قراءات في كتاب الاقتصاد السياسي للتبعية (1/2)

 


 

 

يُعتبر كتاب الاقتصاد السياسي للتبعية من الاستعمار القديم للإمبريالية الاستخراجية كتاب مُهم وحيوي وتم تقديمه في وقت مفصلي من تطور النظام الرأسمالي وإبتداعه لأساليب جديدة مما توفرت له من خبرات متراكمة خاصة بعد إنهيار الاتحاد الوسوفيتي وسقوط حائط برلين بزل فيه الكاتب الدكتور بندر نوري جهداً مضنياً وشاق بإطلاعه علي عشرات الأوراق العلمية والمراجع الاقتصادية ,يحتوي الكتاب علي 310 صفحة من القطع المتوسط و 55 من المصادر المُختلفة باللغة العربية والإنجليزية ,هذا الثراء المرجعي لدليل علي ثراء محتوياته وسعة إطلاع كاتبه بمحاولاته بالربط بين نقد الإقتصاد السياسي العالمي وإنعكاساته لما يحدث ببلاد المُحيط وبلادنا علي وجه التحديد.
تناول الكتاب تاريخ التبعية والمراحل الأولي لخطوات الإستعمار ونشوء الرأسمالية من مراحل الكشوف الجُغرافية ومراحل رأس المال الماكتيني ثم الثورة الصناعية ثم الاستعمار وأخيراً الإمبريالية , تناول الكتاب كل مرحلة وخصائصها الإقتصادية واليات طُرق عملها في نهب ثروات الشعوب وتطور ذلك النهب لاحقاً ليصل الي الإستعمار بواسطة القوي العسكرية ثم الي النظام الليبرالي الجديد الذي يدعم حركة التجارة العالمية والسوق الحُر أو بما يعرف بسياسة التحرير الإقتصادي القاضية بهيمنة الشركات عابرة للقارات للتحكم في إقتصاد العالم وخلع أضراس وأنياب الحكومات لتصبح بلا سيادة ولاقرار تتحكم في مصير شعوبها أقلية من الأثرياء.
ينتقد نوري ايضاً وضع اليسار السوداني وبالتحديد (الحزب الشيوعي السوداني) وموقفه النظري من الرأسمالية الوطنية حيث يسأل في صفحة 43 هل يمكننا الحديث عن رأسمالية تستثمر فقط في الإنتاج ولاتعمل في المضاربات ؟ هل الرأسمالية السودانية متخصصة في مجالات مُحددة أم أنها تعمل في جميع المجالات بما يُحقق لها أرباحاً؟ وأجاب علي هذه الأسئلة بإحصائيات أوردها علي متن كتابه بأن الرأسمالية التي تستثمر في الزراعة تستثمر في التجارة, وأن 88% من المستثمرون في الصناعة يستثمرون في التجارة بينما 64% من الذين يعملون في قطاع الخدمات يستثمرون ايضاً في التجارة, ويستمر الكاتب في التوضيح أن رأس المال المُنتج في السودان مرتبط بحركة التجارة العالمية ويمكن وصفه بأنه رأس مال خراجي (اي متوجه للخارج) ومربط بلا فكاك من حركة رأس المال العالمية بما يُعمق التبعية له, وكانت قد ذهبت الدكتورة فاطمة بابكر محمود من قبل في كتاباتها ومُساجلاتها في هذا الأمر بأن مصطلح الراسمالية الوطنية غير دقيق في ظل الواقع الماثل للاستثمار في السودان يتفق معها في هذا المسار نوري ويضيف الي ذلك أن الحزب الشيوعي قد وقع في إشكالات نظرية خاصة بعد علم 1977, ففي الوقت الذي حددت فيه وثائق المؤتمر الرابع المجازة في العام 1967 موقفها من التحالف الطبقي المكون لقوي الجبهة الوطنية الديمقراطية التي تؤسس مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية حيث غستبعدت وثيقة 1967 اي دور يُمكن أن تقوم به الراسمالية في هذه المرحلة, الا أن هذه الرؤية تراجعت بعد عام 1977واجراء المصالحة الوطنية في السودان وأبرز تلك التحولات هي صدور وثيقة عُرفت باسم (مهام خارجية) تحدثت الوثيقة عن الدور المهم للرأسمالية السودانية في التكوين الطبقي لسلطة الثورة الوطنية الديمقراطية حيث ورد بها( تشمل المزارعين المثقفبن الوطنيين "بدل الثوريين" الطلاب والجنود والراسمالية المُستثمرة في الإنتاج).
يشير نوري الي أن التحول الملموس في النظرة المكونة لطبيعة التحالف لهذه المرحلة المهمة من بناء الدولة الوطنية الديمقراطية جعل من الحزب حزب لايعبر عن العُمال كطبقة وإنما يمكن يُمكن أن يعبر عن طبقات أخري بتنازله عن مهامه كحزب طليعي وثوري يجب ان يكون في طليعة وتكوين السلطة الوطنية الديمقراطية, كما ينتقد الكتاب كتابات السكرنير السابق (نُقَد) في موجهات تحديد البرنامج يوصفه لتلك القوي (السلطة تنبعث من حركة الجماهير وليس عن إنقلاب عسكري وأن تركيبها الاجتماعي يتطابق مع تركيب القوي الإجتماعية التي إنبعثت منها ولاتنفرد بها قوي إجتماعية بعينها او طبقة إجتماعية او حزب بعينه) ويصف الكاتب بان هذه الكتابات تشكل إشكالاً نظرياً كما أنها تجعل الحزب مفتوحاً لكل الطبقات ولايعبر عن طبقة العُمال مما يجعل الحزب حزباً برامجياً أكثر من أنه حزب ثوري معني بالتعبير عن الطبقة العاملة.
وكان قد تناول كل من باديو ولويس التوسير من قبل وذهب معهم نوري في نفس الإتجاه بإنتقاد التنازل عن مفهوم "دكتاتورية البلوتاريا" وأن هذا المفهوم لم يُضيف اي شيء لاحزاب العمالية والشيوعية في العالم بل جعلها خافتة, وتحولت الي أحزاب برامجية قضيتها ليست فقط قضية الطبقة العاملة,ويضيف نوري أن كتابات ماركس الناضجة بعد دراسة مجتمعات كالهند واندونسيا بولندا وروسيا وتوصل ماركس الي إمكانية بناء الإشتراكية بدون المرور بالتحديث البرجوازي الأوروبي بشرط التحالف مع الطبقة العاملة الأوربية خاصة في واقع مثل روسيا حيث تسود "التشاركية القروية" ,اي أن مسألة اللوحة الخُماسية (مشاعية , عبودية ,إقطاع,رأسمالية واشتراكية) ليست مُلزمة وليس بالضرورة أن تؤسس الإشتراكية علي هذه اللوحة.
أن أهمية مفهوم دكتاتورية البلوتاريا كمفهوم مفصلي في نظر (نوري) وعدم التنازل عنه له ارتباط ديالكتيكي بمرحلة التحديث البرجوازية وبناء الطبقة العاملة في فترة الراسمالية الحديثة , في تقديري لم يستطيع الكاتب هنا أن يسهب كثيراً وهو يدافع عن مفهوم دكتاتورية البلوتاريا ان يفك اشتباك المفهوم وارتباطه ديالكتيكياً بمرحلة الراسمالية الحديثة وفي نفس الوقت تتضمن كتاباته إشارات بامكانية تجاوز اللوحة الخُماسية, فالتشاركات القروية الروسية أو حتي ماحدث لدينا هنا في السودان من بناء تعاونيات زراعية في الريف (وتشارك في مدخلات الزراعة مثل الري والحصاد) لم يؤسس علي بنية رأسمالية وإنما علي بنية قروية بدائية لم تمر بالتحديث البرجوازي وهذه التجارب علي قصرها لم ترتقي لأن تُنعت بالاشتراكية ولكن يمكن نعتها بالتعاونية ولكنها أعطت مؤشرات بامكانية بناء إشتراكية.

gonay1982@hotmail.com

 

آراء