abusamira85@hotmail.com عندما يثور الجدل عن الصحافة السودانية لا تحضر تلقائيا ثنائية تقليدية صالحة للتطبيق في أي عمل إعلامي، وهي ثنائية الحرية والمسؤولية. وتشتد الحاجة حاليا لاستعادة الحديث عن هذه الثنائية أكثر عند إعادة قراءة تقرير الحريات الصحافية في العالم والسودان للعام 2008م، الصادر عن منظمة سودان برس ووتش. وتأتي أهمية هذا التقرير أنه يصدر في وقت لا تضع الصحافة السودانية فيه، اعتبارا للتغيرات الهائلة التي أدخلها عصر الفضائيات والانترنت على المشهد الإعلامي. ومعلوم أن هذه التغيرات تمس في أغلب الأحيان المظهر دون الجوهر والكم دون المضمون، إذ لم يخل التطور الكمي من السقوط في منزلقات ومتاهات تنحرف بالعمل الإعلامي عن مهامه الأساسية ودوره الجوهري في التوعية والتنوير ودفع العملية التنموية والبناء الديمقراطي التعددي من منطلق حرص أهله والقائمين عليه على خلق أرضية خصبة سمتها الرأي والرأي الآخر. ويمثل التقرير الضخم الذي يقع في أكثر من 300 صفحة من الحجم الكبير، باكورة إنتاج منظمة سودان برس ووتش SPW التي بدأت نشاطها في أبريل 2008م. وتعرف نفسها بأنها منظمة آلت على نفسها الدفاع عن الحريات الصحافية في السودان والعالم أجمع، إضافة إلى قضايا الصحافيين من حيث التدريب وبيئة العمل وشروط الخدمة، والمؤسسات الصحافية من حيث اقتصاديات الصحف. المطلع الجيد على التقرير الذي احتوى مسيرة الحريات الصحافية خلال العام 2008م عبر أكثر من 100 دولة سيجد كل التفاصيل التي تعينه على فهم طبيعة هذه الحريات ومآلاتها وتداعياتها في تلك الدول. غير أن التفصيل الجيد لواقع الحريات الصحافية في السودان ينمي في النفس أحساس أن الصحافة السودانية تعيش خريف العمر. والمهم هنا أن التقرير تجاوز إشكالية منهج إعداد تقرير عن موضوع الحريات الصحافية من جهة أنه موضوع عالمي، يشغل بال الصحافيين والمشتغلين بحقوق الإنسان والحريات الأساسية على مستوى العالم، ومن جهة أنه لا توجد دولة ليس بها شكاوى عن انتهاكات للحريات الصحافية. وتجاوز التقرير أيضا صعوبات الحصول على المعلومة التي تشكل المدخل الأول لدقة أي تقرير عن الحريات في العالم. والجديد هنا أن التقرير لم يركز على عدد قليل من مصادر المعلومات، بل عمد إلى تكثيفها وتنوعها عبر الاستفادة من أكثر 55 مصدرا حتى يتفادى الثغرات التي تقع فيها التقارير الدولية من حيث التركيز على مصادر قليلة واستخدام منهج يقود إلى نتائج محددة. ومن الجديد أيضا أن التقرير يقف بوضوح مع مفهوم الحريات الصحافية، بمعنى توفر البيئة المتكاملة للصحافي لأداء مهمته بلا مضايقات. ومن الجديد ثالثا أن محرر التقرير كان ذكيا من جهة أنه سعى إلى إعداد تقرير يصور الأوضاع بشفافية، وخلا من أية نظرة انتقائية أو معايير مزدوجة. الحاصل أن التقرير التزم بمنهج استقصائي علمي ومحايد في تناول مسألة الحريات الصحافية عالميا وإقليميا ومحليا يستند إلى: * استخدام الاستبيانات التي يجيب عن الأسئلة الواردة فيها صحافيون سودانيون، وذلك للوقوف على الواقع في الطبيعة. * الرصد والمتابعة اليومية لأحداث ووقائع وأخبار ترد في الصحف لها ارتباط بالحريات الصحافية. * التعامل مع التقارير الإقليمية والعالمية التي تصدر عن الحريات الصحافية على مستوى العالم للاستفادة منها في الحصول على المعلومات، ملتزمين بالمنهج الاستقصائي الذي اعتمده التقرير. استعرض التقرير تاريخ الصحافة منذ أن بدأت أجنبية الفكرة والقراء والتنفيذ مطلع القرن الفائت، ثم أسهب في رحلة تطور قوانين الصحافة في البلاد، وهنا يكرر التقرير خطأ شائعا مفاده أن الصحافة في السودان عرفت أول قانون لها في عام 1930م. والصحيح أن أول تنظيم قانوني للصحافة السودانية ظهر في لائحة صدرت في خواتيم عام 1913م، لكن ظروف قيام الحرب العالمية الأولى حال دون تطبيق هذه اللائحة، ولهذا صدرت أول صحيفة سودانية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في عام 1919م، إضافة إلى أن قانون 1930م لا يعتبر تنظيما قانونيا للصحافة في البلاد، بقدر ما هو رد فعل سياسي من قبل المستعمر لثورة 1924م بقيادة علي عبد اللطيف. وهناك ورقة جيدة عن لوائح 1913م، أعدها الدكتور عبد الله جلاب- رد الله غربته- في منتصف الثمانينيات أثناء الجدل المحتدم آنذاك عن إلغاء قانون 1973م. من حسنات التقرير في الشأن السوداني أنه لم يغفل قضية اقتصاديات الصحف من جهة تأثيرها المباشر الأول على الحريات الصحافية، وذلك لأن مسألة الإعلان والتوزيع لها تأثيراتها على ما يكتب في الصحف. وتطرق إلى تأثيرها الثاني على الصحافيين الذين يعانون من مشكلات الأجور وبيئة العمل وضعف التدريب. ولم يغفل افتقار الصحافة في السودان للدراسات العلمية، مبينا إفادة أولى من البروفيسور علي محمد شمو أن دخل الصحف لا يأتي من التوزيع فحسب بل هناك مصادر أخرى. ومبينا إفادة ثانية من أستاذ الأجيال شمو تحمل دعوة للناشرين إلى تأسيس دور صحافية بالمساهمة فيما بينهم وإصدار صحف قادرة على الاستمرار وتحقيق الانتشار المطلوب. وكان نص دعوة شمو (آن الأوان في السودان للتفكير والتخطيط والدراسة والنظرة البعيدة في تأسيس الصحف وفق دراسة وأسس اقتصادية سليمة وإعادة وصياغة وإنشاء دور ومؤسسات صحافية متكاملة ومجزية اقتصاديا ولها مصادرها الأخرى). يستوقفك في باب اقتصاديات الصحف في التقرير إفادات الأستاذ الفاتح السيد الأمين العام لاتحاد الصحافيين التي تبدأ بـ(قصور صحافي مشترك). وتتوسع في (افتقار الصحافة السودانية للمؤسسية الشيء الذي هدد استمراريتها واستقرارها- تخلف الإعلان لغة وفنا عن الصحافة العالمية- يتجه الصحافيون في كثير من الأحيان للعمل في مهن أخرى- لا تمر فترة ما بين خمسة إلى ستة أشهر إلا وتتوقف صحيفة عن الصدور- الصحف لا تتحمل الخسائر). واستدل الأمين العام لاتحاد الصحافيين بالتجربة الصحافية اللبنانية ونجاحها لارتباطها بمؤسسات صحافية اقتصادية ضخمة، مشيرا إلى أن التوزيع في السودان يقف وراء فشله الضعف الإداري. وقال (لا يعقل أن السودان به 36 مليون نسمة والصحف جميعها لا تطبع أكثر من 300 ألف نسخة). وفي اقتصاديات الصحف يحمل التقرير اعترافا واضحا بأن شركات التوزيع والصحف تقليدية. ويحفل التقرير بآراء متباينة عن إشكالية الصحافة، بينما يرى البعض أن الإشكالية في الصحافي نفسه، ويرى آخرون أن الصحافيين السودانيين من أميز الكوادر، ولكن هناك استغلال من الناشرين. ويعزو فريق ثالث أن الصحافة وتدني نسبة توزيعها ناتج من ضعف المعينات وعدم تأهيل الصحافيين. ولكن هناك إجماع على ضرورة إخضاع ظاهرة تدني مستوى الصحافة إلى المزيد من الدراسة. في مسألة تدريب الصحافيين أقر التقرير بأن لا أموال تخصص لتدريب الصحافيين حسب قانون الصحافة لعام 2004م، مما يفتح الباب واسعا أمام جهات أخرى للمساهمة في تدريب الصحافيين. وهذا الغياب الواضح للتدريب لم يخض التقرير في تفاصيله، على الرغم من الصلة الوثيقة جدا بين التدريب والحريات الصحافية. فيما يتعلق بيوميات ووقائع الحريات الصحافية في السودان حوى التقرير رصدا دقيقا لكل الأحداث ذات الصلة بقضية الحريات الصحافية، التي وقعت خلال العام 2008م. وحملت تلك الوقائع أنباء حزينة مثل إغلاق صحيفة ألوان، وتوقيف رؤساء تحرير، وفرض الرقابة القبلية. وحفل بأنباء سارة مثل توفير ألف منزل جاهز لإسكان الصحافيين وإدخالهم تحت مظلة التأمين الصحي في أكثر من جهة. ويدعم التقرير رصده لوقائع العام 2008م بمؤشرات حرية الصحافة في السودان على ضوء نتائج الاستبيانات، حيث طرحت منظمة سودان برس ووتش ستة استبيانات على رؤساء تحرير الصحف والصحافيين وشركات التوزيع وأصحاب أكشاك التوزيع والناشرين والطابعين، وكان عدد المجيبين عن تلك الاستمارات 379 منهم (16) رؤساء ومديرو وسكرتيرو تحرير و(292) صحافيون في صحف تصدر باللغة العربية و9 في صحف تصدر باللغة الإنجليزية وثماني شركات توزيع و32 أصحاب أكشاك و(5) ناشرون و(17) يعملون في مجال الطباعة. وخلص فريق من المشاركين إلى أن قانون الصحافة والمطبوعات للعام 2004 يحتاج إلى المزيد من الحريات وإلى مراجعته ليتلاءم مع الواقع السياسي. ولابد من رفع الرقابة عن الصحف. بينما قال فريق آخر إن القانون يحتوي على مواد جيدة لمصلحة الصحف ومواد أخرى تحتاج إلى تعديل. وحسب أغلبية المشاركين، فإن ميثاق الشرف الصحافي لا غبار عليه ولكن هناك قصورا في التطبيق، وأن المطلوب من الدولة رفع الضرائب عن مدخلات الطباعة ودعم الصحف بصورة مباشرة وأن الإعلان ضعيف ولابد من إفراد صفحات للولايات وأن الموازنة موجودة في الصحف ما بين الرأي والخدمة الصحافية. حصاد القول إن سودان برس ووتش أعدت تقريرا جيدا وفق المعايير المتعارف عليها والمناهج السائدة، وهذا الجهد الطيب يفتح المجال أمام أسئلة جديدة.. عدد قراء الصحف اليومية في بلادنا هل هو ثابت أم متحرك؟ عند صدور صحف جديدة، هل تخلق قراء جددا؟ إذا كانت الصحف لا تربح، فمن أين تأتي بنفقاتها؟ لماذا يصدر مزيدٌ من الصحف اليومية طالما أن المُعلنين لا يزيدون بل تتراجع قيمة ما يسددونه للصحف؟ لماذا لا تكون هناك آلية تصدر بشكل دوري أرقام توزيع الصحف ومصادر تمويلها ووجهة إنفاقها؟ مثل هذه الأسئلة المعلقة في سماء الصحافة السودانية، أرجو من الصديق القديم أمير عبد الماجد المدير التنفيذي لمنظمة سودان برس ووتش أن يهتم بها، لكن لماذا لا تشغل بال العديد من المهتمين بمهنة الصحافة الورقية خاصة اليومية منها، على خلفية الانكماش في القراء والإعلانات. صفحة للتاريخ لقد اتسعت دائرة دخول القطاع الخاص مجال العمل الصحافي. وبلغت الشركات الصحافية في السودان بنهاية عام 2007 م عدد 31 شركة. ثم أضيفت إليها عشر شركات حتى أغسطس 2008 م، لتصبح بذلك 41 شركة تعمل في مجال إصدار الصحف والمجلات. وتتزايد بشكل مستمر عملية إصدار الصحف. وقد بلغت الصحف الصادرة بالسودان حتى نوفمبر 2008م عدد 50 صحيفة من بينها 30 صحيفة سياسية شاملة، و4 صحف بالإنجليزية تستهدف الناطقين باللغة الإنجليزية من السودانيين والوجود غير العربي بالبلاد، ومن بينها 10 صحف رياضية و6 اجتماعية وهناك صحف مصدقة تحت الإعداد لإصدارها. وبلغ الصحافيون المحترفون بنهاية العام 2007م عدد 3372 صحافيا، وبلغ عدد الصحافيين بالانتساب 496 صحافيا. وحتى أغسطس 2008م صعد العدد إلى 3552 صحافيا محترفا، وبلغ عدد الصحافيين بالانتساب 542 صحافيا.