كذبة مجانية التعليم في السودان !!
محمد عثمان (دريج)
2 August, 2022
2 August, 2022
هل حقيقة كان التعليم مجاناً في السودان في كل مراحله، على الاقل حتى قيام إنقلاب الاخوان المسلمين في يونيو 1989؟
قد يندهش الكثيرون لمجرد طرح مثل هذا التساؤل، و بخاصة من شخص لم "يدفع" هو شخصيا مليما واحدا خلال كل سنوات دراسته التي امتدت من المرحلة الابتدائية وحتى الجامعية!
نقول، للاسف مجانية التعليم التي لربما تشدق بها و لا يزال يتشدق بها الكثيرون و بل إحتفلوا بها كحق أصيل من حقوق السودانيين و السودانيات، ليست فقط مجرد كذبة توارثها الناس جيلا بعد جيل، و لكنها جاءت ككذبة تاريخية كُبري لتغطي على حجم التكاليف والأثمان الباهظة و مالآتها الكارثية التي دفعتها و عانت منها غالبية شعوب السودان. و كما ذكرنا آنفا، حتى وقت قريب لا يدفع التلاميذ أو الطلبة قرشاً واحدا مقابل الالتحاق بالمؤسسات التعليمية في كل مراحلها و بل تدفع الدولة لهم تكاليف المسكن و المأكل و حتى العلاج. إذن فمن أين جاءت تلك التكلفة الباهظة و تلك المآلات الكارثية؟
نقول، النظام التعليمي في السودان نهض على إلغاء و إحتقار ثقافات و لغات و ديانات الكثير من شعوب جمهورية السودان المنتشرة في جميع أطرافه. ولقد تم هذا الإلغاء المُتعمّد و هذا الاحتقار الواعي مع سبق الإصرار و الترصد بغرض فرض نسيان أبدي لكل ثقافة أو حضارة لا تتماشى رؤاها و فضاءاتها الدلالية و قيمها و طقوسها الأخلاقية/الثقافية و اقتصادها اللغوي و الاجتماعي مع تصورات وأحلام و تطلعات بُناة "القومية السودانية". هؤلاء البُناة الأوائل كانوا (ولا يزال أبناؤهم و بناتهم) يرون إلى أن للحضارة "الإنسانية" مساراً واحداً أحد ذلك الذي يمرّ عبر بوابة العروبة و الإسلام، و بالتحديد نُسختهم لماهية "العروبة" و لماهية "الإسلام". نعم لقد نهض النظام التعليمي في السودان على جماجم ضحايا التطهير الثقافي والحضاري المعرقن، والأدلة على ذلك كثيرة و متنوعة و متعددة و لا يمكن حصرها ابدا. و لكننا نحاول هنا أن نقدم مثالا واحدا يتعلق بسؤال اللغة و ذلك لأهميتها و مساهمتها الكبيرة في تشكُّل وعي الافراد و رؤاهم و علاقاتهم بذواتهم و مع العالم المادي و المعنوي من حولهم. و من هذا المنطلق، أقول، لا زلتُ أذكر على نحو بيّن و ربما يذكر الكثيرون كذلك، في المرحلة المتوسطة (زالنجي الاميرية) على وجه التحديد، كيف كان يتم عقاب الطلاب عن طريق الجلد الوحشي خلال طابور الصباح بشكل يومي و راتب بسبب اللغة! ففي كل صباح يستدعي الاستاذ المشرف على الطابور التلميذ الذي في معيته "السوط المُخ"_ كان هذا هو لقب تلك الأداة المرعبة_ فيخرج من بين الصفوف تلميذ لا حول ولا قوة له تتابعه نظرات التلاميذ المشفقة والهلعة وهو منكس الرأس و منكسر الخاطر و مرتجفا يحمل السوط (الكُرباج) المُخيف و المنسوج من جلود الحيوانات و يُسلمه لمشرف الطابور و الذي سرعان يستدعي طالبين من ذوي الأحجام الضخمة للإمسال بالطالب من يديه و رجليه حتى يبدو معلقا في الهواء (محليا تسمى شيلة الفرّيه)، لينبري المدرس بعد ذلك في جلد التلميذ المسكين بوحشية و كأنه بصدد أداء مهمة مقدسة أو قل هي كذلك. و تبدأ القصة مباشرة بعد إنتهاء اليوم الدراسي حيث يقوم أحد مشرفي الداخليات من الاساتذة بتسليم السوط سيئ السمعة كعُهدة ثمينة لاحد رؤساء الداخليات من الطلبة و الذي تنتهي مهمته المقدسة بتسليمها لأول شخص يصادفه مُستخدماً لغته المحلية في المخاطبة، ثم يقوم هذا الشخص من الخوف في البحث عن شخص آخر ليسمله السوط و هكذا إلى أن تنتهي العهدة المقدسة عند الضحية الاخيرة التي ينتهي بها الأمر إلى الصلب في طقس الفريّه المذكور آنفاً. و لقد عرفتُ من أصدقاء كُثر ينتمون إلى أماكن اخرى من السودان بحدوث نفس الطقس القهري ايضا في مناطقهم المختلفة. و لعله من النتائج المباشرة لهذا القهر المُمنهج هي هروب الكثيرين ممن ينتمون لهذه الشعوب من النظام التعليمي الرسمي. و لا يُمثل طقسُ إلغاء الذات المُشار إليه هنا إلاّ شذرة من شذور الاثمان الباهظة التي دفعها الكثير من شعوب السودان في مقابل دفعهم إلى الانخراط التعسّفي في " قومية" الدولة عبر مؤسستها الآيدولوجية الأكثر تأثيراً و كذباً، الا و هي المؤسسة التعليمية. يرفض الكثيرون التعامل مع أجهزة الدولة المختلفة كالمستشفيات أو المحاكم إلاّ عند الضرورة القُصوى لسوء المعاملة و عدم وجود خدمات ترجمة (فاللغات غير العربية غير مُعترف بها داخل هذه المؤسسات) و يبدو أن مثل هذه الممارسة لم تكن قط منعزلة، بل كانت منتشرة بصورة كبيرة داخل المستعمرات البريطانية على وجه الخصوص. و لعل فضيحة المدارس السكنية في كندا تُعتبرمثالا صارخا لتلك الفظائع و الأثمان الباهظة التي دفعتها بعض الشعوب حتى تحظى ببطاقة الانتماء لقومية القوى المُهيمنة و المُتحكّمة. نعم كانت الدولة الكندية ممثلة في الكنيسة الكاثولوكية، وحتى وقت قريب جداً، كانت تدفع تكاليف الإعاشة و السكن و الصحة لهؤلاء الاطفال الذين يتم اخذهم عُنوة من أهاليهم تحت ذريعة مدهم بالحضارة و المدنية، و لكن سرعان ما ينتهي الامر بهؤلاء الأطفال الأبرياء إلى تعرضهم لأبشع أنواع الإنتهاكات البدنية و الجنسية و النفسية، و طمسهم و إلغائهم ثقافيا و أخيرا وليس آخرا تعرضهم لعمليات قتل ممنهجة تنتهي بإخفاء جثثهم عن ذويهم، الشيئ الذي تم اكتشافه مؤخرا في مواقع عديدة في غرب كندا مما إستدعى إلى أن يقوم بابا الفاتيكان "هيمسلف" بالسفر إلى كندا لزيارة تلك المواقع و تقديم اعتذار عن أفعال كنيسته وحكومة تلك الأيام"، على حد قوله. إذن، في ظل هذه الظروف و الملابسات هل يمكننا أن نقول بأن التعليم في كندا بالنسبة للسكان الأصليين كان مجاناً؟ أبدا لا. الوضع لا يختلف ابدا عندنا في السودان فالعقلية التي هنّدسة نظام المدارس السكنية في كندا (أحادية الرؤى و المصب) هي ذاتها تلك التي وضعت فلسفة التعليم في السودان ليقوم أربابها من الافندية الإسلام-عروبيين بعد ذلك بتعضيض ومواصلة ذات الممارسة تحت غطاء مجانية التعليم الكاذب.
--
zalingy@gmail.com
قد يندهش الكثيرون لمجرد طرح مثل هذا التساؤل، و بخاصة من شخص لم "يدفع" هو شخصيا مليما واحدا خلال كل سنوات دراسته التي امتدت من المرحلة الابتدائية وحتى الجامعية!
نقول، للاسف مجانية التعليم التي لربما تشدق بها و لا يزال يتشدق بها الكثيرون و بل إحتفلوا بها كحق أصيل من حقوق السودانيين و السودانيات، ليست فقط مجرد كذبة توارثها الناس جيلا بعد جيل، و لكنها جاءت ككذبة تاريخية كُبري لتغطي على حجم التكاليف والأثمان الباهظة و مالآتها الكارثية التي دفعتها و عانت منها غالبية شعوب السودان. و كما ذكرنا آنفا، حتى وقت قريب لا يدفع التلاميذ أو الطلبة قرشاً واحدا مقابل الالتحاق بالمؤسسات التعليمية في كل مراحلها و بل تدفع الدولة لهم تكاليف المسكن و المأكل و حتى العلاج. إذن فمن أين جاءت تلك التكلفة الباهظة و تلك المآلات الكارثية؟
نقول، النظام التعليمي في السودان نهض على إلغاء و إحتقار ثقافات و لغات و ديانات الكثير من شعوب جمهورية السودان المنتشرة في جميع أطرافه. ولقد تم هذا الإلغاء المُتعمّد و هذا الاحتقار الواعي مع سبق الإصرار و الترصد بغرض فرض نسيان أبدي لكل ثقافة أو حضارة لا تتماشى رؤاها و فضاءاتها الدلالية و قيمها و طقوسها الأخلاقية/الثقافية و اقتصادها اللغوي و الاجتماعي مع تصورات وأحلام و تطلعات بُناة "القومية السودانية". هؤلاء البُناة الأوائل كانوا (ولا يزال أبناؤهم و بناتهم) يرون إلى أن للحضارة "الإنسانية" مساراً واحداً أحد ذلك الذي يمرّ عبر بوابة العروبة و الإسلام، و بالتحديد نُسختهم لماهية "العروبة" و لماهية "الإسلام". نعم لقد نهض النظام التعليمي في السودان على جماجم ضحايا التطهير الثقافي والحضاري المعرقن، والأدلة على ذلك كثيرة و متنوعة و متعددة و لا يمكن حصرها ابدا. و لكننا نحاول هنا أن نقدم مثالا واحدا يتعلق بسؤال اللغة و ذلك لأهميتها و مساهمتها الكبيرة في تشكُّل وعي الافراد و رؤاهم و علاقاتهم بذواتهم و مع العالم المادي و المعنوي من حولهم. و من هذا المنطلق، أقول، لا زلتُ أذكر على نحو بيّن و ربما يذكر الكثيرون كذلك، في المرحلة المتوسطة (زالنجي الاميرية) على وجه التحديد، كيف كان يتم عقاب الطلاب عن طريق الجلد الوحشي خلال طابور الصباح بشكل يومي و راتب بسبب اللغة! ففي كل صباح يستدعي الاستاذ المشرف على الطابور التلميذ الذي في معيته "السوط المُخ"_ كان هذا هو لقب تلك الأداة المرعبة_ فيخرج من بين الصفوف تلميذ لا حول ولا قوة له تتابعه نظرات التلاميذ المشفقة والهلعة وهو منكس الرأس و منكسر الخاطر و مرتجفا يحمل السوط (الكُرباج) المُخيف و المنسوج من جلود الحيوانات و يُسلمه لمشرف الطابور و الذي سرعان يستدعي طالبين من ذوي الأحجام الضخمة للإمسال بالطالب من يديه و رجليه حتى يبدو معلقا في الهواء (محليا تسمى شيلة الفرّيه)، لينبري المدرس بعد ذلك في جلد التلميذ المسكين بوحشية و كأنه بصدد أداء مهمة مقدسة أو قل هي كذلك. و تبدأ القصة مباشرة بعد إنتهاء اليوم الدراسي حيث يقوم أحد مشرفي الداخليات من الاساتذة بتسليم السوط سيئ السمعة كعُهدة ثمينة لاحد رؤساء الداخليات من الطلبة و الذي تنتهي مهمته المقدسة بتسليمها لأول شخص يصادفه مُستخدماً لغته المحلية في المخاطبة، ثم يقوم هذا الشخص من الخوف في البحث عن شخص آخر ليسمله السوط و هكذا إلى أن تنتهي العهدة المقدسة عند الضحية الاخيرة التي ينتهي بها الأمر إلى الصلب في طقس الفريّه المذكور آنفاً. و لقد عرفتُ من أصدقاء كُثر ينتمون إلى أماكن اخرى من السودان بحدوث نفس الطقس القهري ايضا في مناطقهم المختلفة. و لعله من النتائج المباشرة لهذا القهر المُمنهج هي هروب الكثيرين ممن ينتمون لهذه الشعوب من النظام التعليمي الرسمي. و لا يُمثل طقسُ إلغاء الذات المُشار إليه هنا إلاّ شذرة من شذور الاثمان الباهظة التي دفعها الكثير من شعوب السودان في مقابل دفعهم إلى الانخراط التعسّفي في " قومية" الدولة عبر مؤسستها الآيدولوجية الأكثر تأثيراً و كذباً، الا و هي المؤسسة التعليمية. يرفض الكثيرون التعامل مع أجهزة الدولة المختلفة كالمستشفيات أو المحاكم إلاّ عند الضرورة القُصوى لسوء المعاملة و عدم وجود خدمات ترجمة (فاللغات غير العربية غير مُعترف بها داخل هذه المؤسسات) و يبدو أن مثل هذه الممارسة لم تكن قط منعزلة، بل كانت منتشرة بصورة كبيرة داخل المستعمرات البريطانية على وجه الخصوص. و لعل فضيحة المدارس السكنية في كندا تُعتبرمثالا صارخا لتلك الفظائع و الأثمان الباهظة التي دفعتها بعض الشعوب حتى تحظى ببطاقة الانتماء لقومية القوى المُهيمنة و المُتحكّمة. نعم كانت الدولة الكندية ممثلة في الكنيسة الكاثولوكية، وحتى وقت قريب جداً، كانت تدفع تكاليف الإعاشة و السكن و الصحة لهؤلاء الاطفال الذين يتم اخذهم عُنوة من أهاليهم تحت ذريعة مدهم بالحضارة و المدنية، و لكن سرعان ما ينتهي الامر بهؤلاء الأطفال الأبرياء إلى تعرضهم لأبشع أنواع الإنتهاكات البدنية و الجنسية و النفسية، و طمسهم و إلغائهم ثقافيا و أخيرا وليس آخرا تعرضهم لعمليات قتل ممنهجة تنتهي بإخفاء جثثهم عن ذويهم، الشيئ الذي تم اكتشافه مؤخرا في مواقع عديدة في غرب كندا مما إستدعى إلى أن يقوم بابا الفاتيكان "هيمسلف" بالسفر إلى كندا لزيارة تلك المواقع و تقديم اعتذار عن أفعال كنيسته وحكومة تلك الأيام"، على حد قوله. إذن، في ظل هذه الظروف و الملابسات هل يمكننا أن نقول بأن التعليم في كندا بالنسبة للسكان الأصليين كان مجاناً؟ أبدا لا. الوضع لا يختلف ابدا عندنا في السودان فالعقلية التي هنّدسة نظام المدارس السكنية في كندا (أحادية الرؤى و المصب) هي ذاتها تلك التي وضعت فلسفة التعليم في السودان ليقوم أربابها من الافندية الإسلام-عروبيين بعد ذلك بتعضيض ومواصلة ذات الممارسة تحت غطاء مجانية التعليم الكاذب.
--
zalingy@gmail.com