قانون الصحافة والغاء الرقابة أول اختبار للحكومة بعد ملتقى الاعلاميين

 


 

 

محمد المكي أحمد

 

modalmakki@hotmail.com

    

عدت من الخرطوم الى الدوحة الثلاثاء  الماضي  بعد مشاركتي في الملتقى الثاني للاعلاميين العاملين خارج الوطن، وفي العقل  والقلب والوجدان الكثير من الصور والمشاهد المتعددة الملامح والمضامين.

 

اليوم  اركز على مشاهد ايجابية  يكمن بعضها اجمالا في  دلالات وأهداف الملتقى ونبض القائمين عليه والأفكار والمواقف التي طرحها كبار المسؤولين، وشكلت بالفعل  " خارطة طريق " تحدد كيفيات التعامل مع  الصحافيين العاملين في الخارج  في ضوء حقوق المواطنة، وحقوق الصحافي أيضا.

 

في مقالى الأسبوعي السابق  الذي نشرته "الأحداث" يوم السبت الماضي بدلا عن موعده الأسبوعي  في كل  يوم جمعة  أوضحت   سبب  مشاركتي  في ملتقى الاعلاميين الثاني، وكذلك  في المؤتمر الأول  الذي عقد في عام 2006.

 

في المقال السابق الذي نشر بتاريخ 16 (آيار) مايو الجاري  تحت عنوان" حوار وشفافية  وبداية مصالحة في ملتقى الاعلاميين أشرت الى الأجواء الحرة  التي سادت الملتقى الثاني على رغم أن  بعض  الراغبين في البوح  والكلام  وطرح الاسئلة على كبار المسؤولين لم  يجدوا فرصا بسبب كثافة  الفعاليات  وضغط الزمن، أو بسبب أسلوب  رؤساء بعض الجلسات في توزيع الفرص.

  

مرة أخرى أجدد التأكيد على أيجابية فكرة عقد ملتقى للاعلاميين السودانيين العاملين في الخارج ، وآمل أن تجد التوصيات حظها من التطبيق، لأن هذه هي القضية الأهم.

 

 تطبيق توصيات المؤتمر الاول للاعلاميين  لم يتم بصورة شاملة متكاملة، وأعتقد أن قضية عدم  تطبيق القرارات والتوصيات التي يعلن مسؤولو الحكومة التزامهم بها في اطار اتفاقات عدة هي  أهم مشكلات  الحكومة السودانية.

 

 هذه مشكلة تحتاج الى حل رغم تأكيدات  السيد كمال عبد اللطيف وزير  الدولة بوزارة مجلس الوزراء حول السعي لتطبيقها ،  واجد نفسي متفائلا من خلال  جدية طرحه  ومالمسته منه من رؤية بعيدة المدى في هذا الاطار، ومن روح طيبة  عطرت اسلوب ونهج  تواصله معنا طيلة ايام الملتقى، فله التحية والتقدير والاحترام.

 

لكن على رغم  الروح الايجابية التي بدت من كلام  وتصريحات عدد من كبار المسؤولين في ملتقى الاعلاميين العاملين في الخارج، ويشمل ذلك  الكلام عن شراكة مع الصحافيين فهمت أنها ستكون  بعيدة عن أساليب التجريم والازدراء والغطرسة الذي مورست  في سنوات مضت،  رغم ذلك اقول إن تطبيق توصيات  الملتقى  يشكل المحك الحقيقي لصدقية الحكومة السودانية .

 

 أي أن الحكومة أمام خيارين  لا ثالث لهما، فاما أن تحيل التوصيات الى واقع ملموس  يجسد صدقية مفقودة وثقة لا وجود لها ، أو أن تستمر  في لغة الكلام من دون تطبيق ، وهذا سيضر بصدقيتها وبعلاقتها مع الاعلاميين، خاصة  من يراهنون على قدرة السودانيين والحكومة على  ارتياد آفاق التحول الديمقراطي.

 

الافتراض او الاحتمال الثاني اي عدم تطبيق توصيات ماتقى الاعلاميين سيؤكد في  حال  مواصلة اسلوب  عدم  اقتران الاقوال بالافعال- و جود   خلل سيجعل من الهدف الكبير والرائع مجرد تظاهرة سياسية أو "حفلة عشاء او طرب"   انتهت بسفر المشاركين، وهذا ما لا يتمناه  أي شخص يسعى لتعزيز لغة الحوار بين السودانين.

 

في هذا الاطار أقول إن محك الاختبار الأول الذي يواجه الحكومة السودانية وخاصة الشريكين الكبيرين في الحكومة (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان) يكمن في قضية  الساعة وهي مشروع قانون الصحافة الجديد، اضافة الى قضية الرقابة المفروضة على الصحف السودانية.

 

توصيات الملتقى الثاني للاعلاميين العاملين في الخارج شددت في "محورتعزيز الحريات الصحفية" على "ضرورة تأكيد مشروع قانون الصحافة المرتقب على صون وحماية الحرية الصحفية والغاء الرقابة القبلية مع وقف كل اشكال واجراءات منع ومصادرة وتوقيف الصحافيين ومحاكمتهم في قضايا النشر"

 

الفقرة الثانية في "محورالحريات الصحفية " دعت الى "الغاء عقوبة السجن للصحافيين في قضايا النشر واستبدالها باحكام الادانة المهنية والغرامات المالية الرمزية وفقا للضرورة".

 

هناك نقطة ثالثة مهمة من بين النقاط الاربع في هذا الاطار،وهي تدعو الى "ضمان حق الصحافي في الحصول على المعلومات المتصلة بقضايا الشأن العام  وتأكيد حقه في حماية مصادر معلومات".


هذا معناه أن مسؤولي  الحكومة  وحزبي المؤتمر الوطني والحركة الشعبية إذا ارادوا البناء على ما اوصى به مؤتمر الاعلاميين  حول النقاط الثلاث التي أشرت اليها فانهم بذلك سيغرسون في نفوس الصحافيين بذرة أمل على طريق بناء ثقة مفقودة خاصة لدى الصحافيين المنحازيين لقضايا الحرية والتعددية ، والذين اكتوا بنار التشريد والحرمان من بعض حقوق المواطنة.

 

 
أما إذا صدر قانون جديد  للصحافة لا يلبي طموحات الصحافيين في الداخل والخارج فان (المجلس الوطني) وهو الجهاز التشريعي

والحزبين الكبيرين في الحكومة  وبقية القوة السياسية المشاركة في الجهاز التشريعي  هم  الذين يتحملون مسؤوليات الاطاحة بتوصيات الاعلاميين العاملين في الخارج،وسيسدد ذلك ضربة موجعة لمحاولات تعميق الحوار بين السودانيين  عموما .

  

كما سيتسبب  أي قانون جديد للصحافة لا يدعم الحرية الصحفية وحقوق الصحافيين في تعكير اجواء العلاقة بين الحكومة والصحافيين  في الداخل والخارج.

 

أي ان المطلوب هو عدم اصدار قانون للصحافة لا يتناسب مع وعود التحول الديمقراطي والتعهدات التي أعلنها كبار المسؤولين في هذا الشان، فالصحافة الحرة  شرط ضروري لاجراء انتخابات حرة ونزيهة، كما أن الاحتكام الى قضاء عادل ومستقل هو شرط حيوي ايضا لمعالجة تجاوزات الصحافيين  بعيدا عن أمزجة المسؤولين وسيوف الرقابة المسلطة على رقاب الصحافيين.

 

الرقابة " القبلية" كما شاعت التسمية في السودان مظهر من مظاهر كبت الحرية الصحافية، ولا أعرف لماذا تم تكليف جهاز المخابرات بمراقبة الصحف، فالمعلوم أن الرقابة يقوم بها موظفون حكوميون تابعون لوزارات الاعلام في بعض الدول التي مارست الرقابة ثم تجاوزتها.

 

في قطر مثلا  كانت هناك رقابة مفروضة على الصحف وكان يقوم بمهماتها موظفون تابعون لوزارة الاعلام، لكن أمير قطرالشيخ حمد بن خليفة آل ثاني عندما تولي مقاليد الحكم في عام  1995ألغى الرقابة على الصحف في خطوة تاريخية، تلتهاخطوة تاريخية اكبر تمثلت في الغاء وزارة الاعلام منذ سنوات عدة، وفي خطوة غير مسبوقة في العالم العربي.

 

أدعو الرئيس عمر حسن البشير الى اتخاذ قرار بالغاء الرقابة على الصحافة السودانية، فالرقابة مظهر من مظاهر التسلط والكبت والديكتانورية، وهي تعني أن الصحافيين غير مؤتمنين على مصالح الوطن.

 

ليس صحيحا ان المسؤولين الحكوميين أكثر وطنية من غيرهم،  ومطلوب  بالحاح  أن تتيح الحكومة لكل فئة مجتمعية أن تقوم بواجباتها في اطار مظلة قوانين  عادلة تضبط ايقاعات الحياة في كل  ساحة من ساحات العمل الوطني.

 

هذا هو المخرج من حالة الاختناق التي يعاني منها الوسط الصحافي السوداني حاليا، كما تعاني منها الاوساط السياسية كافة.

 

لكن هذا  الانتقاد لوجود الرقابة الامنية على الصحف لا يلغي حقيقة معاشة في المشهد والواقع الصحافي السوداني الراهن، وهي أن  السودان يشهد منذ سنوات هامشا  في مجال الحرية الصحافية ، وهو هامش محسوس اتاح لكثيرين فرص التعبير، كما اتاح لي شخصيا  كتابة مقال اسبوعي في "الأحداث" بمبادرة من زميلي رئيس التحرير الأستاذ عادل الباز  ، بعد سنوات عدة من الكتابة خارج السودان وضعتني في قائمة المغضوب عليهم.

 

كنت ومازلت  سعيدا بذلك الغضب، لأن مدى الانحياز لنبض الشعب وخياره في الحرية والعدالة والمساواة هو المحك أمام أي صحافي سوداني في الداخل أو الخارج، وهاهم المسؤلون الحكوميون يتحدثون اليوم  باللغة نفسها التي سيطرت على كتاباتي في  صحافة قطر منذ انقلاب الثلاثين من يونيو 1989، ووضعتني في موقع  الانحياز اللامحدود لهموم وتطلعات أهلي وحقهم في الحرية والديمقراطية والتعددية والعدل والمساواة.

 

برقية: لا تنسوا أن الملتقى الثاني للاعلاميين  في الخارج  رفع شعار "نحو دور متقدم  في خدمة  الوطن".

   عن صحيفة (الأحداث)         

 

آراء