن حداثة "بديلة" والمشار إليه آنفا، ولكن من الواضح أن الكاتب يقصد بالأنوار الجديدة، مشروع نيتشه المضاد للحداثة. فقد خصص المؤلف فصلا كاملا بالكتاب جاء بعنوان (نيتشه والأنوار الجديدة)، غير أنه اكتفى في هذا الفصل، بترديد هرطقات نيتشه اللاهوتية ونقده للأديان والتأمل في شطحاته في الاعجاب بنفسه، حيث يصف نفسه: بأنه الفيلسوف الأخير، وبأنه الشاعر النبي، وبأنه الإله دينزيوس، إلى غير ذلك من الألقاب التي تكشف عن جنون عظمته. وبرغم أن المؤلف يطرح سؤالا وجيها: "من هو نيتشه الذي يهمنا؟" الهوية والحرية، ص 184 إلا أنه لا يتحدث عن نيتشه الذي يهمنا بالفعل، وهو مشروعه المضاد للحداثة، كأنما هذا المشروع محصور فقط في رفض الأديان. ثم يتسائل المؤلف: "فما علاقتنا نحن بنيشة القادم إلينا من المستقبل وليس من ماضي ثقافة أخرى كما نظن". المصدر السابق، ص 191. ثم يردف بالقول: "لا شك أن نيتشه سيطرح علينا اسئلة من قبيل: ما الذي جعل الإله الإسلامي بصحة جيدة إلى الآن؟ كيف واصل هذا الإله حياته العادية بعد موت الإله الأخلاقي في أفق الإنسانية الأوربية؟. المصدر السابق، ص 192. إن قيمة نيتشه الفلسفية في الغرب لا تكمن في الحاده أو نقده للدين لأنه ببساطة ليس أول فيلسوف ملحد ولا أول فيلسوف ينتقد الدين. فحتى في التراث الإسلامي هنالك فلاسفة وشعراء ملحدون جاهروا بالحادهم، (انظر: عبد الرحمن بدوي، الالحاد في الإسلام). ولكنه قيمة نيتشه الحقيقة بالنسبة إلينا، تكمن في أنه أول فيلسوف غربي يطرح مشروعا مضادا للحداثة الأوربية. وهذا المشروع مطروح في كل كتبه وبكل وضوح ومن غير مواربة، ولا غموض، كما يفعل فلاسفة ما بعد الحداثة الذين أحيوا هذا المشروع. ولكن مشروع نيتشه في نقد الحداثة مسكوت عنه دائما في الكتابات العربية المفتونة فقط بنقد نيتشه للدين. إن نيتشه في نقده للحداثة لم يأت إلينا من المستقبل كما ذكر المؤلف، بل جاء إلينا من الماضي السحيق، ماضي التخلف الذي تجاوزته الإنسانية بفضل الحداثة ودفعت من أجل ذلك أثمان باهظة من الأرواح والدماء والدموع. إن مشروع نيتشه الذي يقدمه بديلا للحداثة مشروع "رجعي" بكل ما تحمله كلمة "رجعية" من معاني. إن نيتشه يريد أن يعود بنا إلى عهود العبودية والاقطاع والحريم وسيادة النبلاء وحكم الأباطرة والقياصرة ويرفض حكم الشعوب والجماهير ويصفها بالعبيد ويصف الثورات التي قامت بها من أجل التحرر والانعتاق مثل ثورة الاصلاح الديني والثورة الفرنسية بثورات العبيد والرعاع والقطيع ضد السادة. ومن هنا جاءت حملته الشرسة ضد الديمقراطية والليبرالية والعدالة الاجتماعية والمساواة وحقوق العمال وحقوق المرأة. وفوق ذلك يرفض نيتشه العقل وسيلة للمعرفة ومعيارا للحقيقة، بل ويرفض الحقيقة، والقيم والأخلاق الإنسانية مثل الشفقة والتراحم وإيثار الغير "الغيرية" والزهد التي نادت بها الأديان والفلسفات العقلانية وينادي صراحة إلى أن نعيش الحياة وفقا للغريزة الطبيعية فقط استنادا إلى مبدأ "إرادة القوة" وسيادة الأقوياء لذلك يمجد الحرب ضد السلم ولا يحفل بالضعفاء من عامة الناس. هذا هو بإجمال مشروع نيتشه أي "أنواره الجديدة" التي يدعونا إليها بديلا للحداثة. وسوف ندلل على كل ما ذكرناه باقتباسات مباشرة من كتبه وليعذرنا القارىء على الإطالة. فهو يقول عن الديمقراطية: "نحن لا نعتبر الديمقراطية صورة انحطاط في التنظيم السياسي وحسب بل صورة انحطاط الإنسان". من وراء الخير والشر، ترجمة جيزيلا حجار، ص 151 ويقول عن الليبرالية: "لا بد من توفر إرادة وغريزة لمناهضة الليبرالية حد الشراسة". غسق أو أفول الأصنام، ترجمة على مصباح، ص 149 وإذا ما توفرت مثل هذه الإرادة سوف: "يتأسس عندنا شيء مثل الإمبراطورية الرومانية أو مثل روسيا- يقصد روسيا القيصرية- القوة الوحيدة النقيضة للدويلات الأوربية البائسة". المصدر السابق ص 151 لكل ذلك يشن هوجما شرسا على الثورة الفرنسية فيقول في سياق نقده لجان جاك روسو صاحب (العقد الاجتماعي) الذي تأسست عليه الديمقراطية الليبرالية وحكم الشعوب: "لقد كان نابيلون نوعا من العودة إلى الطبيعة على النحو الذي أفهمه من العودة إلى الطبيعة. أما روسو فإلى أي شيء يريد أن يعود هذا الرجل؟ هذا الإنسان الحديث الأول: مثالي وسوقي.. كان يريد العودة إلى الطبيعة هو أيضا. إلى أين كان يريد روسو أن يعود؟ أمقت روسو في الثورة أيضا. إنها التعبير التاريخي الكوني عن المثالي السوقي. ما أمقته فيها هو الأخلاقية الروسوية، الحقائق المزعومة للثورة التي تجعلها ما تزال قادرة على التأثير وعلى إقناع كل مسطح ورديء". المصدر السابق ص 163 وعن دفاعه عن نظام الرق والعبودية ورفضه للمساواة والحرية يقول: "كل إعلاء للطراز المسمى إنسانا كان حتى الآن وسيبقى أبدا من صنع مجتمع استقراطي ما، بوصفه مجتمعا يؤمن بسلم طويل من المراتب والفوارق والقيم بين إنسان وإنسان، مجتمعا في حاجة إلى العبودية بمعنى من المعاني". من وراء الخير والشر، ص243. لذلك فإن الإنسان "السوبرمان" الذي يدعو إليه نيتشه ما هو إلا الإنسان الاستقراطي وليس الفرد العادي الحر الديمقرطي. لذا فإنه يقول عن نظرية المساواة: "نظرية المساواة! ليس هنالك سم أكثر تسميما من هذه النظرية". غسق أو أفول الأصنام، ص 163. وتبعا لذلك يرفض الحركة العمالية فيقول: "إن الغباء أو انحلال الغرائز الذي نشأ عنه كل أنواع الغباء اليوم هو السبب في وجود شيء اسمه: مسألة عمالية.. إن كنا نريد عبيدا، فإننا سنكون حمقى إذا ربيناهم تربية أسياد". المصدر السابق ص164. كما يرفض حركة تحرير المرأة ويدعو إلى اضطهادها حيث يقول بكتابه (بمعزل عن الخير والشر): "فأما الرجل العميق في روحه ورغباته والعميق أيضا في عطفه وصرامته وقسوته لا يمكنه أن يفكر في المرأة إلا على الطريقة الشرقية دائما. أعني لا بد أن ينظر إلى المرأة على أنها شيء يمتلك وعلى أنها متاع محجوب وعلى أنها شيء كتب عليه مقدما أن يستعمل في الخدمة المنزلية وأن يحقق ذاته فيها". المصدر السابق، ص 206 (اقتبسه أيضا: فؤاد زكريا، نيتشه ص124). ويذهب نيتشه في كتابه (أفول الأصنام) أبعد من ذلك ويرفض الزواج القائم على الحب ويعتبره انحطاطا للحداثة: "أفضل شاهد على انحطاط رجال السياسة هو الزواج العصري.. المأخذ على الحداثة.. كانت حكمة الرابطة الزوجية تكمن في حصر المسؤولية القانونية في الرجل..لا يمكن أن تؤسس رابطة زوجية على قاعدة الحب إنما تتأسس الرابطة الزوجية على الغريزة الجنسية وعلى غريزة التملك، تملك المرأة وتملك الطفل، وعلى غريزة السيطرة". ص 149. وقد اشتهرت كلمته المرعبة الواردة بكتابه (هكذا تكلم زرادشت): "أذاهب إلى المرأة؟ إذن لا تنسى أن تأخذ معك السوط!". ترجمة علي مصباح ص 133. ويقول فؤاد زكريا "إن رأي نيتشه في المرأة عادة ما يلخص بهذه الكلمة المشهورة". ص122. أما القيم والأخلاق الانسانية العقلانية النبيلة فيوجه لها نيتشه أعنف نقد. وجدير بالملاحظة أن نيتشه في نقده للأخلاق لا يستهدف أخلاقا بعينها، حتى يقال إن نقده لها تاريخي نسبي. لكنه ينتقدها في أصولها، الأصول المنشئة لهذه الأخلاق والقيم فيما يصفه بالجينالوجيا و(جينالوجيا الأخلاق) أو (أصل نشاة الأخلاق) عنوان أحد كتبه. غير أن الانصاف يستدعي القول إن نيتشه برفضه للقيم والأخلاق لا يدعو إلى الانحلال والإباحية بالمعنى الفج، ولكنها دعوة إلى الفردية المطلقة في النظرة إلى الأمور فهو يرى في الإذعان للأخلاق ترسيخا لحياة "القطيع". ويخلص الدكتور فؤاد زكريا من مناقشة هذه المسألة إلى أن نيتشه ينتقد الأخلاق بوجه عام وليس أخلاق بعينها: "على أن في تفكير نيتشه من الأراء ما نعتقد أنه يؤيد القول بإنه كان في كثير من الأحيان يعني باللاأخلاقية خروجا عن الأخلاق في عمومها، لا عن الأخلاق السائدة وحدها". نيتشه ص79. ويستدل على ذلك بقول نيتشه:" إن أحدا لم يختبر قيمة ذلك الدواء الأشهر، المسمى بالأخلاق، وهذا ينطوي على وضع الأخلاق موضع الشك، حسنا: إن هذا هو عملنا". العلم المرح. فقرة 34. ثم يستدل على ذلك بالقول: "فدعوة نيتشه إلى الوقوف بمعزل عن الخير والشر، لابد أن تعني استقلالا عن الأخلاق بوجه عام، لا عن أخلاق معينة. أي أنها دعوة إلى الكف عن تقدير الأمور من خلال قيمتي الخير والشر". فؤاد زكريا، نيتشه ص 99. ولكنا سنورد الكثير من الأمثلة الدالة على أن نيتشه ينتقد الأخلاق بوجه عام. ففي كتابه (أصل نشاة الأخلاق) أو جينيالوجيا الأخلاق، ينتقد الأخلاق المسيحية ويخلص إلى أنها ولدت من روح الأضغان وليس من الروح كما هو الاعتقاد السائد. وإن المسيحية هي "ثورة على سيادة القيم النبيلة". ويقول:"إن الضمير ليس هو صوت الله داخل الإنسان كما هو الاعتقاد السائد بل هو غريزة القسوة الشنيعة التي ترتد إلى الداخل عندما تغدو عاجزة عن إفراغ شحناتها في الخارج". ولما كان "نكران الذات" و"الغيرية" منشأ لفضائل مثل الشفقة والتراحم والزهد يشن عليها نيتشه هجوما عنيفا فيصف الشفقة بأنها أخلاق العبيد "التي تطمع في السيادة وتسميها حرية". من وراء الخير والشر، ص 90. ويصف التراحم بأنه "من عوارض النكوص". المصدر السابق ص 185. ويقول: "إن أخلاقيات نكران الذات هي أخلاق الانحطاط بامتياز". ويقول: "إن فكرة نكران الذات والغيرية هي العلامة المميزة للانحطاط". المصدر السابق ص 259. ومقابل ذلك يمجد نيتشه "الأنانية" و"الغريزة الطبيعية" ويصفها بأنها أخلاق السادة والنبلاء. يقول: "إن الأنانية تنتمي إلى جوهر النفس النبيلة، وأقصد بها ذلك الاعتقاد الراسخ بأن كائنا مثلنا يجب أن تخضع له كائنات أخرى وتضحي بأنفسها لأجله". أفول الأصنام، ص 25. ولذلك يقسم نيتشه المجتمع تقسيم أبدي بالميلاد إلى فئتين: سادة نبلاء وعبيد. وينظر إلى مراحل التاريخ البشري في كتابه (أصل نشاة الأخلاق) من خلال الصراع بين السادة والعبيد (الشعب) فيقول: "في العصر اليوناني والروماني تسود أخلاق السادة، وتكون الغلبة للأقوياء، ثم تنتصر أخلاق العبيد على يد اليهودية والمسيحية، ويقهرون الأستقراطية الرومانية، ويسود الضعفاء والمتخاذلون." الفقرة 16. "وفي العصر النهضة الأوربية تعود أخلاق السادة بالرجوع إلى المثل العليا اليونانية، ولكن تقهرها حركة الاصلاح الديني، وهي حركة شعبية أثارها الضعفاء والعوام. وتعود أخلاق السادة عند نبلاء القرنين السابع عشر والثامن عشر ليقهرهم العبيد مرة أخرى في عهد الثورة الفرنسية. وتظهر أخلاق السادة في الأفق على يد نابليون، ولكن سرعان ما تعود أخلاق العبيد بعده إلى الظهور". فؤاد زكريا، نيتشه ص 94و95. أما عن نقده للعقل فيقول: "لم يتولد عن العقل خلال الأزمان الهائلة الماضية سوى الأخطاء". العلم المرِح، ترجمة حسان بورقية، ص 123. ويقول: "ابتدعت فكرة الروح والعقل بهدف تحقير الجسد وإصابته بالمرض، بالقداسة". هذا هو الإنسان، ترجمة علي مصباح، ص 163. وهو في نقده للعقل لا يستهدف عقلا تاريخيا نسبيا بعينه ولكنه يستهدف العقل من حيث هو عقل. إذ يشن هجوما عنيفا على كل من سقراط وافلاطون لاتخاذهما العقل أساسا للفلسفة والمعرفة والمنطق والأخلاق: "لقد رأيت في كل من سقراط وافلاطون عرضيَ انحلال". أفول الأصنام، ص 26. غير أن سقراط بوصفه أبا الفلسفة العقلية واستاذ افلاطون ينال النصيب الأكبر من السخط. يقول: "مع سقراط تدهور الذوق الإغريقي لصالح الجدل.. هنالك ذوق رفيع قد انهزم. ارتقى الرعاع بفضل الديالتيك. قبل سقراط كانت السلوكيات الجدلية تقابل بالرفض داخل الأوساط الراقية". المصدر السابق ص 27. أما عن الحقيقة فيقول نيتشه: "الحقائق أوهام نسينا أنها كذلك". ويقول: "الحقيقة هي البطلان" ويقول: "أفول الأصنام" وهو عنوان أحد كتبه: "تعني بعبارة أوضح نهاية كل الحقائق". ص137. والبديل الذي يقترحه نيتشه للعقل والأخلاق، هو "الحياة" حياة الغريزة الطبيعية. ونيتشه معجب جدا بحياة الإغريق قبل سقراط التي يقول إنها كانت تمجد حياة الغرائز الطبيعية. لذلك يرى في معادلة سقراط: عقل يساوي فضيلة تساوي سعادة، بأنها: "مناقضة لكل الغرائز الهيللينية القديمة". المصدر السابق ص 33. وردا على ذلك يقول: "ضرورة مكافحة الغرائز، هي القاعدة التي يتأسس عليها الانحطاط: فطالما ظلت هنالك حركة فإن السعادة تساوي الغريزة". المصدر السابق ص 32. ويقول إن "ارتماء الفكر اليوناني برمته في المنحى العقلي يفشي حالة أسى". المصدر السابق ص26. ويرمز نيتشه إلى حياة الغريزة الطبيعية، بالإله الإغريقي "دينزيوس" فيصف نفسه تارة بأنه أحد تلاميذه وتارة أخرى بأنه الإله دينزيوس نفسه. فهو "يقوِّم الحياة من خلال فكرة الأبولونية والديونيزية: فقد تنازعت العالم فترات سادتها الروح الأبولونية، أعني روح النظام والوضوح والتحدد، وأخرى سادتها الروح الديونيزية، أعني روح الاندماج بالطبيعة والخضوع للغريزة التلقائية. وتنازعت كل من هذين الروحين حياة الإغريق القدماء، حتى أتى سقراط، فسجل انتصار الروح الأبولونية، وظل هذا الانتصار سائدا إلى يومنا هذا". فؤاد زكريا، نيشته ص 50. وسيادة الروح الديونيزي هو ما يسميه نيتشه "إثبات" إرادة الحياة، حياة الغريزة الطبيعية، على النحو الذي كان يحياه قدماء الإغريق قبل سقراط مقابل "نفي" إرادة الحياة التي تدعو إليها الأخلاق والقيم والعقل. وهذا ما يصفه جاك دريدا بالإثبات النيتشويNietzchean Affirmation البهيج الذي يقدمه في مشروعه التفكيكي بديلا لمركزية العقل. (انظر: دريدا، الكتابة والاختلاف، الترجمة الإنجليزية ص 292). وبعد، هذه "أنوار" نيتشه التي يقترحها بديلا لـعقل "الأنوار" الأوربية، وهذا هو نيتشه الذي يهمنا ويتجنب أنصار ما بعد الحداثة الحديث عنه، وعلينا مواجهته بكل وضوح وبعيدا عن مزايدات فلاسفة ما بعد الحداثة، وما يمارسونه من إرهاب فكري من خلال أسلوبهم التجهيلي الاستعلائي في الكتابة القائم على الابهام المتعمد والتلاعب بالكلمات والمفاهيم. وعندي أن أفضل كاتب عربي كتب عن نيتشه بكل عقلانية وحياد وتجرد بعيدا عن أي انبهار أو انجراف عاطفي، المفكر الكبير وأستاذ الفلسفة الدكتور فؤاد زكريا والمعروف بصرامته العلمية ودقته الموضوعيه والتعبيرية في الكتابة الفلسفية والفكرية. فقد صدر كتابه بعنوان (نيتشه) سنة 1956 ورغم مرور كل هذه الحقب على صدوره، فكأنه صدر اليوم فقد غطى كل القضايا التي تثار اليوم حول فلسفة نيتشه. وقد فند مشروع نيتشه المضاد للحداثة بكل دقة واقتدار. وقد لخص فؤاد زكريا نقد نيتشه للحداثة بالقول: "إن موقفه العقلي العام ونظرته للحضارة الغربية بوجه خاص، تبدو لنا اليوم متخلفة عن ركب العصر الى حد بعيد". ص9 وهو قول ملطف جدا بالنسبة لما أوردناه من شواهد. ولكنه يقر بأن نيتشه فيلسوف فاتن وقد يقع المرء في فترة مبكرة في أسره، مثلما فعل هو في فترة دراسته الجامعية، لذلك يحذر: "من الانسياق وراءه والاستسلام لتياره الجارف، فمن علامات الاتزان العقلي أن نلتزم جانب الحذر إزاءه، إذ أنه كان، الى حد بعيد، مراهقا في عنف رومانسيته، ولابد للعقل الناضج أن يتجاوز دور المراهقة الفكرية". ص 9 فمتى يبلغ الكتاب والمثقفين العرب، مرحلة الاتزان العقلي ويتجاوزوا دور المراهقة الفكرية في فتنتهم بنيتشه. خاتمة: الهوية بمعنى الانتماء الوطني والقومي والإثني والديني والثقافي والسياسي، لا يمكن رفضها أو إلغاؤها أو تجاوزها أو القذف فوقها، على النحو الجذري الذي يطمح إليه الدكتور فتحي المسكيني، إلا إذا ألغينا وجود الإنسان على ظهر هذه الأرض وتحدثنا عن إنسان آخر من كوكب آخر. كل ما يمكنا الحديث عنه الآن هو الاعتراف بتعدد "الهويات" واحترام هوية الآخر المختلف عنا إثنيا وثقافيا ودينيا وسياسيا وأسسنا لثقافة التعايش السلمي المشترك في ظل التنوع والتعدد الثقافي والإثني والديني. وهذا لاينفي وجود قيم ومعايير أخلاقية إنسانية كونية مشتركة على النحو الذي أسست له فلسفة عصر التنوير الأوربي وأكدته المواثيق الدولية لحقوق الانسان وانجزته الدولة المدنية الحديثة. وقد رأينا كيف أن الكاتب قد نسف مشروعه في نقد الهوية بالمعنى الانثروبولوجي والثقافي بنفسه حينما دعا في كتابه (الهوية والحرية) 2011 إلى: "الانتماء المبني على التعدد والتنوع والاختلاف بين الهويات والثقافات التي لا تملك اي واحدة منها أي سيادة وجودية على الأخرى، وانما هي مطالبة فقط بتوفير "سياسة انتماء" الى نادي الانسانية" ص 46 و47. وهو ما أكده المؤلف بالحوار الذي أجري معه ونشر بموقع بالحوار المتمدن بتاريخ 17/6/2012 حيث يقول: "ما قصدت تبيانه هو أنّنا نشهد اليوم نهاية العصر الهووي على كامل الأصعدة. وفي المقابل فإنّ معجم الحرية لا يزال لدينا فقيرا وهشّا. لكنّنا لا نعني بذلك نهاية الهويات أو فسادها أو قرب انقراضها. ليس الخطر في الهوية بل في الهووي. الهووي هو كلّ شعور متسلّط يريد أن يفرض تأويلا واحدا وغالبا لأنفسنا باسم هذا الوثن أو ذاك. وهذا المركب الهووي ليس حكرا على المتدينين أو السلفيين. ففي كل حزب من أحزاب الحداثة هناك هوويون، أي سلفيون مناضلون لفرض سلطة روحية أو معيارية باعتبارها هي إرادة الخطاب التي تحرك الجميع أو يجب أن تحركهم". http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=312291 قوله: "أنّنا نشهد اليوم نهاية العصر الهووي.. لكنّنا لا نعني بذلك نهاية الهويات أو فسادها أو قرب انقراضها. ليس الخطر في الهوية بل في الهووي". هو محاولة منه متأخرة للقول إنه لم يكن يهدف بمشروعه في نقد الهوية، رفض الهوية أو المطالبة بنهايتها وإلغاؤها ولكنه يرفض التوظيف الايديولوجي للهوية أو ما يسميه الهووي أو العقل الهووي، الذي يعمل على رفض ومحو هوية الآخر المختلف، بدليل قوله: "الهووي هو كلّ شعور متسلّط يريد أن يفرض تأويلا واحدا وغالبا لأنفسنا باسم هذا الوثن أو ذاك". هذه هي النظرة العلمية والواقعية الصحيحة والتي كان يجب أن تمثل منذ البداية الاطار النظري لمشروع الكاتب في مسعاه لنقد "العقل الهووي" في كل كتاباته. ولكن موقف الكاتب في نقد الهوية كان منذ البداية مضطربا ومتناقضا وغير متسق فكريا ومنهجيا. والمفارقة التي يجدر أن نختم بها هذه المقالة أنه في الوقت الذي يعمل فيه بعض المثقفين العرب على محاربة العصبية العرقية والقبلية والطائفية والدينية والفكرية، نجدهم يرفعون كل من نيتشه وهيدجر "منارات" يهتدون بها في نقد "العقل الهووي". ونيتشه وهيدجر هم من أسسوا للهويات "القاتلة" في العالم الحديث أعنى النازية. فالمعلوم ان هيدجر انتمى للحزب النازي وهذا انتماء هووي قاتل، وهو بلغة هيدجر نفسه "سقوط" في "الهُم" أي الحياة اليومية العادية وفشل منه أن يحيا على هدى فلسفته. وان نيتشه المصاب بجنون "العظمة" والمهووس بـ"إرادة القوة" والإنسان "السوبرمان" وإعجابه بنابليون وتمجيده للحرب على حساب السلم لأنها ترسخ مبدأ "إرادة القوة" وبتقسيمه للناس بالميلاد إلى نبلاء وعبيد، قد مهد بفلسفته المضادة للمبادىء الإنسانية والأخلاقية التي أرساها التنوير الأوربي، مهد تمهيدا مباشرا في التأسيس للنازية.
المراجع والمصادر: 1- فتحي المسكيني، الهوية والزمان: تأويلات فينومينولوجية في مسألة النحن، دار الطليعة، بيروت، 2001 2- فتحي المسكيني، الهوية والحرية: نحو أنوار جديدة، جداول، 2011 3- فتحي المسكيني، الكجيتو المجروح: أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة، منشورات الاختلاف، 2013 4- مارتن هيدجر، الكيونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2012 5- مارتن هيدجر، الفلسفة، الهوية والذات، ترجمة محمد مزيان، منشورات الاختلاف ومشورات ضفاف، بيروت، الطبعة الاولى 2015. 6- بول ريكور، الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الاولى 2005. 7- بول ريكور، نظرية التأويل: الخطاب وفائض المعنى، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت،2005. 8- يورغن هبرماس، القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1995. 9- جان بول سارتر، الوجود والعدم، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الآداب بيروت، الطبعة الاولى 1966. 10- سارتر، الوجودية مذهب إنساني، ترجمه عن الفرنسية، عبد المنعم حنفي، 1964. 11- برتراند رسل، حكمة الغرب، ترجمة فؤاد زكريا، عالم المعرفة، الكويت، 2009. 12- عبد الرحمن بدوي، الزمان الوجودي، دار الثقافة، بيروت، الطبعة الثالثة 1973. 13- عبد الرحمن بدوي، نيتشه، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الرابعة 1965 14- رسائل الكندي الفلسفية، تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار الفكر العربي، مصر، 1950 15- علي سامي النشار، المنطق الصوري منذ أرسطو حتى عصورنا الحاضرة، دار المعرفة الجامعية، مصر، 2000 16- ابو نصر الفارابي، كتاب الحروف، حققه وقدم له، محسن مهدي، استاذ الدراسات العربية بجامعة هارفارد، دار المشرق ، بيروت، طبعة ثانية 1990. 17- فردريك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ترجمه عن الألمانية: علي مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2007 18- فردريك نيتشه، ما وراء الخير والشر، ترجمته عن الألمانيه: جيزيلا فالور حجار، دار الفارابي، الطبعة الأولى 2003 19- فردريك نيتشه، إنسان مفرط في انسانيته، الجزء الأول، ترجمة محمد الناجي، افريقيا الشرق، 2001. 20- فريدريك نيتشه، العلم المرِح، ترجمة محمد الناجي وحسان بورقية، افريقيا الشرق، 2000 21- فردريك نيتشه، هذا هو الإنسان، ترجمة على مصباح، منشورات الجمل، 2006 22- فردريك نيتشه، غسق (أفول) الأصنام أو كيف نتعاطي الفلسفة بالمطرقة، ترجمه عن الألمانية، علي مصباح، منشورات الجمل 2010. 23- فردريك نيتشه، جينيالوجيا الأخلاق، ترجمة محمد الناجي، افريقيا الشرق، الدار البيضاء، طبعة 2006. 24- فردريك نيتشه، إرادة القوة: محاولة لقلب كل القيم، ترجمة محمد الناجي، افريقيا الشرق، المغرب، 2011 25- جاك دريدا، في علم الكتابة، ترجمه عن الفرنسية وقدم له: أنور مغيث ومنى طلبة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى 2005. 26- جاك دريدا، مواقع، ترجمه عن الفرنسية، فريد الزاهي، دار توبقال للنشر، طبعة ثانية 1992. 27- جاك دريدا، المهماز، ترجمة عزيز توما وابراهيم محمود، دار الحوار، الطبعة الأولى 2010. 28- فؤاد زكريا، نيتشه، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة 1991(صدرت طبعته الاولى 1956). 29- عبد المنعم عجب الفيا، في نقد التفكيك، منشورات الاختلاف بالاشتراك مع منشورات ضفاف ومكتبة الامان، 2015 30- عبد المنعم عجب الفيا، من التفكيك إلى التأويل، دار نينوى، دمشق، 2017 31- تيري ايجيلتون، نظرية الأدب، ترجمة ثائر ديب، دار المدى، دمشق، الطبعة الأولى 2006, 32- تيري ايجيلتون، أوهام ما بعد الحداثة، ترجمة ثائر ديب، دار الحوار، اللاذقية، الطبعة الأولى 2000.
المراجع باللغة الإنجليزية :
1. Jacques Derrida, Of Grammatology, Translated by Gayatri Chakravorty Spivak, Johns Hopkins University Press, 1997. 2. Jacques Derrida, Writing and Difference, Translated by Alan Bass, Chicago University Press 1978. 3. Jacques Derrida, Margins of Philosophy, Translated by Alan Bass, The University of Chicago Press, 1984. 4. Jacques Derrida, Positions, Translated by Alan Bass, University of Chicago Press, 1982. 5. Jacques Derrida, Dissemination, Translated by Barbara Johnson, The University of Chicago Press, 1981. 6. Jacques Derrida, Specters of Marx, Translated by Peggy Kamuf, Roultledge Classic, 2006. 7. Jean-Francois Lyotard, The Postmodern Condition, Translated by Eieoff Bennington and Barian Mascumi, Manchester University Press, 2004 8. Jean-Paul Sartre, What is Literature, Translated by Bernard Frechtman, Routledge, London and New York, 1993. 9. Jonathan Culler, On Deconstruction, Cornell University Press, 1982. 10. Jurgen Habermas, the Philosophical Discourse of Modernity, MIT Press Ed. 1990. 11. Martin Heidgger, Introduction to Metaphysics, Translated by Gregory Fried and Richard Pol, Yale University Press, 2000. 12. Nietzsche, the Basic Writings, Translated by Walter Kaufmann, the Modern Library Classic, New York, 2000. 13. Roland Barth, the Pleasure of the Text, Translated by Richard Miller, Hill and Wang, New York, 1975. 14. Roland Barth, Writing Degree Zero, Translated by Annett Laversand and Colin Smith, Hill and Wang, New York, 2001. 15. Roland Barth, Image, Music and Text, Translated by Stephen Heath, Hill and Wang, New York, 1978. 16. Terry Eagleton, the Literary Theory, an Introduction, The University of Minnesota, 2nd.2003, 17. Terry Eagleton, the Illusions of Postmodernism, Blackwell, USA, Massachusetts, 1997. 18. S. E. Frost, JR., Basic Teachings of the Great Philosophers, Anchor Books, 1989. 19. Umberto Eco,The Limits of Interpretation,Indiana University Press, 1994 20. Vincent B. Leitch, Deconstructive Criticism, Columbia University Press 1983. *https://en.wikipedia.org/wiki/Martin_Heidegger