قراءة تحليلية لواقع الأمم المتحدة الراهن من خلال أحداث تفجير مقرها بأبوجا .بقلم: عاصم فتح الرحمن
بسم الله الرحمن الرحيم
تم إستخدام كلمة "أمم متحدة" لأول مرة من قبل الرئيس الأمريكى الأسبق (روزفلت) فى الأول من يناير من العام 1942 م خلال الحرب العالمية الثانية عندما إجتمع ممثلوا 26 دولة ليتعهدوا فى هذا الإجتماع بمواصلة الحرب ضد دول المحور (ألمانيا وإطاليا واليابان),وقد برز كيان الأمم المتحدة إلى حيز الوجود رسمياً عندما صادقت على نشأته فى الرابع والعشرون من إكتوبر من العام 1945 م كل من الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتى السابق والصين وفرنسا وبريطانيا ومعظم الدول المستقلة الأخرى فى ذلك الوقت,بينما إنضمت إليها معظم الدول الإفريقية والأسيوية بعد نيل إستقلالها من الإحتلال الأوربى,وعندما تم تكوين الأمم المتحدة كان الهدف من إنشائها أن تكون مركز لحل المشاكل التى تواجه كل الإنسانية على ظهر الكرة الأرضية عبر شبكة من المنظمات المنتمية للأمم المتحدة تعرف بمنظمات منظومة الأمم المتحدة وهى تتكون من حوالى أكثر من ثلاثين منظمة,وتعمل وكالات الأمم المتحدة فى مجالات حقوق الإنسان وحماية البئية والحد من الفقر ومكافحة الأمراض ومساعدة اللاجئيين والتوسع فى إنتاج الأغذية ولكن أهم النشاطات التى تقوم بها الأمم المتحدة على الإطلاق هى مهمة حفظ السلم والأمن الدوليين عبر مجلس الأمن الدولى أحد الأفرع القائدة والرئيسية التى تخرج منه القرارات الدولية التى تأخذ صفة الشرعية الدولية والذى فى نفس الوقت يستطيع تعطيل صدور أى قرار أممى الآن نتيجة لإمتلاك الخمسة دول دائمة العضوية فيه وهى على التوالى الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا حق النقض (الفيتو)على القرارات التى تراها لا تخدم مصالحها,وفى الذكرى السنوية الستين لتأسيس الأمم المتحدة تعهدت الدول الأعضاء بتنفيذ أهداف الألفية الثانية والتى ترمى فى مجملها إلى تعزيز الأمن الدولى وإحترام حقوق الإنسان وتحسين مجالات التعاون والتنمية لكل دول العالم ولكن يبدو أن هذا التعهد لم يجد الإحترام حتى من جانب الدول القائدة فى المنظمة العالمية وربما إستخدمت تلك المبادىء لتحقيق نفوذها وسيطرتها على حساب شعوب العالم الأخرى.
والمتابع لمجريات الأحداث الدولية عقب إنتهاء الحرب العالمية الثانية يجد أنه عقب إنتهاء الحرب العالمية الثانية ظهرت قوتين تحكمتا فى مجريات السياسة الدولية وهما الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتى السابق وقد كان دور الأمم المتحدة خلال الحرب الباردة بين هذين القطبين المسيطران على مجريات الأمور الدولية منذ العام 1945 م وإلى العام 1990 م محدود وغير فعال نتيجة للضغوط الهائلة التى تتعرض لها من قبل القطبين المتباينين فى الأيدلوجيا,ولكن فى أوائل تسعينات القرن الماضى عند سقوط الإتحاد السوفيتى السابق وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على مجريات الأحداث فى الساحة السياسية الدولية برز دور المنظمة العالمية فى العديد من القضايا الدولية,ويرى العديد من المحللين والمراقبين فى مجال العلاقات السياسية الدولية أن الأمم المتحدة فى عهد الأحادية القطبية الدولية أصبحت تمثل أحد الأدوات التى تسخدمها الولايات المتحدة الأمريكية لتمرير أجندتها العالمية أى أنها أصبحت تمثل أحد أدوات الهيمنة الأمريكية للسيطرة على مجريات الأمور الدولية,ولا يخفى لأى مراقب الدور السلبى للأمم المتحدة إتجاه الغزو الأمريكى للعراق وأفغانستان بالرغم من عدم قانونيته وعدم تمريره تحت مظلة الأمم المتحدة,بل تؤكد معظم الشواهد التى لا تحتاج لإثبات أن المعايير الدولية التى تتبناها الأمم المتحدة هى تلك المعايير التى تتوافق مع المصالح الأمريكية التى يقف من خلفها اللوبى الصهيونى المسيطر على مجريات السياسة الأمريكية بقوته الإقتصادية,ومن تلك الشواهد إنحياز تقرير الأمم المتحدة الأخير حول قضية الإعتداء على إسطول الحرية وقتل نشطاء أتراك فى المياه الدولية على ظهر السفينة التركية مرمرة وقضية الحصار الإسرائيلى الجائر على قطاع غزة لصالح إسرائيل وإعتبار ما قامت به إسرائيل هو دفاع عن النفس وأن الحصار على غزة قانونى,بما لا يدعو للشك أن الأمم المتحدة وفق هذا التقرير أصبحت تمارس سياسة الإنحياز لجهة الدولة الإسرائيلية,كما أنها أصبحت تمارس سياسة تسويف وتزييف الحقائق التى شاهدها كل العالم بأم عينه,وإعتبرت القتل الإسرائيلى لنشطاء أسطول الحرية دفاعاً عن النفس وحصار غزة الذى إستهدف تجويع وإفقار الشعب الفلسطينى ومنعه من التواصل مع العالم والذى ينافى كل معايير القيم الإنسانية وحقوق الإنسان وأعراف القانون الدولى التى تدعو لها الأمم المتحدة هو حصار قانونى لا يتنافى مع معايير القانون الدولى,وبينما لايزال الشعب الفلسطينى يقبع تحت الإحتلال والإضهاد الإسرائيلى وتمارس ضده حملات منتظمة من التطهير العرقى و تقف الأمم المتحدة موقف المتفرج من إيجاد حل للقضية الفلسطينية التى طال أمدها وعودة اللاجئيين الفلسطينين إلى أراضيهم المغتصبة نجدها تضغط فى إتجاه تنفيذ إستفتاء تقرير المصير لجنوب السودان وسرعة إنفصاله عن وطنه الأم السودان وتعترف بالدولة الجديدة وتعلن مساعدتها لها بصورة دراماتيكية أدهشت كل مراقب للأحداث,ولكن إرادة الأقوياء الذين يسيطرون على الأمم المتحدة كما يبدو هى المسيطرة على إرادة الأمم المتحدة وبالتالى ما دام حل القضية الفلسطينية لا يخدم مصلحة الولايات المتحدة والصهيونية السياسية المسيطرة إقتصادياً فإن تكوين دولة جنوب السودان يخدم مصلحتهما وبالتالى لا إرادة للأمم المتحدة تعلو على إرادة هؤلاء الأقوياء,وأصبحت الأمم المتحدة فى الآونة الأخيرة مصدراً للعديد من القرارات الأمريكية التى تصدر بإسم الشرعية الدولية تارة تصدر ضد الدول الرافضة للهيمنة الأمريكية متهمة إياها بالإبادة الجماعية والأعمال الوحشية وعدم إحترام حقوق الإثنيات كما يحدث لزمبابوى والسودان وأرتريا مع العلم بأن الدلائل تشير إلى تورط الولايات المتحدة نفسها وبعض الدوائر الغربية المرتبطة بمشروعها فى إثارة الأزمات فى الدول التى أصدرت القرارات بحقها عبر الأمم المتحدة,ومما يجعل الأمم المتحدة تسقط فى نظر العديد من سكان القارة الإفريقية هى الطريقة الصفوية التى يعيش فيها موظفى الأمم المتحدة والصرف البذخى الذى دون مبالغة ربما يكفى لسد رمق العديد من فقراء العالم,فبعثة الأمم المتحدة فى السودان مثلاً تتحصن فى قلعة كقلاع العصور الوسطى محمية بموانع وأسلاك وجنود وحراس وكأن الإنسانية التى تنادى بحمايتهم وحفظ سلامتهم وإحترام حقوقهم أصبحوا خطراً يهدد أمنها,بينما العربات الفارهة والموظفيين الأجانب المميزين تلحظهم فكل لحظة فى أماكن الطعام والترفيه المميزة ويسكنون الشقق والفيلات الفاخرة,أما الفساد الأخلاقى والمادى لا يخفى على أى مواطن أو حتى على الأمين العام للأمم المتحدة السيد بان كى مون نفسه,كل هذه المشاهد السالبة عن المنظمة الدولية شكلت حواجز لا يمكن إزاحتها بسهولة لكل من شاهد هذه المظاهر والسلوك الصفوى للأمم المتحدة,وعندما يتطلع ويقرأ أى مواطن إفريقى أو فى دول العالم الأخرى على تقارير برامج الأمم المتحدة المكتوبة عن الأعمال التى تمت لإزالة الفقر والجوع فى إفريقيا ربما يتخيل من التقرير أنه سوف لن تظهر مظاهر الجوع والمجاعات والفقر أبداً فى عالمنا المعاصر بيد أن فى أفريقيا يموت الكبار والصغار من الجوع على كل رأس ساعة,وينتشر الفقر المدقع بين معظم سكان القارة بينما تذهب أموال الأمم المتحدة ليستفيد منها الصفوة العاملة فى المنظمة الدولية والمتعاقدين معهم لتوفير خدمات الرافهية لهم.
الصورة المتكونة عن الأمم المتحدة فى مخيلة وعقلية إنسان أفريقيا الفقير لن تقود سوى لتشكيل غبن إجتماعى نحو الأمم المتحدة,بينما الصورة المتكونة عن الأمم المتحدة فى عقلية المثقف الإفريقى ذو المبادىء والقيم والأخلاق بالفعل إهتزت نتيجة لإنكشاف عدم حيادية ومصداقية المنظمة وإنتهاجها لمنهج صفوى يخدم مصالح قوة بعينها وصولاً لإنكشاف عدم قدرتها على خدمة قضايا الفقر والجوع والتنية والأمن والسلم وأن كل ما تفعله هو عبارة عن دبلوماسية مؤتمرات تبدد فيها الأموال بصورة بزخية إسرافية غير منطقية,أما من وجهة نظر المثقف الآخر الإنتهازى بالرغم من معرفته أنها منظمة فاسدة وغير محايدة وصفوية ولكن ربما يحاول الإنتماء إليها لتحقيق مصالح شخصية تخصه والتى غالباً ما تكون مادية,وعليه عندما وقع تفجير إنتحاري استهدف مقر الأمم المتحدة في مدينة أبوجا النيجرية يوم الجمعة الموافق السادس والعشرون من أغسطس من العام 2011 م والذى أودى بحياة 18 قتيلا على الأقل، وثمانية جرحى وألحق اضراراً كبيرة بمبنى الأمم المتحدة الذي علق فيه العديد من الموظفين التابعين للأمم المتحدة لحين تم إجلائهم بواسطة الشرطة النيجرية،ربما يمثل هذا الإنفجار بغض النظر عن من تبناه أو من هو المسؤول عنه أحد صيحات الرفض الإفريقى وربما العالمى لدور الأمم المتحدة وعدم الرضا من سياساتها التى أصبحت تصوغها الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق أطماعها على حساب مصالح القوى الأممية الأخرى الصامته والمتضررة من هذه السياسات,وأن هذا التفجير ربما يعبر بوضوح عن حالة الإحتقان وعدم الرضا التى تم ترجمتها إلى عنف وفعل إنتقامى من تلك المنظمة العالمية التى أنشئت لخدمة الإنسانية جمعاء ولكنها من وجهة نظرهم ونظر الكثيرين غيرهم أنها أصبحت أحد أدوات الهيمنة الأمريكية,وربما يتكرر الإستهداف مالم يقوم السيد بان كى مون من مراجعة سياسات المنظمة التى أصبح لا جدال فى أن كل سياساتها أصبحت غير ملتزمة سوى لخدمة مصالح الولايات المتحدة الأمريكية,وإن لم يستطيع الأمين العام للأمم المتحدة بان كى مون من مراجعة سياسات المنظمة فى إتجاه يخدم مصالح كل الأمم دون إنحياز فسوف تكون الأمم المتحدة التى أنشئت من أجل خدمة الإنسانية وحفظ الأمن والسلم العالميين منظمة مستهدفة ولها أعداء وبالتالى سوف تفقد قوتها وأمميتها وتصبح كالمنتج الذى فقد صلاحيته وإن إستمرت سوف تكون هيكل مستهدف بدلاً أن تكون منظمة عالمية تلقى القبول من الإنسانية فى كل أرجاء العالم.
عاصم فتح الرحمن أحمد الحاج
باحث وخبير إستراتيجى فى شؤون القارة الإفريقية و متخصص فى شؤون القرن الأفريقى
E-mail: asimfathi@inbox.com