كتابٌ استثنائي في تاريخ الشعر السوداني وتذوَّقه ونقده .. تأليف: عبد المنعم عجب الفيا .. عرض وتعقيب: خالد محمد فرح

 


 

 

 

Khaldoon90.hotmail.com

يصدر في مطلع هذا العام 2020م ، للأديب والناقد الحاذق ، والباحث والناشط الثقافي المثابر ، الأستاذ عبد المنعم عجب الفيا ، كتاب جديد بعنوان: " الشعر السوداني من مدرسة الإحياء إلى قصيدة النثر: دراسة نقدية " عن دار " مدارات " للنشر والتوزيع بالخرطوم. إنه بلا شك ، كتابٌ عمدة في استعراض مسيرة الشعر السوداني وتذوقه ونقده ، لم يُتح لنا مثله قريباً ، ولا يقل بأي حال من الأحوال ، عن أعمالٍ أخرى شهيرة سابقة له ، حاولت المسير على هذا النهج ، من لدن أعمال: سعد ميخائيل ، وعبده بدوي ، ومحمد إبراهيم الشوش ، وعبد الهادي الصديق ، وحليم اليازجي ، ومحمد الواثق ، وفاطمة بوهراكة ، إن لم يتفوق عليها جميعا. وقد يتفوق عليها بكل تأكيد ، لجهة الاستيعاب والشمول والعمق ، بله المواكبة والأصالة في التناول ، فضلاً عن قصد المؤلف تصويب النظر إلى الشعر السوداني في إطار موضعه من مجمل مسيرة الشعر العربي ، على نحو استقصائي شامل يلامس جميع أنماط النظم الشعري ، ابتداءً بشعر الإحياء التقليدي الذي سار على نهج القصيدة العربية الكلاسيكية القائمة على بحور الشعر والأوزان الخليلية ، وانتهاء بقصيدة النثر. وفي ذات الأثناء ، يتتبع الكاتب تفاعل الحركة الشعرية والأدبية والفكرية في العالم العربي والسودان بوصفه جزءاً منه ، مع سائر التيارات الفكرية والأدبية والشعرية والنقدية التي ظلت تتعاقب على الغرب بصفة عامة ، مثل: الكلاسيكية ، والرومانسية ، والواقعية ، والرمزية ، انتهاء بالحداثة وما بعد الحداثة.
وبذلك يبدو هذا الكتاب في نظرنا ، مؤهلا للغاية لأن يكون كتاباً دراسياً منهجياً نموذجياً لطلاب الشعر السوداني في الجامعات والمدارس الثانوية على حد سواء ، مثل ما أنه مؤهلٌ لكي يسد حاجة الباحث والأستاذ الجامعي المتخصص ، فضلاً عن المثقف والقارئ العادي بالعربية حيثما كان ، في الوقوف على صورة إجمالية لمسيرة الشعر السوداني ، وجوانب مضيئة من الفكر والعطاء السوداني في مجال الأدب والثقافة بصورة عامة ، منظوراً إليها من خلال الإطار العام لمسيرة الشعر والفكر والثقافة في العالم العربي خاصة ، وعلى المستوى العالمي بصفة عامة.
يتألف هذا الكتاب من بابين وخمسة عشر فصلاً ، تطرَّق فيها المؤلف إلى المباحث التالية بالترتيب:
الباب الأول: وهو تمهيدٌ عام حول مسيرة الشعر العربي ، وتحولاتها عموما في العصر الحديث ، ويشتمل على أربعة فصول كالآتي:
الفصل الأول: الشعر العربي من التقليد إلى التجديد
الفصل الثاني: قصيدة وحدة التفعيلة العربية
الفصل الثالث: الخصائص الأسلوبية لقصيدة الحداثة
الفصل الرابع: قصيدة النثر العربية
أما الباب الثاني ، فقد خصّصه المؤلف لرصد مسيرة الشعر في السودان على وجه الخصوص والتحديد. ويضم هذا الباب أحد عشر فصلا.
إنَّ كاتب هذه السطور لا ينطلق في موقفه المقرِّظ لهذا الكتاب والمبشِّر به ، والمشيد به وبمؤلفه ، من محض الامتنان المستحق للمؤلف لكونه قد أهدى مشكوراً كتابه هذا لشخصه المتواضع ، فكأنه من باب المثل الشعبي في السودان ، القائل ما معناه: " تمتدح حسن العروسة وتُطرِي جمالها مزينتها وأمها وخالتها " ، ولكنه ينطلق حقيقةً ، من موقف يتسم بقدر كبير من الموضوعية والإنصاف والتجرُّد ، وأحسب أن سائر القراء ، سوف يشاطرونني الرأي ، فور فراغهم من الاطلاع على هذا السفر المُعلِّم والمفيد والممتع حقا في مجاله.
يقارب عبد المنعم عجب الفيا في كتابه هذا مسيرات الشعر والفكر العالمي والعربي والسوداني على حد سواء ، ويدوِّن في أثناء ذلك ، ما يعنُّ له من ملاحظات عن تقاطعات ومؤثرات متبادلة ، ومقارنات وتشابهات بسبب التأثير والتأثر ، أو نابعة من صميم وحدة التجربة الإنسانية بطبيعة الحال. فنراه يذكر ويحاور ويستشهد بأشعار وآراء وأقوال: هوميروس ، وصوفوكليس ، وامرئ القيس ، وذي الرمة ، والمتنبئ ، والمعري ، وعمر الخيام ، ووليام شكسبير ، وشيلي ، وبودلير ، وكولريدج ، ووليام وردزورث ، وادغار الان بو ، وت. س. اليوت ، وعزرا باوند ، ورامبو ، وشوقي ، وحافظ ، والزهاوي ، والرصافي ، ومحمد سعيد العباسي ، وخليل مطران ، وميخائيل نعيمة ، وعلي محمود طه ، وإبراهيم ناجي ، وحمزة الملك طمبل ، والأمين علي مدني ، ومعاوية محمد نور ، ومحمد أحمد محجوب ، ومحمد وعبد الله عشري الصديق ، والتجاني يوسف بشير ، ونازك الملائكة ، ومحمد المهدي المجذوب ، وعبد الله الطيب ، وبدر شاكر السياب ، وصلاح عبد الصبور ، وصلاح أحمد إبراهيم ، ومحمد المكي إبراهيم ، والنور عثمان أبكر ، ومحمد النويهي ، ومحمد محمد علي ، ومحمد إبراهيم الشوش ، وعبد القدوس الخاتم ، ومحمد عبد الحي ، وأحمد الطيب زين العابدين ، ونور الدين ساتي ، وعبد الله علي إبراهيم ، والنور حمد وغيرهم.
ومما يُحمد للمؤلف حقاً ، أنه يأخذ بأيدي القراء برفق ، فيوقفهم على دقائق معاني بعض المصطلحات والمقولات النقدية الحداثية المعاصرة ، وذلك في لغة سهلة ومبسطة ، وواضحة المرامي والدلالة ، وبالأمثلة التوضيحية من التراث الشعري العربي المشهور وواضح المعاني ، في كثير من الأحيان. وهكذا عرفنا معه معاني: التناص ، وتيار الوعي ، والمعادل الموضوعي ، وموت المؤلف. وماذا قال رولان بارت ، وجاك دريدا ، وليوتار ، وماذا قالت جوليا كريستيفا ، وهيوم ، والشكلانيون الروس ، ووالت ويتمان ، وأدونيس ، وأنسي الحاج ، ومحمد الماغوط ، وعاطف خيري ، وأخيراً وليس آخراً: الشاعر السوداني الشاب المُبهر: " محمد عبد الباري " الذي فاز مؤخراً بجائزة الأمير عبد الله الفيصل العالمية للشعر العربي للعام 2019م ، والذي عقد له الكاتب فصلاً خاصاً به بعنوان: " صوتٌ شعريٌّ جديد ".
وبهذه المناسبة ، فقد أطربني بشدة ، المثال الذي ساقه المؤلف من بحبوحة الشعر العربي الأصيل لتوضيح مفهوم " المعادل الموضوعي " ، الذي صكه الشاعر والناقد الامريكي البريطاني المعروف توماس استيرنز إليوت 1888 – 1965م. فقد استشهد بقول الشاعر غيلان بن عقبة " ذو الرمة " ( ت 117 هـ \ 735م ) ، الذي هو أحد كبار شعراء العصر الأموي ، وهو يصور حالته النفسية بسبب بعده عن محبوبته ، وانقطاع الوصل بينهما ، بطريقة رمزية:
عشيةَ مالي حيلةٌ غيرَ أنني بلقطِ الحصَى والخطُّ في التُّربِ مُولَعُ
أخطُّ وأمحُو الخطَّ ثمَّ أُعيدُهُ بكفيَّ والغِربانُ في الدارِ وُقَّعُ
فيمضي المؤلف في التأويل المعجب فيقول:
" لم يصرح الشاعر هنا عن حزنه وحيرته (وانقطاع رأسه) يوم رحيل محبوبته تصريحاً مباشراً ، ولكنه كنَّى عن ذلك بسرد جملة من الأفعال صدرت عنه لا شعورياً ، وهي اللعب بالحصى ، والشخبطة والكتابة على الرمل ، ثم المحو وإعادة الكتابة ، وهو في شرود وذهول لا يدري ماذا يفعل. وبذلك نجح بكل براعة في أن ينقل الحالة الشعورية التي اعترته آنئذ عبر ذلك الترميز.
والكناية بهذا المفهوم ، صورة من صور (المعادل الموضوعي) ، حيث لا يصرح الشاعر بعاطفته تصريحاً مباشراً ، ولكنه يعمد إلى خلق أو إيجاد حالة أو شئ أو حدث أو جملة أحداث وأفعال خارجية ، توحي إيحاءً بتلك العاطفة ". أ. هـ
ولا تقتصر هذه الروح والنزعة التوضيحية والتعليمية التي تكاد تنتظم هذا السفر كله ، على شرح مصطلحات الحداثة الشعرية والنقدية ، وتقريب مدلولاتها للقارئ غير المتخصص ، وإنما تعدتها إلى حرص المؤلف على ذكر اسم البحر الخليلي الذي نظمت فيه أية قصيدة أو أي مقطع من الشعر العربي التقليدي أو شعر التفعيلة جرى الاستشهاد به في الكتاب ، مع بيان رسم تفعيلاته بأوزانها المختلفة بالكتابة العروضية أيضاً ، وتلك لعمري التفاتة محمودة بكل تأكيد من جانب المؤلف ، إلى هذا البعد العملي والتطبيقي في مثل هذا الضرب من الكتابة الأدبية ، خصوصاً إذا ما رامت مخاطبة أوسع طيف ممكن من جماهير القراء ، الذين هم متباينو المستويات والاستعدادات بطبيعة الحال.
إن هذا السفر ، إلى جانب كونه كتاباً في الأدب والشعر والنقد الأدبي عموماً ، واستعراضاً لمسيرة الشعر السوداني على وجه الخصوص ، إلا أنه يمثل أيضا سجلاً مهما للتاريخ الفكري والثقافي والاجتماعي وحتى السياسي - إلى حد - ما للسودان ، على الأقل من منتصف القرن التاسع عشر ، وحتى مطالع الألفية الثالثة هذه.
على أننا نود بعد هذه المقدمة ، أن ندلي بدلونا في مسائل معينة استوقفتنا أثناء قراءتنا لهذا السفر ، وأحببنا أن نحاور الكاتب فيها ، ونشرك القراء في بعض ما عنَّ لنا بشأنها:
- أعاد المؤلف مشكوراً قراءة الأديبين السودانيين الرائدين: الشاعر والناقد حمزة الملك طمبل 1893 – 1960م ، والناقد والقاص والأديب الألمعي معاوية محمد نور 1909 – 1941م ، وكشف لقراء العربية عموما وبصفة خاصة ، ولكثير من السودانيين أيضاً ، عن جوانب مهمة من تراثهما الريادي والتجديدي الضخم ، وعن أدوارهما المؤثرة في مسيرة الأدب والشعر العربي عموماً ، والسوداني على وجه الخصوص. غير أنني – بهذه المناسبة – لم أزل أتساءل: هل يمكن أن يكون معاوية نور مولوداً في عام 1909م ، وتخرج في الجامعة الأمريكية ببيروت في عام 1929م ، أي وهو في العشرين من عمره فقط ، في ذلك الزمان الذي كان فيه الطلاب يدخلون الجامعة نفسها في سن العشرين على أقل تقدير. فهل أخطأ كُتاَّب سيرة معاوية نور خطأ ما في هذه الجزئية من سيرته ؟ وهل من الممكن أن يكون قد ولد في عام 1904 أو 1905 مثلاً ؟.
- نوّه الكاتب مُحقَّاً بسبق الأدباء السودانيين الرواد الثلاثة: الأمين علي مدني ، وحمزة الملك طمبل ، ومعاوية محمد نور إلى الدعوة إلى ما اصطلح عليه بالأدب القومي ، أي ذلك النوع من الأدب الذي ينحو إلى إبراز الملامح القُطرية أو المحلية المميزة في الشعر والقصة والرواية ، وذلك على مستوى السودان ، وفي العالم العربي انطلاقاً من مصر أيضا. وهنا ، ربما يجوز لنا الإشارة إلى أنه قد كان هنالك دائما اضطرابٌ والتباسٌ في الترجمة إلى اللغة العربية لمصطلح Nationalism كما يرد في الفكر السياسي والاجتماعي الغربي وفي اللغات الأوروبية. والسبب في ذلك في تقديرنا ، هو تأخر بلورة المفهوة نفسه بشكل نهائي في الشرق العربي. وقد لاحظنا ذلك حتى في مجال كرة القدم على سبيل المثال. إذ بينما كان ال National Team يعرف بالفريق الأهلي في أول الأمر ، صير إلى ترجمته بعد سنوات إلى " الفريق القومي " ، ثم صار يعرف في السنوات الأخيرة بالمنتخب الوطني. وهل بوسعنا يا ترى ، أن نعزو غلبة القول بالقومية على القول بالوطنية في بعض البلدان العربية ، إلى عقابيل تأثيرٍ ما للفكر القومي العربي ؟.
- كشف عجب الفيا في كتابه هذا عن جوانب من تأثر الشاعر التجاني يوسف بشير في شعره بشعر حمزة الملك طمبل ، وهو رأي ربما لم يسبقه عليه أحد من الدارسين والباحثين في حدود ما نعلم.
- وبدوره أشار المؤلف إلى وجود أخطاء طباعية جمة في نسخ ديوان التجاني يوسف بشير بطبعاته المتعددة المتعاقبة ، ونوه بما كتبه عدد من الباحثين في ذات الخصوص مثل: عبد الله علي إبراهيم ، ومحمد عبد الحي وغيرهما ، وزاد عليهم بالتنبيه إلى أخطاء أخرى إضافيىة. ونود – بهذه المناسب - أن نبشِّر المؤلف وسائر القراء الكرام ، بأن نسخةً مصححة ومنقحة ومحققة من ديوان " إشراقة " للتجاني يوسف بشير ، قد تم الفراغ منها بالفعل ، ومن المنتظر أن ترى النور قريباً ، كما أخبرني بذلك ، الدكتور الصديق عمر الصديق ، مدير معهد عبد الله الطيب للغة العربية بجامعة الخرطوم ، ومدير بيت الشعر بالخرطوم أيضا.
- ونوَّه المؤلف مُصيباً بسبق الدكتور عبد الله الطيب تاريخياً إلى نظم الشعر الحر ، أو شعر التفعيلة بالتحديد في العالم العربي ، عبر قصيدته " الكأس التي تحطمت " ، التي نظمها بلندن في أبريل 1946م ، سابقاً بذلك نظم الشاعرة العراقية نازك الملائكة لقصيدتها " الكوليرا " في ديسمبر 1947م ، وكذلك لقصيدة بدر شاكر السياب بعنوان: " هل كان حُباً " التي تلتها بأسبوعين.
- على أننا لاحظنا أن المؤلف لم يشر إلى سبق ناقد وأكاديمي سوداني رائد آخر ، هو البروفيسور عز الدين الأمين 1920 – 2018م ، الذي يذكر كثير من الباحثين أنه هو الذي ابتدع مصطلح " شعر التفعيلة " ، فلعل هذه المعلومة المهم قد ندَّت عنه سهوا.
- صحيحٌ ما ذهب إليه المؤلف من أن الشاعر محمد المهدي المجذوب 1919 – 1982م ، قد كان يمثل مدرسة قائمة بذاتها في الشعر السوداني ، وأنه يمثل ملتقى تيارات الحداثة الشعرية بالمدرسة التقليدية ، بدليل أنه لقبه مجازاً ب " مجمع البحرين ". ومصداقاً لذلك – على سبيل المثال – أنه عندما توفي هذا الشاعر الطليعي في عام 1982م ، رثاه ابن عمه وصديقه العالم والشاعر عبد الله الطيب بقصيدة جاء فيها:
مضى الفحلُ والخنذيذُ والمُفلقُ الذي سيبكي يسارٌ فقدَه ويمينُ
وقوله:
وجارَى ذوي التجديد شأواً فبذَّهم ولا غروَ إذ أنَّ الأساسَ متينُ
ولا تخفى التورية اللطيفة في قوله " يسار ويمين " الذي يعني به عبد الله الطيب أن نعي المجذوب قد شقَّ على الجميع بمن فيهم أهل اليسار وأهل اليمين ، بالمفهوم الفكري والإيديولوجي ، فهو موضع إجماع بالإكبار والتقدير من كليهما.
- ومما لاشكَّ فيه أيضاً ، أن الحديث عن العلاقة بين محمد المهدي المجذوب وعبد الله الطيب ذو شجون. فهما قريبان نسباً ، ومتقاربان في السن أيضاً ، وكانا خِدنَيْ طفولة وصبا. ولعل مما يُذكر في هذا الباب أنَّ قول المجذوب في قصيدته السينية:
النارُ أوقدها عيسى وشاركني فيها ابنُ بيرقَ أسراري وأقداسي
أنه عنى بابن بيرق المذكور ، عبد الله الطيب نفسه. قالوا: لقَّبه بابن بيرق نسبة لجدٍّ له اسمه: أحمد وكان يلقب ب " بيرق ". ومعنى البيت أن نار القرءان التي تعلم الشاعر في ضوئها طفلاً ، قد أوقدها عيسى ولد قنديل ، وهو رجل صالح ، يمثل الجد الأعلى لعشيرة المجاذيب التي ينتمي إليها كلا الأديبين النابهين.
- ولعلنا نؤيد المؤلف فيما ذهب إليه من أن العلاَّمة عبد الله الطيب المعروف عنه انحيازه إلى القصيدة العربية الكلاسيكية بأوزانها الخليلية ، واعتبارها أسمى انماط الشعر العربي ، بلْه العالمي في نظره ، قد بدا قاسياً نوعاً ما في أول أمره ، في نقده للشاعر المجدد التجاني يوسف بشير ، وذلك من خلال بعض النماذج التي عرض لها من شعره في كتابه العمدة في بابه: " المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها " ، بمثل ما تصحُّ ملاحظته بأن عبد الله الطيب قد صار لاحقاً ، أكثر قبولا لشعر التجاني يوسف بشير. والحق أن عبد الله الطيب قد تصالح بالفعل في آخر عمره مع شعر التجاني يوسف بشير ، وأعاد إليه الاعتبار في نفسه ، والدليل على ذلك ، أن آخر بحث قدمه عبد الله الطيب في مجمع اللغة العربية بالقاهرة قبل وفاته في عام 2003م ، كان عن شعر التجاني يوسف بشير. بل إن عبد الله الطيب قد تجاوز ذلك ، إلى التصالح ، بل الإشادة بأشعار بعض رموز الأجيال التي أعقبت التجاني من المجددين والحداثيين مثل صلاح أحمد إبراهيم ، ومحمد الفيتوري ، فصار يطرب لمثل قول صلاح أحمد إبراهيم في قصيدته " نحن والرَّدَى ":

يا زكيَّ العودِ بالمطرقةِ الصمَّاءِ والفأسِ تشظَّى
وبنيرانٍ لها ألفُ لسانٍ قد تلظَّى
ضعْ على ضوئكَ في الناس اصطباراً ومآثرْ
مثلما ضوَّعَ في الأهوالِ صبراً آل ياسرْ
فلئنْ كنتَ كما أنت عَبِقْ .. فاحترقْ !

وربما كان تفسير ذلك الموقف الإيجابي والمتطور لعبد الله الطيب لمصلحة بعض الحداثيين والتجديدين السودانيين خاصة ، أنه قد جاء في سياق التفاتة منصفة منه – وإن جاءت متأخرة نوعاً ما - " وطنية " البواعث ، هدفت للإعلاء من شان الثقافة السودانية وخصائصها ورموزها ، والمنافحة عنها في وجه " الآخر " ولو كان " قوميا ". فجعل في ذات المضمار مثلاً ، يقدِّم محمد سعيد العباسي علىى البارودي ، ويقدم التجاني يوسف بشير على أبي القاسم الشابي ، والفيتوري على أدونيس ، وهكذا.
- وعلى ذكر عبد الله الطيب ، يوقفنا عبد المنعم عجب الفيا في سفره القيم هذا ، على مباحث باذخة ، وأفكار موحية حقاً في مجال الأدب المقارن ، وجوانب من أبواب التأثير والتأثر بين الشعر والثقافة في الفضاء العربي والإسلامي من جانب ، والعالم الغربي من جانب آخر ، وهي مباحث كان للعلامة عبد الله الطيب القدح المعلى في استجلائها. ويصاول عجب الفيا البروفيسور عبد الله الطيب ذاته باقتدار وبراعة مذهلة ، عندما يستنتج على نحو مقنع الى حد كبير – على سبيل المثال – أن ت. س. إليوت قد تأثر بشعر عمر الخيام في رباعياته التي اعترف هو نفسه بأنه كان قد اطلع عليها في صباه عبر ترجمة فيتزجرالد لها ، بينما كان عبد الله الطيب يرى أن ت. س. إليوت قد اختلس أشياء من معلقة لبيد بن ربيعة العامري: " عفت الديارُ " ، وضمَّنها في قصيدته المطولة " الأرض الخراب " ، ولم يشر إليها في هوامشه. ومهما يكن من أمر ، فإن الراجح – كما يوضح لنا عجب الفيا على نحو شديد الاقناع - هو أن ت. س. إليوت قد أخذ بالفعل أشياء من عمر الخيام ، وضمنها في قصيدته الشهيرة المشار إليها ، التي أضحت إنجيل الحداثة الشعرية في سائر أنحاء العالم منذ تأليفها في عام 1922م ، وذلك دون أن يشير مطلقاً إلى تلك الأشياء في الهوامش العديدة التي صنعها لقصيدته ، رغم أنه قد استشهد فيها بعشرات الاقتباسات من جميع ثقافات العالم وعقائده وفلسفاته وآدابه.
وينقل المؤلف عن اليوت نفسه في حوار أجراه معه دونالد هول بمجلة " حوار " في عام 1962م ، قوله " بعضمة لسانه ":
" بدأت نظم الشعر ، وأنا كما أظن ، في الرابعة عشرة من عمري ، بتأثير فتزجرالد في رباعيات الخيام. فكتبت بذات الأسلوب عدداً من الرباعيات المفعمة بروح التشاؤم والإلحاد واليأس ، ولكن لحسن الحظ أتلفتها جميعا ، ولم يبق منها واحدة ، ولم أريها لمخلوق. "
ثم يستنتج عجب الفيا من ذلك محقا: " قوله إنه أتلف القصائد التي كتبها بتأثير الخيام ، لا ينفي ، بل يؤكد تغلغل الرباعيات في وجدانه ، وانسرابها في مخيلته. وحاله هنا يحاكي حال الشاعر العربي القديم الذي سُئل كيف له أن يصير شاعراً ، فقيل له: احفظ ألف بيت من الشعر ثم انسها. وبالطبع سوف ينساها ، إنما ستظل عالقة في اللاوعي كمخزون ترفد وتغذي ذاكرته الجمالية. كذلك حال اليوت مع رباعيات الخيام. " أ. هـ
ويوقفنا عجب الفيا على بعض مظاهر تأثر ت. س. اليوت برباعيات الخيام في مطولته الشهيرة " الأرض الخراب " The Waste Land ، على هذا النحو ، على سبيل المثال:
" .. سوف نكتفي هنا من هذه الأصداء ، بالوقوف عن افتتاحية ( الأرض الخراب ) ، التي حاكى فيها إليوت رباعيات الخيام. يقول إليوت في مطلع الأرض الخراب:

أبريل أشد الشهور قسوة
فهو يُخرج زهور الليلك من الأرض الميتة
يمزج الذكرى بالرغبة
يثير الجذور الخاملة بأمطار الربيع
الشتاء أدفأنا ، مغطياً الأرض بثلج نيسان

مطلع قصيدة إليوت هذا ، يشبه إلى حد كبير من حيث الصياغة والصور والأخيلة ، رباعية للخيام ضمن الرباعيات التي ترجمها فتزجرالد إلى الإنجليزية. وننقل الرباعية إلى العربية هنا عن فتزجرالد على النحو التالي:

هاهي السنة الجديدة تثير الرغبات القديمة
والروح المفكرة تلوذ إلى وحدتها
حين يد موسى تغطي الأغصان بالبياض
ونسمة عيسى تحيي الأرض الميتة

ويشرح فتزجرالد في هوامش ترجمة الرباعية ، عبارة (السنة الجديدة) بقوله: " السنة الفارسية الجديدة ، تبدأ مع مقدم الربيع ، وبياض يد موسى أنه كبياض زهور مايو في الربيع عندنا ، وبعث عيسى للموتى بنسمة من نفسه ، رمز لإحياء الأرض في الربيع ".
ويختم عجب الفيا استنتاجه المسدَّد هذا في هذه الجزئية قائلا: " وأغلب الظن أن هذه الرباعية كانت الأكثر رسوخاً في مخيلة إليوت حين قرأ الرباعيات في صباه الباكر ، فألحت عليه حين هم بكتابة قصيدة ( الأرض الخراب ) ، فجاءت صياغة الافتتاحية ترديداً وترجيعاً لأنغام وصور الرباعية كما جاءت في ترجمة فتزجرالد. " أ. هـ
- ومما قد يدخل في باب الأدب المقارن أيضاً ، من المباحث التي عرض لها المؤلف في كتابه هذا ، ملاحظته أنَّ الحداثة الشعرية الفرنسية ، التي هي أمُّ الحداثة الشعرية العربية بامتياز ، كما تتجلى خصوصاً في أعمال: أدونيس ، وأنسي الحاج ، ومحمد الماغوط وأضرابهم ، قد كانت هي نفسها تقليداً وعيالاً على الحداثة الأنقلوسكسونية عامةً ، و الأمريكية خاصةً ، حيث دلَّل الكاتب على ذلك بإيراد إشارات محددة ، توضح تأثر بودلير بالشاعر الأمريكي: ادغار ألان بو 1809 – 1849م ، على سبيل المثال.
- ولعل مما يمكننا أن نستدرك به على المؤلف في قوله في مطلع الفصل الأول من الباب الأول عن إحياء القصيدة العربية الكلاسيكية إنه " بعد سقوط بغداد على يد التتار المغول في عام 1258م ، وسيطرة الأتراك العثمانيين والمماليك على مقاليد الحكم في العالم العربي ، أصاب الشعر العربي الفصيح شئ من الجمود ، واستمر هذا الجمود حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر.. الخ " ، أن هذا الحكم ليس صحيحاً هكذا على إطلاقه. فقد ظهر شعر المديح النبوي خلال ذات الفترة ، فجدد ديباجة الشعر العربي ، ونفث في جسده روحاً جديدة ونابضة من الحرارة والأصالة والتدفق والعاطفة الصادقة ، إلى جانب السلاسة والعذوبة ، والبراعة الفنية ، كما يتمثل ذلك مثلاً في أشعار: الصَّرْصَرِي ، وابن الفارض ، وعبد الرحيم البرعي ، وعبد الغني النابلسي ، والشهاب محمود الحلبي وغيرهم.
- وختاماً ، فإن المؤلف قد اجتهد اجتهاداً منقطع النظير في التوثيق لعدد كبير من الشعراء السودانيين بمختلف أجيالهم ومدارسهم ومذاهبهم في كتابة الشعر ، ولكن ندَّت عند بالرغم من ذلك – وهذا شئ طبيعي – أسماءٌ هي قمينة بان يكون لها ذكر في مثل هذا السفر الجامع. فقد افتقدت فيه أنا خاصةً من القدامى من شعراء القصيدة العربية الكلاسيكية أو الخليلية: الشيخ الطيب السراج ، وابنه فرَّاج الطيب ، ومحمد عبد القادر كرف. ومن هذه المدرسة من المعاصرين: إبراهيم الدلاَّل ، وهو أمير هذه المدرسة في السودان في الوقت الراهن غير مُدَافع في تقديري الخاص ، إلى جانب الدكتور محمد الفاتح مرغني ، وسيف الدين عبد الحميد. أما من بين من افتقدتهم من شعراء التفعيلة: الأستاذ مصطفى سند وهو شاعر يوشك أن يكون صاحب مدرسة خاصة لها أتباعها وحواريوها في التأليف الشعري. ولأن كان المؤلف قد نوَّه بعطاء بعض شعراء الشباب المعاصرين ، وأفرد فصلا خاصا للشاعر محمد عبد الباري كما أسلفنا ، فإن هنالك طائفة أخرى كبيرة من الشعراء والشاعرات الشباب المجيدين والمجيدات حقاً في السودان. منهم الثلاثي: أسامة تاج السر ، وأبو عاقلة إدريس إسماعيل ، وعبد الرحيم حسن حمزة الذين ألقبهم بلات الشعر الحديث وعُزَّاه ومَناته في السودان. وهنالك أيضاً من الشعراء الشباب الأفذاذ: محمد عبد الواحد ، وعماد محمد بابكر ، وبحر الدين عبد الله ، وابتهال مصطفى ، وإيمان آدم ، وكثيرون غيرهم. على أنَّ ما لا يُدرك جلّه ، لا يُترك كله. والتحية والتقدير الجزيلين من بعد ، للأستاذ عبد المنعم عجب الفيا على هذا السفر المفيد والممتع حقا.

 

آراء