قصة زلزال مذكرة العشرة … بقلم: محمد الشيخ حسين
محمد الشيخ حسين
20 April, 2009
20 April, 2009
قصة زلزال مذكرة العشرة
الترابي حضر أول اجتماع لمذكرة العشرة
محمد الشيخ حسين
abusamira85@hotmail.com
ما هي قصة مذكرة العشرة الشهيرة التي كانت البداية للمفاصلة التاريخية داخل ثورة الإنقاذ الوطني وخروج الدكتور حسن الترابي وأنصاره من الحكم؟
هل كانت المذكرة بداية لعملية تستهدف قيادة الترابي شخصيا، بعد أن ظل نحو عشر سنوات أشبه بالمسؤول المطلق عن إدارة البلاد، خاصة أنه استطاع أن ينقل الحركة الإسلامية للمرة الأولى من طور الدعوة إلى طور الحكم فماذا حدث؟
هل كانت المذكرة عملية خطيرة، لم يتصور الذين شاركوا فيها الأبعاد والمآلات الخطيرة التي أفضت إليها؟.
هل تحولت فكرة المذكرة إلى تحالف ضم كل الذين كانت لهم مآخذ على قيادة الترابي للحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني؟
يبدو أن الوقت مازال مبكرا على إصدار أحكام نهائية حول هذه المذكرة، على الرغم من أن تداعياتها تظلل حياتنا الآن بصورة دراماتيكية، فمثلما كانت نقلة إيجابية في الحركة الإسلامية عند الكثيرين، تعتبر خطوة سلبية عند الآخرين.
غير أن الدكتور أمين حسن عمر يقدم هنا رواية متماسكة لمجمل الظروف التي قادت إلى ظهور مذكرة العشرة. ولعل أهمية هذه الراوية تكمن في أمرين:
الأول: أن صاحبها يعتبر من المقربين جدا للدكتور حسن الترابي.
الثاني: أن الدكتور أمين يقدم روايته بمنهج متماسك يسرد الأحداث في عقلانية لا تخلو من مثالية، وهنا الجزء الأول من ثلاثية زلزال مذكرة العشرة.
قبل الحديث عن كيف كان الإعداد لمذكرة العشرة، ما هي الأجواء التي مهدت لظهورها؟
تبدأ هذه الأجواء بتعريف أن تنظيم المؤتمر الوطني كان جديدا، وفي بدايات تلمسه للعمل السياسي في البلاد. وتزامنت هذه البداية مع قرار بتجميد الحركة الإسلامية صدر قبل يونيو 1989م.
وتمظهرت الحركة الإسلامية خلال سنوات ثورة الإنقاذ الأولى في الهياكل الفوقية. وحتى هذه كانت مجرد وجوه قليلة من سبعة أشخاص. وكانت هذه المجموعة تتخذ القرارات التي تتعلق بالرؤية، ثم تذهب من بعد ذلك للمؤسسات، ثم تطور الأمر إلى مكتب تنفيذي من ثلاثين شخصا من دون أن يكون هنالك كيان شوري. ثم اُسترجع مجلس الشورى القديم المكون من 40 شخصا بعد أن كان معلقا.
وبعد قرار عودة مجلس الشورى تقرر أن يوسع المجلس تدريجيا, بحيث تكون دائما نسبة القادمين 60 بالمائة والقدماء 40 بالمائة حتى بلغ مجلس الشورى في مرحلة من المراحل 500 عضو لم يكونوا كلهم من قدامى المنضمين للحركة الإسلامية، بل كان بينهم مستقطبون كثر خلال سنوات الإنقاذ الأولى.
عفوا د. أمين أنت تتحدث عن سنوات الإنقاذ الأولى، في حين أن زلزال مذكرة العشرة ظهر بعد تسع سنوات من قيام الثورة؟
هذا الاستدراك يقودني إلى المرحلة التي جاء فيها الدستور في عام 1998م، حيث نص الدستور على التعددية التي تعني بالطبع أن يكون هناك حزب ظاهر للحركة الإسلامية، بمعنى هل تظهر الحركة الإسلامية كحركة إسلامية أم تتخذ إطارا أوسع منها؟ لذلك جاءت فكرة المؤتمر الوطني (كحزب سياسي للحركة الإسلامية). وساد قبله نظام سياسي من حزب واحد قائم على فكرة المؤتمرات المستندة إلى الديمقراطية القاعدية وإلى الشورى واللجان الشعبية.
الشاهد عندما صدر الدستور ذو الصيغة التعددية, تقرر البحث عن تنظيم واسع, وجاء المؤتمر الوطني، والمهم هنا أن الاتفاق بين المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية في المرحلة الأولى قضى بتصعيد مجلس الشورى بكامله، لكي يصبح الإطار الشوري للتنظيم الجديد. وحدث اتفاق ثانٍ بتصعيد المكتب القيادي بكاملة ليكون الإطار القيادي. وهكذا أصبحت هذه الأجهزة هي الأجهزة التنفيذية لبناء المؤتمر الوطني، وهذا ما حدث إذ أصبح الأمين العام هو أمين المؤتمر الوطني, والرئيس أصبح رئيس مجلس المؤتمر الوطني، والأمين العام هو الرئيس الإداري والتنظيمي للحزب الجديد.
وبعد فترة أعيد تنظيم الإطار الشوري بحيث يشمل أعضاء من الولايات، لأنه في البداية, كان جميع أعضاء الشورى من العاصمة. وأضيف للأمانة العامة جهاز جديد باسم المجلس القيادي، مثل أعضاء الولايات معظمه, أكثر من 70 بالمائة، والباقي دورة قومية تمثل العاصمة. وضمت الأمانة العامة برئاسة الدكتور حسن الترابي مجموعة أمناء اختارهم الدكتور الترابي, وعرضت على مجلس الشورى ووافق عليها، على الرغم من اعتراض واسع القواعد على كثير من الأمناء.
د. أمين هل يمكن ذكر أسماء الأمناء الذين تم الاعتراض على اختيارهم؟
يبدو لي أنه لا داعي لذكر الأسماء، خاصة أنني كنت أحد الذين طوروا أفكارا لمعالجة تلك الاعتراضات. وقد تركز الاعتراض على أشخاص بعينهم من جهة أنهم غير مناسبين للمواقع التي شغلوها, وأذكر أننا اقترحنا على الدكتور الترابي أن يشغل الدكتور نافع علي نافع منصب الأمين السياسي، لأن الأمين السياسي المعين في ذلك الوقت لم يكن مناسبا. ورغم أننا نعلم أن هناك حالة من عدم العلاقات الناعمة بين الدكتور الترابي ودكتور نافع، إلا أن هدفنا كان دفع الجميع للعمل بقوة في التنظيم. وظللنا مع الدكتور الترابي في ذلك اليوم حتى المغرب لإقناعه بالتعديل، لكن الذي حدث أن الدكتور الترابي قدم الأمانة العامة كما أراد، وبدا واضحا أن أغلبية الناس لم تكن راضية عن تلك الأمانة، بسبب أن عددا كبيرا من أعضائها دخلوها من باب الاستقطاب، ولم يعرفوا كقيادات تاريخية.
وانتهى الأمر في تقدير الكثيرين أن الدكتور الترابي اختار هؤلاء لعضوية الأمانة العامة لتكون الكلمة النهائية له.
اختيار الدكتور الترابي لمنصب الأمين العام، هل كان هناك اعتراض عليه؟
لم يكن هناك أي اعتراض عليه، بل كان أمرا مسلما به، فضلا عن هذا أنه قرار مجلس الشورى.
حالة عدم الرضا باختيار أعضاء الأمانة، هل تم التعامل معها بأي نوع من الجدية لامتصاصها؟
الواقع آنذاك أن الرأي الذي يعتقد أن الدكتور الترابي أتي بهؤلاء, لمجرد أن تكون الكلمة النهائية له, قد أخذ في الاتساع، إضافة إلى أن الأمانة العامة لم تتصرف كسلطة أو تجتمع كجهاز، وكان الأمين العام يتصرف بمفرده. وعندما اتسعت دائرة النقد لهذا الوضع، كنا نحن (علي كرتي وسيد الخطيب وأمين حسن عمر) نعتقد في ذلك الوقت أن الدكتور الترابي يمكن أن يسمع لنا أكثر من الآخرين، لذلك قلنا للأستاذ ياسين عمر الإمام إننا نريد أن نتحدث للدكتور الترابي والتقينا في منزل ياسين، وانتقدنا الأمانة العامة, وقلنا إن رئيس مجلس الشورى أصبح مهمشا والقرارات تصدر عن الأمانة العامة للحكومة وكأنما الحكومة جهاز تابع للأمانة العامة. ولم نشعر أننا أقنعنا الدكتور الترابي, واتفقنا على جلسة أخرى كانت في منزل علي كرتي، استمرت حتى الهزيع الأول من الفجر في نقاش لم يخل من الحدة انتهى بقول الدكتور الترابي (ما تدسدسوا في البيوت، أمرقوا للسهلة). وقد استفز هذا الرد سيد الخطيب وعلي كرتي.
في ذلك الوقت كنت وسيد الخطيب نلتقي بانتظام في هيئة الأعمال الفكرية، حيث كان سيد متفرغا للهيئة ورئيسا لها. واتفق رأينا (أنا وسيد والأخ المحبوب عبد السلام وآخرون) على إعداد مذكرة للدكتور الترابي تحمل وجهة نظرنا، خاصة بعد أن فشلنا عبر جلستي حوار بإقناعه بوجهة نظرنا. ودوّنا في هذه المذكرة عدة نقاط عادية لا تحمل أي استفزاز أو تحدٍ مثل:
ـ ينبغي أن تكون الأمانة العامة جهازا.
ـ لابد أن يكون هناك مكتب سياسي.
ـ نرجح أن يكون المكتب السياسي متصلا بالأمور التنفيذية والسيادية.
ـ ينبغي أن يكون رئيس المكتب السياسي رئيس الجمهورية حتى يكون جزءا من الأداة التي تتخذ القرار المتعلق بأعمال الحكومة.
وهكذا كانت المذكرة مجرد ملاحظات ديمقراطية تنشد المزيد من التوسع في الديمقراطية والشورى.
حتى الآن تبدو الأمور عادية، لكن ما الذي حدث حتى تتحول هذه المذكرة إلى زلزال؟
كان تقدير سيد الخطيب وعلي كرتي أننا إذا رفعنا المذكرة بهذا الشكل سوف يهملها الدكتور الترابي, وكانا يريان بدلا من أن نرفع المذكرة للدكتور الترابي نرفعها لمجلس الشورى الذي يرأسه رئيس الجمهورية. تحفظت أنا والمحبوب على رفع المذكرة لمجلس الشورى، لأنها ستجعلنا وكأننا في مواجهة مع الدكتور الترابي، خاصة أننا كنا نسعى لمعالجة الأمر بهدوء بعيدا عن التصعيد.
وللحرص على عدم التصعيد من جهتي, سبب آخر, فحواه أنني بحكم عملي كمستشار صحفي في القصر كنت على علم بأن العلاقات لم تكن جيدة بين الطرفين (الرئيس والأمين العام)، ولم تكن في أحسن أوقاتها بسبب تفاوت الآراء بين الطرفين في السياسة الخارجية. وأضرب مثلا بأن الدكتور الترابي كان يبادر بإعلان سياسات كان من الأرفق أن يترك للرئيس أو الحكومة مهمة الإعلان عنها حتى لا تبدو الحكومة وكأنها تدار من طرف خفي. ومثل هذا التصرف يفتقد للشفافية من جهة أن العالم سيعتقد أن الحكومة تدار برأسين رأس كبير, هو رأس الترابي, ورأس صغير, هو رأس الرئيس.
تبدو مثل هذه الخلافات السابق ذكرها من الأمور الوقتية، هل في تقديرك يمكن أن تقود إلى النتائج التي انتهت إليها مذكرة العشرة؟
صحيح أن كل هذه الأمور وقتية, وكانت توتر العلاقة بين الطرفين، لكن العلاقة وصلت أقصى مراحل توترها لسببين:
الأول: في تلك الفترة أكثر الدكتور الترابي من نقده للقوات المسلحة، وأحيانا يمتد النقد للحديث عن مهنية القوات المسلحة. وهذا النقد خلق رأيا عاما سلبيا في الجيش ضد الدكتور الترابي، خاصة أن الجيش واحدة من مكونات ثورة الإنقاذ الأساسية. وهكذا أصبحت هناك حالة غضب تنعكس في أحيان كثيرة على تيارات داخل الجيش من الطريقة التي يتم بها النقد في المساجد وبيوت الأعراس. وكانت هذه المسألة مستفزة, وكنت أعلم أن هذا يستفز الرئيس.
الثاني: إقدام الدكتور الترابي على شيء لم يكن مناسبا، وكان مترددا فيه، لكنه في النهاية أقدم عليه، وطلب من الرئيس أن يخلع البدلة العسكرية, وأن لا يلبسها بعد ذلك, وأن يصير مدنيا فقط.
وقفنا عند إقدام الدكتور الترابي على مطالبة الرئيس بخلع البدلة العسكرية والتحول إلى مدني، كيف تفسر هذا الأمر، وما علاقة هذا بمذكرة العشرة؟
تفسر هذه المطالبة أيضا في إطار الموقف السلبي الذي تبناه الدكتور الترابي من القوات المسلحة.
أما علاقة الأمر بمذكرة العشرة فقد تزامن مع توجه سيد الخطيب وعلي كرتي بالمذكرة إلى مكتب الرئيس وتقديمها للرئيس بصفته رئيس مجلس الشورى لإدراجها في أجندة الاجتماع.
ويتسق هذا التحرك من قبل الخطيب وكرتي مع اللوائح التي تنص على إدراج أي بند في اجتماع مجلس الشورى أن يتم بواسطة الرئيس أو الأمين العام أو ثلث أعضاء المجلس.
وحسب اللوائح, إن كنت تريد رفع مذكرة فلابد من وضعها في الأجندة وتدرج قبل مدة من الاجتماع ويعلم بها الناس ثم تعرض للنقاش. فإما أن يدرجها الرئيس كرئيس لمجلس الشورى أو يدرجها الأمين العام أو ثلث أعضاء المجلس.
ولم يكن عنصر الوقت يسمح بجمع توقيعات ثلث أعضاء المجلس، كما لم يكن متوقعا أن يقوم الأمين العام بإدراجها، وهكذا ذهبوا إلى الرئيس لإدراجها.
عفوا د. أمين, أنت تروي عن آخرين، ويبدو أن دورك قد اختفى، ما هو دورك الفعلي في مسألة إدراج المذكرة في الأجندة بواسطة الرئيس؟
في تقديري, ولست متأكدا من التفاصيل, أن سيد الخطيب بعد مناقشاتنا في هيئة الأعمال الفكرية، انتقل بالنقاش إلى مركز الدراسات الإستراتيجية. وهناك دخل الدكتور بهاء الدين حنفي في الصورة بصفته مدير المركز. وفي هذه المرحلة دخل الدكتور غازي صلاح الدين بحكم الصداقة التي تربطه بسيد ودكتور بهاء، ودائما ما يتبادلون الرأي في كافة القضايا والمسائل.
من النقاش الذي دار بين هؤلاء الأربعة كرتي والخطيب وبهاء وغازي خرجت مسودة المذكرة.
نحن الآن في مرحلة ظهور مسودة من أربعة أشخاص في حين أن المذكرة تحمل اسم العشرة؟
ذهب الإخوة الأربعة بالمذكرة إلى الفريق بكري حسن صالح وزير رئاسة الجمهورية، بغرض تحديد موعد لهم مع الرئيس. لكن الفريق بكري قال لهم لن اسمح لكم بمقابلة الرئيس إلا بعد معرفة الموضوع. وعندما تم اطلاع الفريق بكري على موضوع المذكرة، قال لهم: إذا كان هذا هو الموضوع فأنا أؤيد هذه المذكرة. وهكذا أصبح الفريق بكري الرجل الخامس في مذكرة العشرة، واعتقد أن هذا التأييد موقف طبيعي من الفريق بكري باعتباره شخصا ينتمي للقوات المسلحة.
موقف المذكرة حتى الآن يؤيدها خمسة من عشرة؟
بعد موافقة الفريق بكري عرضت المذكرة على شخص آخر، لا أرغب في كشف اسمه، لكن الذي حصل أن هذا الشخص الآخر انتقد المذكرة من جهة أنها لن تكون ذات وزن، إلا إذا انضم إليها أو أيدها أشخاص لهم رمزية. وضرب عدة أمثلة بكسب تأييد شخصية لها رمزية دينية مثل البروفيسور أحمد علي الإمام وشخص له رمزية تاريخية مثل الأستاذ عثمان خالد مضوي والبروفيسور إبراهيم أحمد عمر, وشخصية لها رمزية قبلية مثل حامد علي تورين، وشخصية لها رمزية سياسية مثل الدكتور نافع علي نافع. وهكذا اكتمل عقد العشرة الذين سميت بعددهم المذكرة.
كيف تطورت الأحداث بعد أن وصلت المذكرة للرئيس؟
عندما سلمت المذكرة للرئيس ووافق على إدراجها، كان المناخ ملبدا بغيوم كثيفة من الغضب. وبدت آثار هذه الغيوم واضحة حين جاء الرئيس لأول مرة في تاريخ اجتماعات الحركة الإسلامية كلها وتاريخ مجلس الشورى، إلى اجتماعات مجلس الشورى بالزي العسكري الكامل ومعه حرسه الرئاسي.
هذا المنظر وإدراج المذكرة دون إبلاغ الأمين العام، أثار الدكتور الترابي والأشخاص المحسوبين عليه. وعرضت المذكرة في جو عاصف، وفي الحقيقة لم أحضر الجزء الأول من الاجتماع، بسبب أنني كنت المعقب على محاضرة قدمها الأستاذ علي عثمان محمد طه في مركز الشهيد الزبير في ذلك اليوم.
بالمناسبة، ما هو دور الأستاذ علي عثمان محمد طه في هذه المذكرة؟
الأستاذ علي عثمان محمد طه لم يكن طرفا في المذكرة لا من قريب ولا من بعيد. وكل الاتهامات التي وجهت له في شأن هذه المذكرة كانت ظلما وعدوانا.
عفوا د. أمين مازال الاتهام يطال الأستاذ علي عثمان بتدبير المذكرة رغم مرور عشر سنوات عليها؟
أكرر وأؤكد أن الأستاذ علي عثمان لم يكن طرفا في هذه المذكرة أصلا. ومن يروج لهذا الاتهام لا يعرف طبيعة الأستاذ علي عثمان.. إنه لن يقبل بمثل هذا النوع من المعالجة. وحتى إن قبل بها، فإن الظروف لم تكن مواتية لمثل هذا النوع من المعالجات. إضافة إلى أن الأستاذ علي عثمان كان مدركا للأوضاع والمناخ السائد آنذاك.
وفيما يتعلق بغياب الأستاذ علي عثمان عن بداية الجلسة، فأنا لا اعرف إن كان قصد أن يغيب بسبب هذه المحاضرة أم بالصدفة تداخلت المواعيد. الخلاصة الاتهام للأستاذ علي عثمان اتهام باطل, وليس هناك ما يؤيده من وقائع إعداد وتقديم المذكرة نفسها.
عودة إلى اجتماعات مجلس الشورى، كيف سارت الأمور بعد عرض المذكرة؟
الحوار حول مذكرة العشرة داخل مجلس الشورى كان عاصفا, وانتهى إلى تسوية قادها إبراهيم السنوسي الذي قدم اقتراحا وسطيا قضى بأن تعدل القرارات التي وردت بالمذكرة. ووافق غالبية أعضاء مجلس الشورى عليها وأجيزت في تلك الأجواء.
هل قبل الدكتور الترابي تلك التسوية، أم أنه انحنى للعاصفة ريثما تهدأ الأمور؟
قبل تلك الأحداث العاصفة كان الدكتور الترابي قد أعلن أنه سيترك المجلس الوطني، وسيتفرغ للعمل السياسي. ولكن بعد اجتماع مجلس الشورى تحدث مع الدكتور الترابي الكثيرون بغية إقناعه بأن لا يترك رئاسة المجلس الوطني.
وبالفعل استجاب الدكتور الترابي واتخذ قرار الاستمرار في المجلس الوطني.
وأعتقد أن الدكتور الترابي قرر استخدام المجلس الوطني كإحدى وسائله في الساحة السياسية، إما حائط صد أو حائط هجوم. وبدا لي واضحا أن الدكتور الترابي سار في نهج إعادة البناء على شكل يضمن أن المؤتمر العام يكون أكثر ولاء للشيخ الترابي، وبعد ذلك إذا لم يستطع التخلص من الرئيس، يمكنه التخلص من المساندين الكبار للرئيس من خلال المؤتمر.
عفوا د. أمين فالإجابة السابقة تتضمن استنتاجات، نود أن نقف تحديدا على وقائع تسند هذه الاستنتاجات؟
أدعم حديثي السابق بالنزاع الشديد الذي حدث عند تشكيل اللجنة التنظيمية للمؤتمر. وقد عانيت أنا شخصيا من هذا النزاع، لأنني رشحت لعضوية اللجنة بصفتي محايدا. وأصل الحكاية أن الرئيس كان قد استشار الدكتور غازي صلاح الدين في من سيتم اختياره؟ كانت إجابة د. غازي أن أمين محايد في هذا. وربما جال في ذهن الدكتور غازي أنه قد يصعب على الدكتور الترابي أن يعترض على اختياري. لكن الذي حصل أن الدكتور الترابي انتحى بي على طرف في ردهات المؤتمر، وقال لي (لماذا اختارك الرئيس عشان وزير معاهو يعني).
وكان واضحا بالنسبة لي أن الأمر كان به تهمة ضدي. على أي حال كانت هذه هي الأجواء التي تصاعدت جدا بدرجة تنبئ عن انقسام كبير داخل المؤتمر. لكن في نهاية الأمر بجهود من الدكتور عوض الجاز، والأستاذ عبد الله حسن أحمد تم التوصل إلى تسوية أدت إلى أن يقول الأمين العام حديثا تصالحيا وكذلك الرئيس في الجلسة الافتتاحية. واعتقد الناس أن الأمر قد قضي.
بعد هذه التسوية أجريت الانتخابات ولم تكن النتيجة في مصلحة التيار المؤيد لمذكرة العشرة، هل يعني أنكم لم ترتضوا نتيجة الانتخابات؟
عندما أجريت الانتخابات اكتشف الناس أن الدكتور الترابي حتى يتخلص من أكبر عدد من الناس الذين اعتبرهم مؤيدين للاتجاه الجديد الذي أفرزته مذكرة العشرة، اكتشف الناس أنه اتفق مع قاعدة من الأمناء بالولايات الذين يدينون بالولاء للدكتور الترابي، لأنه هو الذي اختارهم. اتفق الدكتور مع هؤلاء الأمناء على تعبئة قواعدهم لتمرير قرار بإلغاء الكلية القومية، في الوقت الذي تدخل فيه كل القيادات مجلس الشورى من هذه الكلية.
وعبر هذه الكلية يدخل الرئيس البشير والدكتور نافع وكل القيادات. وألغيت هذه الكلية على حين غرة, وهذا يعني أن هؤلاء لن يدخلوا مجلس الشورى. وإذا لم يدخلوا مجلس الشورى, فهذا يعني أنهم ليسوا بقياديين.
ولكن بمعالجات من الراحل الدكتور مجذوب الخليفة مع عدد من أمناء الولايات الأكثر تحررا استطاع الراحل مجذوب أن يدخل عددا كبيرا من هؤلاء ضمن ولايتي الخرطوم ونهر النيل, وهناك آخرون دخلوا كاستكمال, منهم شخصي, واعتقد أنني محايد.
وقفنا عند إلغاء الكلية القومية ومعالجات الراحل الدكتور مجذوب الخليفة في إدخال عدد كبير في مجلس الشورى، لكن الدكتور الترابي يعتقد أن الممارسة الديمقراطية أسقطتكم في باب الانتخاب فعدتم من نافذة الاستكمال؟
عندما تختار كلية ولاية الخرطوم هؤلاء الأعضاء، فهل هذا ضد الديمقراطية؟ إذا تحدثنا عن الديمقراطية، فالدكتور الترابي ألغى الكلية القومية بهدف إبعاد كل القيادات التي تدخل إلى مجلس الشورى عبرها، فهل هذه ممارسة ديمقراطية. ولفائدة الجميع، فإن الكلية القومية تسندها ظروف موضوعية، ولا مجال لوصفها بأنها غير ديمقراطية حتى تلغى، والدليل أن المؤتمر الشعبي الآن لديه كلية قومية، مما يعني أن إلغاء الدكتور الترابي للكلية القومية لم تكن له مبررات موضوعية، بقدر قصد أن يسحب البساط من تحت أرجل القيادات في ولاية الخرطوم.
عفوا د. أمين يبدو أنك تعرضت لموقف غريب من جهة أنك كنت أحد المقربين للدكتور الترابي، لكنه مع ذلك أسهم في إسقاطك في الانتخابات؟
كنت على علم بهذه النتيجة، لأن أصدقائي في المجموعة المؤيدة للدكتور الترابي قالوا بلغة مباشرة (أنت ما معانا ما بنجيبك عديل كده).
ولم يكن في الأمر أي تستر أو مواربة، فالدكتور علي الحاج نفسه اعترف لي بأنهم اتفقوا على إسقاط شخص ليس معهم وأسقطونا فعلا.
وكنت قد رفضت أن أدخل في كلية الخرطوم، لأنني لم أكن حريصا على الدخول في مجلس الشورى نفسه. ولكن عندما جاء الاستكمال أدخلنا من باب الاستكمال في المجلس الجديد. غير أن المجلس الجديد نفسه سار في اتجاه تأييد الرئيس، مما دعا الدكتور الترابي إلى تجيير هذا الاتجاه بسبب مغانم السلطة.
بعيدا عن اتهام الدكتور الترابي، ما تفسيرك لتوجه أعضاء المجلس في اتجاه تأييد الرئيس؟
الواقع أن هذه التهمة تصلح لأن يضعها الإنسان كل في كف الشخص الآخر، وهي ليست حكرا على جهة واحدة.
وفي تقديري أن شعور أغلبية الأعضاء أن الدكتور الترابي كان متشددا ولا يريد التسوية، ويريد فقط أن يتخلص من الأشخاص الذين يرغب في التخلص منهم، ولا يريد أن يقدم أي تنازلات. هذا الشعور قاد أغلبية أعضاء مجلس الشورى إلى معسكر الرئيس.
واعتقد أن تقديري السابق يقدم التفسير الموضوعي للمسألة، ولكن هذا لا يمنع أن عددا قليلا من الأعضاء لم يكن في استطاعتهم إغضاب الحكومة. وأدعم هذا التقدير بتأكيد فحواه أنني جادلت بعض الأخوة المؤيدين للدكتور الترابي حول بطلان هذه التهمة، وقلت لهم إن الأعضاء الذين تتحدثون عن هرولتهم للسلطة، هم الذين بعثوا بأبنائهم للمعارك واستشهدوا وذهبوا بأنفسهم للمعارك وقاتلوا، فهل مثل هؤلاء يسعون للحكومة من أجل لمناصب هذا حديث غير موضوعي ينزع من منزع الخصومة وليس من منزع النظر الموضوعي للمسألة.
باعتبار الدكتور الترابي صاحب أكبر بذل في بناء الحركة الإسلامية، لكن الملاحظ في تعامله مع مذكرة العشرة أنه تحول إلى شخص هدم بنفسه البناء الذي شيده على مر السنوات، ما رأيك في هذا الاعتبار؟
سيطرت على الدكتور الترابي فكرة أنه شخصية مستهجنة، وبعض الناس حرضوا على هذه الفكرة مضيفين إليها أنه يراد حشره في الركن ويراد استلاب الصلاحيات التي يتمتع بها، ويراد عسكرة النظام. هذا ما كان يقال له. ولم يكن هذا صحيحا عند النظر الموضوعي للمسألة آنذاك.
في ظل الظروف الجديدة للخلافات، هل ظل الأستاذ علي عثمان محمد طه في موقفه المحايد؟
احتفظ الأستاذ علي عثمان محمد طه بموقفه المحايد لفترة طويلة، في الوقت الذي كان مستهدفا فيه بدرجة كبيرة من الهجوم الإعلامي الكثيف الذي لا يخلو من الاتهامات, حتى اضطر في نهاية الأمر إلى أن يعلن موقفا واضحا من غير مواربة، لكن الحملة على الأستاذ علي عثمان زادت بعد قرارات الرابع من رمضان، وهم اعتقدوا أن أفكار حل المجلس هي أفكار الأستاذ علي عثمان وليست أفكار الرئيس.
بمناسبة قرار الرابع من رمضان، يرى الدكتور الترابي أن القرار هدم الديمقراطية بحل المجلس، لأن الدستور لم ينص على حل المجلس؟
الصحيح أن الدستور سكت عن حق الحل، والرئيس حل المجلس، ولجأ الدكتور الترابي إلى المحكمة الدستورية التي حكمت وقالت إن الرئيس له الحق، لأن السوابق في السودان تفيد أن دستور 56 سكت عن الحل، لكن الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري حل الجمعية التأسيسية. ودستور 1973 سكت أيضا عن الحل، لكن الرئيس الأسبق جعفر نميري حل مجلس الشعب. لذلك اعتمدت المحكمة الدستورية على السوابق في حكمها. وقد انتقدت هذا في الصحف كرأي مخالف ونشرته في كتاب. ومع هذا فلست مؤيدا لرأي الدكتور الترابي، واعتقد أنه استخدم المجلس الوطني في حربه ضد الرئيس في قصة التعديلات الدستورية.
عفوا د. أمين تبدو إجابتك السابقة مثل من يقود طريقا ثالثا في هذه الخلافات؟
إبداء الرأي لا يؤسس على الانحياز لهذا المعسكر أو ذاك المعسكر. كان ردي على هذه الفتوى أن الرئيس له الحق مع صمت الدستور صحيح في القانون العام، لأنه يأخذ بالسوابق. وقلت إننا لا نحتكم حاليا للقانون العام، وإنما نخضع لأحكام الشريعة الإسلامية. والقاعدة العاملة في الشريعة هي أن السكوت عند الحاجة إلى بيان بيان. فإذا سكت عن سلطة الرئيس عند المكان المفروض أن تقرر فيه هذه السلطة فهذا يعني أن الدستور لابد أن يعطي السلطة للرئيس والرئيس ليس له الحق.
وهذا رأي قانوني أو شرعي أو كذا، لكن هذا لا يعني أنني كنت موافقا على ما يفعله الدكتور الترابي بالمجلس، لأننا كنا نشعر بأنه حول قضية التعديلات الدستورية إلى وسيلة لإضعاف موقف الرئيس وربما لدفعه إلى الاستقالة، لكن أدى الأمر إلى حل المجلس. وهذا ادخل المؤتمر الوطني في حالة انقسام من حيث الواقع, ومن ناحية قانونية لم يحدث انقسام، ولكن من حيث الواقع حدث الانقسام حتى تم بطريقة رسمية عندما تغيب الدكتور الترابي ومجموعته عن اجتماع مجلس الشورى، ومن بعد ذلك اختاروا لأنفسهم اسما جديدا.
في حسابات الربح والخسارة ما حصاد الأطراف الثلاثة الدولة، الحركة الإسلامية والأشخاص المعنيين؟
بالنسبة للحركة الإسلامية أسمي ما حدث فيها بانسلاخ مجموعة ذات عدد مقدر مع الدكتور الترابي. وكانت غالبية هذه المجموعة من الطلاب والنساء. وتفسيري أن الطلاب كانوا على اتصال مباشر مع الأمين العام والطلاب لم يكونوا مرتبطين بالمؤتمر الوطني كتنظيم. ولما كان التنظيم الطلابي للحركة الإسلامية مرتبطا بالأمين العام, فهو صاحب الصلة والوصل والفكرة، والشباب بطبيعتهم مثاليون، وكذلك المرأة. لذلك غالبية الذين انسلخوا ما عدا بعض القيادات الظاهرة كانوا من الشباب والطلاب والنساء. لكن الجسم الرئيسي للمؤتمر الوطني في الولايات بقي مع المؤتمر الوطني, ما عدا بعض الأمناء المعروفين بولائهم للدكتور الترابي, الذين انسلخوا مع مجموعات قليلة في بعض الولايات, لكن ظل الجسم الرئيسي للمؤتمر الوطني متماسكا.
والحركة الإسلامية كانت أكثر تضررا من المؤتمر الوطني، لأن أعضاء من الحركة الإسلامية ذهبوا مع الدكتور الترابي، وغالبيتهم ظلت في المؤتمر الوطني، لكن هناك مجموعة ثالثة جلست على الرصيف لم تنضم إلى هذا أو ذاك. وهي المجموعة الثانية في العدد بعد المجموعة التي انضمت للمؤتمر الوطني. ويمكن إحصاء الوضع بأن المجموعة الأكبر انضمت للمؤتمر الوطني, المجموعة المتوسطة جلست على الرصيف والمجموعة الأقل ذهبت مع الدكتور الترابي. ويمكن أن يحدث خلاف في المسألة، لكن المراقب يستطيع أن يحكم وفق المعايير المعروفة في المكاتب القيادية للحركة الإسلامية.
الحاصل أن الحركة الإسلامية كانت متضررة بسبب صعود أفراد وذهاب أفراد، لكن الدكتور الترابي هو المتضرر الأكبر لأنه كان زعيم هذا التيار كله، وكانت له سلطة واسعة. وحتى بعد كل هذه المراجعات كانت سلطته واضحة فيها، لكنه اكتفى بسلطة قليلة خرج بها.
والمؤتمر الوطني بالطبع خسر، لأن مجرد الانقسام يثير جوا من السلبية داخل التنظيم، لكن المؤتمر الوطني استطاع من بعد ذلك أن يمضي في مسيرته وأن يجتذب عناصر جديدة.
الخلاصة أن أحدا من الناس لا يستطيع أن ينكر أن هذه مسألة سلبية في تاريخ الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني، لكنها ليست غريبة في تاريخ السودان. فالانقسامات موجودة في السودان بسبب أن البناء التنظيمي ضعيف والبناء الفكري فضفاض والتركيز كان على الأشخاص والقيادات.
هل توافق على الرأي الذي يقول إن الدكتور الترابي عبر كل هذا كان يأمل أن يكون رئيسا للبلاد والحركة الإسلامية؟
لا اعتقد أن الدكتور الترابي كان يمكن أن يكون رئيسا للسودان، وهو يعلم أن هنالك معطيات كثيرة خارج السودان تجعل مهمة قيادته للسودان كرئيس صعبة.
وفي الفترة الأخيرة كان الدكتور الترابي يعلم أن غالبية القوات المسلحة لم تكن في حالة ترحيب بالدكتور الترابي.
أخيرا قصة أن يبقى الدكتور الترابي رئيسا للحركة الإسلامية كلها هذه صحيحة, وأن تخضع لها الدولة كلها برئيسها هذا أيضا صحيح، لكن سبب المشكلة الرئيسية أن الدكتور الترابي كان يريد أن تكون له الكلمة النهائية, وهذا غير متاح بطبيعة أن ممارسة السلطة في إطار ديمقراطي لا يمكن أن تجعل هذا أمرا متيسرا, ليس للترابي بل لغيره. ولنا عبرة في الأحزاب الأخرى التي تقسمت وتشتت بسبب إصرار القيادات على أن تحكم القبضة عليها.
أظن أننا نحتاج في ثقافتنا السياسية إلى ثقافة التخويل والتفويض حتى نحافظ على وحدة التنظيم، مثلما حافظنا حتى الآن على وحدة البلد من خلال الفيدرالية التي تتيح صلاحيات لمستويات أخرى.