في وداع آخر المهنيين
عوض محمد الحسن
4 February, 2015
4 February, 2015
aelhassan@gmail.com
بعد نحو أربعة عقود من الخدمة في وزارة الخارجية، أناخ رحمة الله محمد عثمان، الوكيل السابق للوزارة, والمندوب الدائم السابق للسودان في نيويورك, راحلته في حوش وزارة الخارجية، وأزاح برزانته المعهودة عن كاهله حملاً ثقيلاً، وهمّاً مُقيماً، ووضعهما على رحاله، ثم ترك لهم الجمل بما حمل، وغادر حوش الوزارة مُيمماُ صوب داره، يُصفّر لحنا قديما، لعلّه "أنا ماشي نيالا" )التي أمضى فيها شطرا من صباه(: آخر المهنيين الذين يحترمون أنفسهم، ويحترمون مهنتهم، ويحترمون بلادهم وشعبها.
تقوم الدنيا ولا تقعد لأن وحيد القرن الأبيض في طريقه إلى الإنقراض، ويُنفق الآلاف حول العالم الكثير من المال والجهد لإنقاذ وحيد القرن الآسيوي، ونمور الثلج، والدببة القطبية، وأنواع لا حصر لها من مخلوقات الله التي تُزيّن هذا الكوكب وتُثريه بتنوعها وتفردها، وتحفظ له توازنه الحيوي. ويبذل الكثيرون من العلماء ورجال الإعلام التسجيلي جهدا كبيرا، ومشقة عظيمة، لكي يدرسوا ويُسجلوا حياة هذه الأنواع في مخابئها وفلواتها بُغية ضمان توالدها وتكاثرها ومساعدتها على البقاء على ظهر البسيطة.
أفلحت سياسات التمكين والإقصاء والتهميش والإذلال في جعل المهنيين الوطنيين المخلصين لبلادهم ومهنتهم فئة منقرضة. ضرب الآلاف منهم في فجاج أرض الله الواسعة مهاجرين، ولاجئين، وأُجَرَاء، يفيدون بعلمهم وخبراتهم بلاداً لم تخسر فلساً واحداً في تعليمهم وتدريبهم، بينما آثر البعض باطن الأرض بحثا عن الراحة الأبدية، وبقي البعض الآخر في داره تفترسه الحسرة وهو يشهد تهاوي بنيان شارك في تشييده.
عرفتُ رحمة الله لأكثر من ثلاثة عقود، مرؤوسا لي، وزميلاً، وصديقاً. رأسه على كتفيه، كما يقولون، رزيناً، يضج بالنشاط والحيوية والمبادرة، متزناً ومتوازناً، حكيماً من غير سفسطة، معتدلاً من غير نفاق، وشجاعاً من غير تهور، وحازماً من غير شطط، ولين العريكة من غير خور؛ شهماً و"أخو إخوان". باختصار، إنسانًا سودانياً (بالقديم). هضم كسبه من التعليم والاطلاع والخبرة التي بناها عبر عمله في مختلف العواصم ذات الشأن لترقية قدراته الدبلوماسية وأدائه المهني، حتى أصبح من أقدر وأعقل الدبلوماسيين المهنيين في وزارة الخارجية.
اشفقتُ على رحمة الله حين بعثوا به مندوبا دائماً في نيويورك، وأشفقتُ عليه قبلها حين أسندوا له منصب الوكيل، وأدركتُ انه سيتمزق بين احترامه لبلده ولمهنته ولنفسه، وبين ما يقتضيه تمثيل نظام لا يسمع إلا صوت نفسه وصوت منسوبيه؛ بين ما يمليه عليه المنطق السليم، والحس القومي، والمصلحة الوطنية والأمانة المهنية التي تربي عليها، وما اكتسبه من خبرة ودراية خلال عمر كامل، وبين التخبط وإنكار حقائق الدنيا والتفكير الرغائبي القائم على الأوهام والتوهم الذي يعمي البصائر، ويقود إلى فساد الرأي، وإلى التهلكة. وأدركتُ أيضا أنه، عاجلاً أم آجلاً، سيُواجه بخيار لا سبيل له بتجنبه: أن يفقد احترامه لنفسه، أو أن يفقد منصبه، وقد كان؛ وهنيئا له باختياره.
يفتك الصيد الجائر بالخرتيت الأبيض للحصول على قرنه الثمين (الذي يستخدم في مقابض الخناجر الفاخرة في اليمن و"لرفع القدرات" في جنوب شرق اسيا)، بينما لا تجني سياسات التمكين والإقصاء الجائرة، قصيرة النظر إلا الخسران المبين للبلاد٠
مرحباً بك، أبا سامر، في وطنك الاول والأخير، بين أهلك وأحبابك الذين يقدرونك حق قدرك، وسط ما تبقى من الخراتيت البيضاء التي وقفت، وقوادمها مغروسة في تراب السودان، تتكرف رياح "المونسون"، وتترقب تباشيرالصبح بعد طول ظلام.
aelhassan@gmail.com
////////